["إذا أردنا أن نضرب المجتمع الجزائري في صميم بنيته وفي قدرته على المقاومة، فيجب علينا قبل كل شيء كسب النساء، ويجب علينا السعي للبحث عنهن خلف الحجاب حيث يتوارين، وفي المنازل حيث يخفيهن الرجل"، لم تكن هذه المقولة للمستعمِر الفرنسي التي يأتي فرانز فانون على ذكرها في مقدمة مقالته "الجزائر تلقي الحجاب"، سوى واحدة من ترددات سياسة التدمير الثقافي التي اتّبعها الاستعمار في الجزائر لتفكيك المجتمع وتفتيته، مستهدفاً أحد أركانه الأساسية لا سيّما وقد كانت المرأة الجزائرية ركيزة أساسية في نضال مجتمعها ضد الاستعمار. وشكّل الحجاب الذي ارتدته نساء المدن تحديداً واحداً من المواقع الأساسية التي استهدفها الاستعمار الثقافي الفرنسي، وبالتالي فقد كان موقعاً ارتبط لدى الجزائرية والجزائري بالمقاومة ضد هذا الاستعمار. نأتي هنا بمقاطع من مقالة "الجزائر تلقي الحجاب" للمحلل النفسي المارتينيكي فرانز فانون، الذي انخرط في صفوف ونضال جبهة التحرير الوطني الجزائرية في العام 1955 وكان محرراً لجريدة "المجاهد" التي أًصدرتها الجبهة. فرانز فانون، العامالخامسللثورةالجزائرية، ترجمة: ذوقان قرقوط، دار الفارابي، 2004]
الجزائرتلقيالحجاب
[...]
وقد رأينا أن الاستراتيجية الاستعمارية لتفتيت المجتمع الجزائري قد خصَّت، على مستوى الأفراد، المرأة الجزائرية بمكانة من الدرجة الأولى. وسوف يحدث السعي المستميت الذي يبذله المستعمِر وطرق كفاحه بصورة طبيعية، ألواناً من السلوك، لدى المستعمِر متسمة بردود الفعل. وهكذا يجد المستعمَر نفسه وهو يواجه عنف المحتل، مدفوعاً إلى تحديد موقف مبدئي من عنصر، كان فيما مضى عديم الأثر، في شكل الثقافة المحليّة الظاهري. فإن استماتة المستعمِر في تصميمه على نزع الحجاب عن المرأة الجزائرية ورهانه لكسب النصر مهما كلف الأمر في معركة السفور، هما المسألتان اللتان ستثيران ردّ فعل انطوائي لدى المواطن الأصلي. وعلى ذلك فإن الموقف العدائي المتعمّد الذي يقفه المستعمِر من الحايك يعطي لهذا العنصر الميت حياة جديدة وهو العنصر من المخزون الثقافي الجزائري الذي تجمّد فلم يتغيّر شكله ولا اكتسب ألواناً جديدة. وهنا نعثر على قانون من قوانين علم النفس الخاصة بالاستعمار. وهو أن الفعل ومشاريع المحتل هي التي تحدد، في المرحلة الأولى، مراكز المقاومة التي تتنظم حولها إرادة البقاء في شعب ما.
إن الأبيض هو الذي يخلق الزنجي. ولكن الزنجي هو الذي يخلق الزنوجة. ورداً على الروح العدائية الاستعمارية حول الحجاب فإن المستعمَر ينمي التعلق بالحجاب وما كان عنصراً لا نصيب له من الاكتراث في مجموع متجانس، إذا به يكتسب صفة التابو لذلك فإن موقف هذه الجزائرية أو تلك من الحجاب سوف يُربط باستمرار بموقفها الكلي من الاحتلال الأجنبي. فالمستعمَر، أمام استهداف المستعمِر لهذا القطاع من تقاليده أو ذاك يَرّد بطريقة عنيفة جداً. إن الاهتمام الذي يبذله المستعمِر لتعديل هذا القطاع، والاندفاع الذي يميّزه في عمله التربوي وتوسلاته ووعيده للدفع إلى التخلّي عن هذا العنصر أو ذاك، كل هذا ينسج حول ذلك العنصر المميز عالماً حقيقياً من المقاومات. ذلك أن الصمود في وجه المحتل إزاء هذا العنصر المحدد معناه إلحاق فشل ذريع به ومعناه بخاصة أن تبقى ((للتعايش)) أبعاده في الصراع وفي الحرب المستترة. وهذه هي المحافظة على جو السلم المسلح.
سوف يتبدل موقف المرأة الجزائرية ومجتمع السكان الأصليين، بخصوص الحايك، تبدّلاً هاماً بمناسبة كفاح التحرير. وتكمن أهميّة هذه التجديدات في كونها لم تكن موضوعة في أية لحظة في برنامج الكفاح. فلم تلح أبداً نظرية الثورة واستراتيجيتها على ضرورة إعادة النظر في ألوان السلوك إزاء الحجاب. ويمكن التأكيد من الآن فصاعداً أن مثل هذه المسائل لن تثار في الجزائر المستقلة. ذلك أن الشعب قد أدرك في الممارسة الثورية، أن المسائل تحل في خضمّ الحركة ذاتها التي تطرحها.
فقد أديرت المعركة حتى عام 1955 من قبل الرجال فحسب. إذ أن الخصائص الثورية المميزة لهذه المعركة وضرورة السرِّية المطلقة ألزمت المناضل على إبقاء زوجته في جهل من ذلك جهلاً مطبقاً. وقد نجمت صعوبات جديدة، تتطلب حلولاً مبتكرة بحسب تكيُّف العدو المتتابع مع أشكال المعركة. ولم يتخذ قرار إشراك النساء الجزائريات كعناصر فعالة في الثورة الجزائرية من دون تروّ. وبمعنى ما فإن مفهوم المعركة نفسه هو الذي كان يجب أن يعدل. فإن عنف المحتل ووحشيته وتمسكه الجنوني بالأرض الوطنية، كل هذا قد أوصل القادة إلى عدم استبعاد بعض أشكال الصراع. وبالتدريج فإن الشعور بضرورة الحرب الشاملة قد فرض نفسه. ولكن تجنيد النساء لا ينطبق على الرغبة في تعبئة مجموع الأمة فحسب. يجب المزج مزجاً متآلفاً، ما بين دخول النساء الحرب من جهة، واحترام نمط الحرب الثورية من جهة أخرى. بمعنى آخر يجب على المرأة أن تتحلى بنفس روح التضحية التي يتحلّى بها الرجال. فمن الواجب إذن منحها الثقة نفسها التي نتطلبها في حال المناضلين المجرّبين والذين عرفوا السجون عدة مرات. ويجب إذن أن نطلب من المرأة روحاً معنوية عالية وقوة سيكولوجية فريدتين. ولم يخل الأمر من مواقف التردد. فلقد كانت دواليب العمل الثوري قد اتسع نطاقها إلى حدّ بعيد وأخذت آلة الحرب تسير بإيقاع معيَّن. الأمر الذي يستوجب تعقيد الآلة أعني زيادة شبكاتها بدون إضعاف قوة تأثيرها. ولم يكن بالإمكان النظر إلى النساء باعتبارهن فئة بديلة وإنما كعنصر قادر تمام القدرة على مواجهة المهمات الجديدة.
كانت النساء في الجبال يساعدن الثائرين عندما يحطون الرحال أو يقضون نقاهتهم على أثر جرح أو إصابة تيفوئيد. غير أن التقرير بضم المرأة إلى الحلقة الرئيسية وجعل الثورة مرتبطة بوجودها وبعملها في هذا القطاع أو ذاك كان بداهة موقفاً ثورياً تماماً. فلقد كان إرساء الثورة، من ناحية ما، على فاعليتها، اختياراً هاماً.
***
وابتداءاً من فترة معينة أخذ الشك يشقّ طريقه إلى فكر جزء من الشعب الذي أصبح يتساءل فيما إذا كان حقاً يمكن الصمود كمّاً وكيفاً في وجه هجمات المحتل.
هل تستحق الحرية الانخراط من أجلها في دوامة الإرهاب والإرهاب المضاد الهائلة؟ ألا يعبِّر عدم التناسب عن استحالة التخلص من الاضطهاد؟
بيد أن جزءاً آخر من الشعب قد نفذ صبره وهو يريد وقف هذه الغلبة التي يحصل عليها العدو بطريق الإرهاب. فلم يعد بالإمكان استبعاد القرار بضرب الخصم فردياً وبالإسم، إن دم جميع المعتقلين الذين ((قتلوا وهم يحاولون الفرار)) وصراخ الذين أعدموا، يطالب بإلحاح بتبني أشكال جديدة في المعركة.
ولسوف يكون رجال البوليس وأماكن تجمع المستعمِرين (المقاهي، في مدينة الجزائر ووهران وقسنطينة) الهدف في البداية. ومنذ ذلك الحين انخرطت الجزائرية بعناد في العمل الثوري وبكامل قواها. فهي تنقل في حقيبة يدها القنابل اليدوية والمسدسات التي سوف يتناولها الفدائي في اللحظة الحاسمة أمام البار، أو عند مرور المجرم المطلوب، وأثناء هذه الحقبة، كان الجزائريون الذين تفاجئهم الحوادث وهم في المدينة الأوروبية يوقفون ويستجوبون بلا رحمة ويفتشون.
ولهذا السبب يجدر بالمرء أن يتتبع ذلك الرجل وتلك المرأة، أحدها بموازاة الآخر، هذا الزوج الذي يحمل الموت إلى العدو والحياة إلى الثورة. الواحد منهما يسند الآخر بينما يكون أحدهما، في الظاهر غريباً عن الآخر. المرأة وقد تحوَّلت تماماً إلى أوروبية ، سهلة الحركة وطليقة المشية لا يُستَرابُ بها، مندمجة في البيئة، والآخر غريب متوتّر يمشي نحو قدره.
وعلى نقيض المختلّين الفوضويين، الذين روّج لهم الأدب، فإن الفدائي الجزائري لا يتعطى المخدر. فما بالفدائي من حاجة لأن يتجاهل الخطر، ولأن يموِّه على ضميره أو يتناسى. فما أن يقبل ((الإرهابي)) القيام بمهمة ما، حتى يترك الموت ينساب إلى روحه. ذلك أنه يضرب موعداً منذ ذلك الحين مع الموت. أما الفدائي نفسه، فإن موعده يكون مع حياة الثورة وحياته ذاتها. إن الفدائي لايضحَّى به. وهو لا يتراجع حقيقة، أمام احتمال فقدانه لحياته من أجل استقلال الوطن، ولكنه، في أية لحظة من لحظات حياته لا يختار الموت.
وإذا كان القرار قد اتُّخذ بقتل ذلك الرئيس للشرطة كأداة للتعذيب أو ذلك الزعيم الاستعماري فإنما ذلك يكون لأن مثل هؤلاء الرجال يشكلون عقبة أمام تقدم الثورة. إن فروجير (Froger) مثلاً يرمز إلى تقليد استعماري وطريقة قد نشأت في مدينتي سطيف وقالمة عام 1954(1). بالإضافة إلى أن قوة فروجير المزعومة تبلور عملية الاستيطان وتعيد الأمل لأولئك الذين بدأوا يشكّكون في حقيقة صلابة النظام. ذلك أنه من حول رجال مثل فروجير يتجمع اللصوص وسفاحو الشعب الجزائري يشد بعضهم أزر بعض. والفدائي يعرف هذا حق المعرفة وكذلك تعرفه المرأة التي ترافقه، المرأة مستودع الأسلحة. إن المرأة الجزائرية السافرة، وهي تنقل مسدسات وقنابل يديوية ومئات من بطاقات الهوية المزورة أو القنابل، تتحرّك كالسمكة في المياه الغربية. يبتسم لها العسكريون وتبتسم لها الدوريات الفرنسية وهي مارَّة. ومن هنا وهناك ترشقها الاطراءات حول مظهرها ولكن أحداً لا يشك أن في حقائبها يقبع المسدس – الرشاش الذي سوف يحصد عما قليل أربعة أو خمسة من أفراد إحدى الدوريات.
حريّ بنا أن نعود إلى هذه الشابة الصغيرة، التي نزعت الحجاب بالأمس، والتي تتقدم في المدينة الأوروبية التي يخترقها رجال الشرطة والمظليون والجنود، إنها لم تعد تمشي في ظل الحيطان كما كان ينزع بها الميل لمثل ذلك قبل الثورة. إذا كانت الجزائرية مدفوعة باستمرار للاحتجاب من أمام عضو المجتمع المسيطر، تتجنب السير في وسط الرصيف الذي يعود حق السير فيه في جميع بلاد العالم إلى الذين يحكمون.
إن كتفي الجزائرية السافرة بارزان، والمشية رشيقة، مدروسة: فلا هي بالسريعة جداً ولا بالبطيئة جداً. والساقان عاريتان، لا يأسرهما حجاب بل طليقتان، والردفان ((للهواء الطلق)).
إن الفتاة الجزائرية في المجتمع التقليدي، تكشف جسدها بأهليتها للزواج وبالحجاب، والحجاب يستر الجسد ويهذبه ويعدله في ذات الفترة التي يعرف فيها أكثر مراحله تفتحاً واندفاعاً. والحجاب يحمي ويطمئن ويعزل. ولكي يقدِّر المرء أهمية الحجاب في جسد المرأة المستيقظ يجب أن يكون قد استمع لاعتراف الجزائريات أو حلل مادة الأحلام لدى بعض حديثات العهد في السفور. إنه انطباع عن جسد ممزق، مقذوف خارج طريقه، تبدو الأعضاء فيه تستطيل إلى ما لا نهاية. فعندما تضطر الجزائرية إلى اجتياز أحد الشوارع فإنها تبقى، لمدة طويلة، وهي تخطئ تقدير المسافة التي يجب عليها أن تقطعها، تقديراً صحيحاً. ويبدو الجسم الذي ينزع الحجاب، أنه قد أفلت، وأنه ينطلق أعضاء متفرقة. أو يشعر بأنه غير مكتمل اللباس، وحتى إنه عارٍ. شعور بالنقص يعتلج في النفس على نحو حاد. مذاق مضطرب بشيء لم يتمّ. وتحسس مخيف بأن المرء يتفكك. فإن غياب الحجاب يفسد سيماء الجزائرية الجسدي. والأمر يقتضيها بسرعة اختراع أحجام جديدة لجسدها، ووسائل جديدة للمراقبة العضلية، ويقتضيها الأمر أن تخلق لنفسها مشيئة امرأة سافرة في الخارج. فعليها أن تهزم الخجل وتتغلب على الارتباك (إذ يجب عليها أن تكون كالأوروبية) مع تجنب المبالغة، وزيادة التبرج وهو أمر يجذب الانتباه. فإن الجزائرية التي تدخل المدينة الأوروبية، عادية تماماً، تتعرف على جسدها من جديد وتعيد تركيز حركاته بطريقة ثورية تماماً. هذا الديالكتيك الجديد للجسد وللعالم هو رئيسي في حالة المرأة (2).
إلا أن الجزائرية لا تكون في صراع مع جسدها فحسب. فهي حلقة، أساسية في بعض الأحيان، في الآلة الثورية. تحمل السلاح، تعرف مخابئ هامة. وعلى ضوء الأخطار الملموسة التي تواجهها يجب أن تتفهم الانتصارات بعيدة المنال التي أحرزتها لكي تستطيع القول للمسؤول عنها عند عودتها: ((نفذت المهمة)) (3).
[معركة الجزائر، إخراج: جيلو بونتيكورفو (1966)]
[يُظهر الفيلم المهمات النضالية التي قمنَّ بها الجزائريات كما يصفها فانون في المقاطع أعلاه]
***
حجاب يخلع ثم يعاد، وحجاب يستخدم كآلة يحول إلى فن في التمويه ووسيلة للكفاح. وهكذا تختفي الصفة العالقة بالحجاب التي كانت في ظل الوضع الاستعماري قريبة الشبه بالتابو، إختفاء يكاد يكون تاماً أثناء كفاح التحرير. وحتى الجزائريات غير المندمجات فعلياً في الكفاح قد أخذن بعادة الاقلاع عن الحجاب. صحيح أن الحجاب في بعض الظروف، وبخاصة منذ العام 1957 قد عاد إلى الظهور، ذلك أن المهمات قد صارت في الواقع، تزداد صعوبة. إذ أن الخصم قد أصبح يعلم، من اعترافات بعض المناضلات تحت التعذيب، أن نساء يتحلين بأحدث مظهر أوروبي يلعبن دوراً أساسياً في المعركة. بالإضافة إلى أنه قد تم توقيف بعض الأوروبيات من الجزائر، واختلط الأمر على الخصم الذي يتبين بأن جهازه نفسه أخذ يتداعى. ولقد كان اكتشاف السلطات الفرنسية أمر مشاركة الأوروبيات في كفاح التحرير، يوماً من أيام الثورة الجزائرية ومنذ ذلك اليوم، أصبحت الدوريات الفرنسيّة توقف كل شخص وأصبح الأوروبيون والجزائريون على حد سواء متهمين. وتبددت الحدود التاريخية واختفت، وصار يطلب من كل من يحمل رزمة فضَّها وإبراز محتواها. وأصبح كائن من كان يستطيع طلب الحساب من أي كان حول طبيعة الطرد المنقول في مدن الجزائر وفيليب فيل أو باتنة. وبات من الضروري، في هذه الظروف، اختفاء الرزمة عن نظرات المحتل بالائتزار من جديد بالحايك الواقي.
وهنا أيضاً وجبت العودة، مرة أخرى، إلى تعلّم فن جديد. إذ أصبحت مهمتها أن تحمل تحت الحجاب شيئاً ما ثقيلاً إلى حدّ أن المسؤول قال إن من ((الخطر الشديد تحريكه)) وعليها أن تعطي انطباعاً بأن يديها طليقتان ولا يوجد شيء تحت هذا الحايك غير امرأة مسكينة أو فتاة صغيرة لا قيمة لها. فلم يكن الأمر يعني التحجب فقط. يجب أن تصطنع هيئة مثل ((هيئة فاطمة)) توحي للجندي بالاطمئنان وأن هذه ((الفاطمة)) غير قادرة بالتأكيد على عمل أي شيء.
إنه لأمر في منتهى الصعوبة. فهؤلاء هم رجال الشرطة يقفون تماماً على بعد ثلاثة أمتار يستجوبون امرأة محجبة لا تبدو بخاصة أنها مشبوهة، أما القنبلة التي تم تقديرها بالنظر للتعبير المؤثر الصادر عن المسؤول، أو كيس القنابل اليدوية، المربوطة، كلّها بالجسد بواسطة مجموعة من الخيوط والأحزمة. فالأيدي يجب أن تبقى حرة، عارية، بارزة، معروضة بتواضع وبلاهة، للعسكريين لكي يُتَّقى شرّهم. وإظهار الأدي فارغة، وحرّة ومتحركة في الظاهر، تلك هي الإشارة التي تشلّ الجندي العدوّ.
إن جسد الجزائرية، الذي تجرد في المرحلة الأولى، ينتفخ الآن، وبينما كان يجب، في مرحلة سابقة، تهيئة هذا الجسد للاندفاع وصقله في اكتساب الوقار أو باتجاه الاغراء، يجب الآن سحقه وجعله قبيحاً بل جعله أحمق إذا لزم الأمر. تلك هي – كما رأينا – مرحلة. القنابل والقنابل اليدوية والرشاشات.
لقد جاء نبأ ذلك إلى العدو، وإذا بمنظر النساء الجزائريات الكلاسيكي الملتصقات بالحائط، يعود إلى الظهور في الشوارع. تمرر على أجسادهن الكواشف المغناطيسية الشهيرة ((مقلاة التحميص))، وتغدو كل امرأة محجبة وكل جزائرية موضع شبهة. فليس هناك أي تمييز. وهذه المرحلة هي المرحلة التي يجرّب أثناءها الرجال والنساء والأطفال وجميع أفراد الشعب الجزائري مجتمعين، وحدتهم، وميلهم الوطني وإعادة صهر المجتمع الجزائري الجديد.
إن الاستعمار الفرنسي، جاهلاً أو متجاهلاً، هذا السلوك المبدع قد جدد بمناسبة 13 مايو/ماي، حملته الكلاسيكية لجعل المرأة الجزائرية تأخذ بأسباب الحضارة الغربية. فكان أن هدّدت خادمات بالطرد، وجذبن نساء مسكينات من منازلهن، واقتيدت مومسات إلى الساحات العامة لينزع عنهن الحجاب على نحو رمزي، في جوٍّ من الهتافات: ((تحيا الجزائر الفرنسية!)) وأمام هذا الهجوم الجديد عادت ردود الفعل القديمة إلى الظهور. وبصورة عفوية، وبدون أوامر فإن نساء جزائريات، سافرات منذ زمن طويل، عاودن ارتداء الحايك، مؤكدات، هكذا، أن المرأة الجزائرية لا تتحرر بدعوة من فرنسا ومن الجنرال ديغول.
يجب أن نرى دوماً وراء ردود الفعل البسيكولوجية هذه والجواب المباشر المميز قليلاً، موقف الرفض الشامل لقيم المحتل، حتى إذا كان من المفيد من الناحية الموضوعية أن تُختار هذه القيم. ذلك أنه بسبب من عدم اعتبار هذه الحقيقة الفكرية، هذا الاستعداد الطبعي (فتلك هي حساسية المستعمِر المشهورة) يستشيط المستعمرون غضباً لأنهم يضطرون دائماً أن ((يُحسنوا إليهم بالرغم عنهم)). إذ يريد الاستعمار أن يأتي كل شيء من قِبَله. على حين أن بسيكولوجية المستعمَر المهيمنة هي أن ينقبض أمام أية دعوة تأتيه من قبل المحتلّ. وعلى هذا فإن الاستعمار، بتنظيمه لمظاهرة 13 أيار/ماي المشهورة، قد أرغم المجتمع الجزائري على أن يعود مرة أخرى إلى طرق من الكفاح كان قد تجاوزها من قبل. وبمعنى ما فإن الاحتفالات المختلفة قد أحدثت رجوعاً إلى الخلف وتقهقراً.
يجب على الاستعمار أن يقبل بأشياء تفعل من دون رقابته ومن دون إشرافه. ونحن نتذكر الجملة التي تفوه بها رجل سياسي أفريقي في اجتماع دولي. فإن هذا الرجل، رداً على الحجة الكلاسيكية بعدم نضج الشعوب المستعمَرة، وعدم قدرتها على حكم نفسها بنفسها حكماً جيداً، قد طالب للشعوب المتخلّفة: ((بالحق في أن تحكم نفسها على نحو سيء)). إن الميول المذهبيّة للاستعمار في محاولته لتبرير الحفاظ على سيطرته تدفع المستعمَر دوماً تقريباً، إلى دائرة الاقتراحات – المضادة، الصارمة، المتصلبة، الجامدة.
لقد عاد الحجاب إلى الظهور بعد الثالث عشر من أيار/ماي ولكنه، نهائياً، أصبح مجرداً، من بعد التقليدي قصراً.
لقد كانت للحجاب إذن ديناميكية تاريخية، بارزة بصورة ملموسة في انتشار الاستعمار في الجزائر. فالحجاب، كان في البداية آلية في عملية المقاومة، ولكن قيمته، في نظر المجموعة الاجتماعية تبقى قوية. فالتحجب يجري تقليدياً، للفصل الصارم بين الجنسين ((ولكن ذلك يجري لأن المحتل يريد نزع الحجاب في الجزائر)) وفي وقت ثان فإن التبدل يدخل بمناسبة الثورة وفي حالات محددة. لقد تم التخلّي عن الحجاب أثناء العمل الثوري. فإن ما كان مبعثه الاهتمام بإفشال هجمات المحتل البسيكولوجية والسياسية قد أصبح وسيلة، أداة. فالحجاب يساعد الجزائرية على المسائل الجديدة التي يطرحها الكفاح.
إن المبادهة في ردود فعل المستعمَر لا تخطر على بال المستعمِرين. فهي ضروريات المعركة التي تُحدث في المجتمع الجزائري مواقف جديدة وسلوكاً جديداً وطرقاً جديدة في الظهور.
[فرانز فانون، العامالخامسللثورةالجزائرية، ترجمة: ذوقان قرقوط، دار الفارابي، 2004.]