[تعمل ”جدلية“ على نشر مقاطع من أعمال ومقالات أدباء وشخصيات نتناول سيرتها في ”ملف من الأرشيف“. في هذا الأسبوع، نتناولسيرة الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط. تقدم “جدلية” في هذا المقال مقاطع من قراءة تحلل سمات وعلائم فن شموط، قام بها الفنان التشكيلي ومؤرخ الفن الفلسطيني كمال بلاطة. (والذي سوف تكون لنا قريباً وقفة عند أعماله كذلك). يذكر أن بلاطة دأب على مدى عقود على دراسة وتأريخ الفن التشكيلي الفلسطيني. مصدر المادة أدناه من فصل بعنوان "الذاكرة تتّخذ جسداً" من كتاب: كمال بُلاّطة، "استحضار المكان – دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر"، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الطبعة الأولى 2000]
تميّز إسماعيل شمّوط خلال مسيرته الفنية، عن أبناء جيله بأنه من المواهب الفلسطينية القليلة التي نجحت في المزاوجة بين مسؤوليات الوظيفة والطموحات التعبيرية. فبقدر ما كان عمله في تأسيس قسم الثقافة الفنية في منظمة التحرير وإدارته ممثلاً للرسالة التي جسّدها عمله الفني، فقد جاءت لغته التعبيرية لتستمد كافة مكوّناتها التشكيلية من لغة الإيصال التوضيحي التي اتسمت بها الصورة الإعلامية، هذه اللغة التي طالما عمل على صقلها أتناء ممارسته التصوير التوضيحي في القاهرة وبيروت والكويت. وقد جاءت اللوحة الزيتية التي طوّرها شموط، لتستحثّ جيلاً كاملاً من الهواة والموهوبين من أهالي المخيم الفلسطيني الذين وإن حرموا من الاطلاع على عالم الفن أو التخصص بدراسته، فذلك لم يمنعهم من تجنيد هواية الرسم لديهم في سبيل الإفصاح عن التزامهم بقضية وطنهم. وكان لقسم الثقافة الفنية في المنظمة الدور المركزي في دعم هذه المواهب اليافعة وتشجيعها وفي تعزيز أهميّتها في إطار الخطاب السياسي الذي رسمته المنظمة.
["رمانة"، زيتية على القماش (1987)]
أما اللغة التعبيرية التي انتهجها اسماعيل شمّوط، فقد استمدت كافة مكوّناتها التشخيصية من الخوافي الذهنية والمتكآت اللغوية المستجمعة من المصطلحات الكلامية السائدة، بحيث كادت الغاية المطلقة للتصوير أن تتقلص إلى طاقة الشكل المصوّر على الترميز والتقنين للمعاني الذهنية، لا للتفاعل الحسي مع خصائص الشكل كما تدركها عين المصور. وقد برز المضمون المشخّص في جسد الإنسان ذي المميزات الريفية الفلسطينية، كعامل مركزي لاحتواء الترميز والتقنين الذي سبق شيوعه في التعبير الكلامي، فيما جاء عنوان العمل تتويجاً إيحائياً لخّص فيه المعنى والغرض الذي ابتغاه الفنان. ومن منطلق هذا الإطار الذي جمع بين التشخيص الفني والتعبير الكلامي، أمكن للّون مثلاً أن يصبح قابلاً لتمثيل المعنى اللغوي المجرد أو أن تتخذ الإيماءة الجسمانية في الجسد المصوّر بعداً مجازياً، كأن يرمز اللون الوردي لسماء الفجر إلى معنى "الغد" أو "الأمل" أو أن تمثّل القبضة المضمومة ليد الإنسان فكرة "العزيمة والإصرار". أما لغته ذات المكوّنات البيانية والإيصالية التي سهل تداول مفرداتها القاموسية الجاهزة، فقد قام شمّوط بتوظيف حبكتها في خدمة الإعلام عن قضية وطنه المفقود. وخلافاً للموضوعات التي استخرجها معلمه داود زلاطيمو من كتب التاريخ العربي كسقوط الأندلس مثلاً، للتذكير بواسطة مجازها الأيقوني باللحظة الراهنة من تاريخ الوطن الذي كان آنذاك مهدداً بالضياع، فقد استقى شموط مفاتيح ايحاءاته التصويرية من تفاصيل المكان المحيط به في عالم المخيم. فجاءت مسيرة هذا الرائد من أهالي المخيم الفلسطيني لتجتاز الحدود التي وضعها معلمه المقدسي، ورسمت أعماله معنى الانتماء إلى وطن سليب، توقف فيه الزمن يوم الرحيل، كما تحجّر في المكان في صورة ذهنية بكاها شعراء المرحلة. أما التذكير بالماضي الذي توقفت فيه عقارب الساعة، كإحياء ذكرى المكان الذي تجمّد في المخيلة، فقد هدفت مكوّناته النموذجية المعالم إلى استجماع القوى ومطالبة المتفرج بالمشاركة في الحملة التي دعت إلى عودة اللاجئين إلى ديارهم وتحرير الوطن من محتلّيه.
["إلى أين؟"، زيتية على القماش (1953)]
فمن خلال لوحاته التي اتسمت بالإفصاح حيناً وبالتضمين حيناً آخر، لم ينفك شمّوط عن تصوير الخروج من المكان الفلسطيني في لوحات حملت عناوينها التوضيحية معاني طالما تكرّرت في أذهان الناس وفي تجربة الفنان مثل عنوان لوحة "إلى أين؟" (1953) أو "هنا كان أبي" (1957) أو "العطش على الطريق من اللّد والرملة" (1998). وكذلك جاءت لوحاته المستوحاة من عالم المخيم دعوة إلى تأمل معنى الانتظار الجماعي في لوحات لخّصت عناوينها تقنين الفنان للمرئيات المحيطة بالمكان المؤقت، كاللوحة التي حملت عنوان "ذكريات ونار" (1956) أو "انتظار الفجر" (1987) أو "بقايا الرحيل" (1983) أو "سنعود" (1954) أو "ثلاثة حواديث" (1970) أو "الحياة مستمرّة" (1957) أو "عروسان على الحدود" (1962). ومهما مضى من زمان ومهما تحوّل مكان إقامة الفنان، فإن شموط لم يكن يعنيه ما يحيط به من مرئيات إلا بقدر ما أوحى له ذلك من متابعة تسخير موهبته الفنية لرسم لوحات زيتية كان هدفها حثّ المشاهد للتعاطف مع قضية الشعب المقتلع وتأييد النضال من أجل عودته إلى أرضه.
["عروسان على الحدود" (1962)]
وانطلاقاً من غرضه المركزي هذا، جاءت لوحات شمّوط لتؤرّخ المسيرة الفلسطينية من خلال تشخيص إيضاحي تغيّر مضمونه وفق الخطاب السياسي الفلسطيني والحرارة التي أثارها حدث الساعة. فإن مثّلت موضوعات أعماله الزيتية الأولى صوراً من معاناة الشعب المشرد التي شملت الشيخ القنوط والأم الحزينة والطفل الجائع، فقد لحقتها أعمال أشادت بصورة الفدائي وبندقيّته والشهيد المضرّج بدمائه والتفاف الوجوه النموذجية المختلفة حول علم البلاد ورموز الوطن، علاوة على لوحات صوّرت العالم الوردي الذي تخيّله الفنان وقد هبّ احتفالاً بتحرير الأرض. تلك الأرض التي كانت محور موضوعاته ومضمون رسالته البيانية طوال مسيرته الفنية، فإنه عندما لم يرمز إلى صورتها بالجسد النموذجي للفلاحة الفلسطينية التي تحلّت بثوبها المطرّز، يختزل المكوّنات التشكيلية لتلك الأرض إلى أنماط نموذجية مؤسلبة من الإشارات الطبيعية المتخيلة للمكان، وفي أحيان أخرى يكتفي الفنان بالإشارة، في خلفية لوحته، إلى ذلك المكان الحبيب، من خلال الشكل الجغرافي لخارطة فلسطين.