Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

إضاءات على الحياة والمجتمع العربي في القدس خلال الحرب العالمية الثانية

$
0
0


يوميات
طاهرعبدالحميدالفتياني وإضاءاتعلىالحياةوالمجتمعالعربيفيالقدسخلالالحربالعالميةالثانية

الحلقةالأولى

مقدمة:

تمتاز اليوميات الشخصية (1)، وإلى حدّ ما كتب الذكريات، عن الوثائق الرسمية والمنشورات السياسية، سواءً الصادرة منها عن جهات حكومية أو عن جهات وحركات وأحزاب سياسية، في قدرتها على أن تنفذ إلى أعماق الحياة المجتمعية لتصورها بمختلف تجلياتها ومكوناتها التفصيلية، بعيداً عن اللغة الرسمية وضوابطها وقيودها، بحيث يقترب قارئ اليوميات من الإحساس بها، وكأنه يعيش زمانها ويلامس أشياءها ويشترك في الحياة مع أشخاصها، فاليوميات الشخصية تتضمن نصوصاً كان كاتبها قد انطلق بحرية في التعبير عن نفسه وآرائه ومشاعره وآماله ورغباته، فلا تحدّه الرسميات وقواعد الخطاب العام.  

تقدِّم هذه الورقة، استناداً بشكل أساسي إلى مجلد يوميات غير منشور يعود إلى المقدسي طاهر عبد الحميد الفتياني (1910-1971)، يغطي المدة من بداية سنة 1943 حتى منتصف أيّار 1944(2)، عرضاً وتحليلاً لجوانب من حياة المجتمع العربي في القدس خلال هذه المرحلة من سنوات الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وتلاحظ التأثيرات التي أحدثتها هذه الحرب عليه، ليس فقط في المجال السياسي، إنما في المجال الثقافي أيضاً، أي في طريقة حياة النّاس وعلاقاتهم وأوضاعهم وآرائهم ومذاهب تفكيرهم. ولا شكّ أنّ أعوام الحرب هذه كانت مرحلة حرجة في التاريخ الفلسطيني، كونها جاءت مباشرة بعد نهاية الثورة العربية الكبرى (1936-1939) ضد الانتداب والصهيونية، وقد خرج المجتمع الفلسطيني من هذه الثورة مثقلاً بالجراحات والآلام التي أحدثتها آلة البطش البريطانية بجسده، وممزقاً من الخلافات والانشقاقات والانقسامات بين أنصار الثورة ومناهضيها، كما كان يعاني من غياب العديد من أعضاء قيادته السياسية الأساسيين، وبالأخص الحاج أمين الحسيني وأنصاره، منذ اضطر الذين أفلتوا من الاعتقال والإبعاد والنفي للفرار من وجه الإنكليز في أواخر سنة 1937، فاستقروا في لبنان وسورية، ثمّ في العراق. وقد بقي هؤلاء القياديون في العراق حتى حزيران 1941، إذ اضطروا للخروج منه عقب فشل حركة رشيد عالي الكيلاني في أيّار، فلجأوا إلى إيطاليا وألمانيا، فكان لهذا الغياب القسري أثره في النخبة السياسية وقوتها وقدرتها على العمل.  

ما الذي تُعلِمُنا به هذه اليوميات بشأن موقف المقدسيين من الحرب، وكيفية تفاعلهم معها ومع أخبارها، وإلى جانب أيٍّ من طرفي القتال وقفوا، وماذا كانت تأثيرات هذه الحرب في حياتهم اليومية وشؤونهم الاقتصادية وفكرهم، وما شكل العلاقة بين أعضاء النخبة السياسية، وهل ظهرت قيادة سياسية بديلة لقيادة الحاج أمين، لملء الفراغ الذي أحدثه غيابه وغياب معاونيه الأساسيين؟

ملاحظاتحولاليومياتوكاتبها

طاهر الفتياني جامعي وصحافي وسياسي ومعلِّم مقدسي، انتمى سياسياً إلى جبهة المجلسيين أنصار الحاج أمين الحسيني، وكان خلال هذه المدة من حياته مؤيداً وموالياً بصورة كبيرة للأخير. تمتاز يومياته التي دوّنها في دفتر كبير بأنها تسجيل يوميّ متواصل لأحداث حياته في المدة من يوم الجمعة 1/1/1943 إلى يوم السبت 27/5/1944 (3)،  وتضم تعليقاته ما آثار اهتمامه من أحداث مقدسية وفلسطينية وعربية ودولية، فلا يمر يوم في زمن هذا الدفتر ولم يسجّل فيه الفتياني ملاحظاته وأفكاره وما أثاره من أخبار. وقد كتبت هذه اليوميات في اليوم نفسه الذي تتحدث عن أحداثه وأخباره، أو في اليوم التالي مباشرة، فلم يكن هناك عملية استرجاع لها بعد مضي زمن طويل كما هي الحال مع كتب الذكريات. وتمنح هذه الميّزة يوميات الفتياني موقعاً متميزاً في مصادر التاريخ المقدسي والفلسطيني خلال عهد الانتداب البريطاني، وتجعلها في عداد المصادر الأساسية الموثوقة التي تضيء جوانب من هذا التاريخ لم تتطرق إليها المصادر الأُخرى. وتزداد أهمية اليوميات من موقع كاتبها نفسه، فقربه من الحدث ومن العديد من الشخصيات الفلسطينية، وخصوصاً أنصار الحاج أمين، وكونه من أعضاء النخبة الفلسطينية المتعلمة والمثقفة في ذلك الوقت، يعطيها هذه الميزة الخاصة.  

منهوطاهرالفتياني؟(4)

عائلة الفتياني عائلة عريقة في القدس (5)ترجع أصولها إلى مكة المكرمة، وقد قدم إلى القدس عددٌ من فقهائها وسكنوها وعلّموا فيها منذ العهد المملوكي، وللعائلة فروع في مكة ونابلسوفي غزة، تنتسب إلى جدّ تولّى الإفتاء، وهي من عائلات الأشراف المنتسبة لآل البيت. ولد طاهر عبد الحميد الفتياني في القدس بتاريخ 23 ربيع الثاني 1328 هـ، الموافق للرابع من أيّار 1910 م، وهو الابن الأكبر للحاج عبد الحميد، فنّي وصانع ساعات في القدس. سكن الحاج عبد الحميد وعائلته الممتدة، التي تضم إخوته وعائلاتهم، في المدرسة العثمانية (6) داخل البلدة القديمة في الطوق المحيط بالمسجد الأقصى المبارك، وتوفي في 30 شعبان 1360 هـ الموافق لِ 23 آب 1941.  

درس طاهر في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثمّ انتقل إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة وتخرج فيها، وعمل في الصحافة في جريدة الجامعة العربية مع مؤسسها ورئيس تحريرها منيف الحسيني (7)،الذي يشير إليه في اليوميات بلقب أستاذي، وكان طاهر مديراً للقسم الداخلي في الجريدة (8)،ويبدو من يوميات قصيرة داوم على كتابتها رئيس بلدية طولكرم في عهد الانتداب عبد الرحمن الحاج إبراهيم (9)أنّ طاهراً كان يسافر إلى المدن الفلسطينية، ومنها مدينة طولكرم، ليجمع الاشتراكات للجريدة. وممّا نعرفه عنه في هذه المرحلة من حياته ما ذكرته عايدة النجّار(10)عن اشتراكه في الاجتماع، الذي عقد في منزل موسى كاظم باشا الحسيني بالقدس بعد تظاهرة القدس التي جرت في 13/9/1933، وقد تقرر فيه أن تكون التظاهرة الثانية في يافا في الأسبوع التالي.  أمّا خلال الثورة العربية الكبرى فلا نعرف ما إن كان طاهر موجوداً في القدس في بدايتها، وما الدور الذي قام به، والشيء الوحيد الذي يتضح من اليوميات أنّ أخاه عبد السلام كان من المشاركين في الثورة، وقد انضم إلى العاملين مع عبد القادر الحسيني، ثمّ تشرد مدة من الزمن وعاش أياماً صعبة، فارّاً من الحكومة الإنكليزية. 

انتقل طاهر بعد إغلاق الإنكليز جريدة الجامعة العربية سنة 1936، إلى العراق للتدريس في مدارس بغداد. ونجد في مذكرات أكرم زعيتر  أن طاهراً كان في العراق في شهر أيار (مايو) 1941، يعمل مع المفتي وبقية المناضلين الفلسطينيين، الذين تجمعوا فيها بعد خروجهم من سورية ولبنان مع بدايات الحرب العالمية الثانية، وقد دعم المفتي وجماعته الحكومة الوطنية التي شكّلها رشيد عالي الكيلاني ودعمها العقداء الأربعة، وتحالفت مع ألمانيا النّازية على أمل التخلص من هيمنة الإنكليز. يذكر زعيتر أن الفتياني أُرسل مع مصطفى الوكيل وموسى الحسيني إلى الموصل في ذلك الوقت لنصب إذاعة جديدة (13)هناك. وقد اصطدمت هذه الحكومة في بداية أياّر 1941 مع القوات الإنكليزية في أثناء ما عرف بثورة أيار.

وحين انهزمت الحكومة الوطنية ممثلة بالقوات العراقية النظامية والشعبية أمام القوات البريطانية، وعقدت هدنة بين الطرفين في 30 أيار (مايو) 1941، اضطر المفتي أمين الحسيني ورشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة للهروب من بغداد. في هذا الوقت كان أكرم زعيتر قد توجَّه من بغداد إلى الموصل فوصلها في 2 تموز 1941. كتب زعيتر في يومياته: "وفي الموصل سألنا عمَّن سبقنا من الفلسطينيين، فعلمنا أنَّهم لقوا عنتاً عظيماً في إقناع قنصل فرنسا بالسماح لهم بدخول سورية، وأنّ السلطات العراقية أنذرتهم بضرورة مغادرة الموصل فوراً، وهيأت لهم سيارات استقلوها وغادروا الموصل أمس"(14).  ويستطرد زعيتر في سرد حوادث تلك الأيام، فيذكر أنه بات ليلة في الموصل، وكانوا فيها حسب وصفه: "أشد ما نكون قلقاً على مصيرنا، وخوفاً من أن تقبض السلطات علينا أو أن تحملنا على الخروج قبل أن ندبِّر أمورنا".  ثمّ يذكر أنه في أثناء تجواله في الموصل لقي طاهر الفتياني وإسحاق عبد السلام الحسيني ومصطفى فتح الله "الذي أبدى لنا من التسهيلات ما لست أنساه"(15).  ويبِّين زعيتر أن أغلب الفلسطينيين قد غادروا الموصل إلى سورية هرباً من الحكومة الإنكليزية. المرجح إذن أنَّ طاهراً قد غادر هو الآخر الموصل إلى سورية ومنها عاد إلى فلسطين، لأنّه دخلها، كما يذكر في يومياته، من ناحية الشمال عند جسر المجامع. ومعلوماتنا عن حياته في الموصل شحيحة، وكل ما نعرفه بالإضافة إلى ما ذكره زعيتر، ما يذكره هو نفسه في يومية 26/1/1943 أنَّ القائمقام العراقي تحسين علي (16)أوقفه في سجن الموصل ليلةً قال عنها: "لن أنساها مدى العمر"، وأنَّ تحسين علي هذا قد حسّن علاقاته معه كثيراً بعد ذلك.

 لم يستطع الفتياني بعد عودته من العراق الحصول على وظيفة تتناسب مع مؤهلاته العلمية وميوله السياسية، فقد رفض عرضاً من عجاج نويهض للعمل في الإذاعة، ويبدو أنّ هذا الرفض جاء من منطلق وطني، ربما على اعتبار أنها تساهم في بث الدعاية للإنكليز في الحرب.  ثمّ تقدم إلى العمل في المدارس الوطنية بالقدس، ولكنّه لم يجد شاغراً لديها، فعمل مع شقيقه عبد السلام في معمل زنكوغراف القدس، الذي كان قد افتتحه الأخير قبل مدة وجيزة من عودة أخيه، ثمّ انضمّ اعتباراً من بداية العام الدراسي 1943-1944 إلى هيئة التدريس في المدرسة الإبراهيمية مدرساً للّغة الإنكليزية. تزوج طاهر من ابنة عمه عدلة صادق الفتياني في 5/4/1942، وأنجب منها في أوائل 1943 طفلة سمياها مفتية، ثمّ أنجب لاحقاً ابنه الوحيد عبد الحميد.  

غادر طاهر فلسطين بعد النكبة إلى مصر، فعمل مع الحاج أمين في الهيئة العربية العليا مدةً من الزمن، ثم اختلف معه حول قضايا سياسية، فانتقل إلى العمل ملحقاً ثقافياً في السفارة الباكستانية في القاهرة، وتوفي ودفن سنة 1971 في القاهرة. (17)

أوضاعمدينةالقدسالاقتصاديةوالتغيراتفيأوضاعالحياة

تتطرق العديد من المذكرات المنشورة إلى أوضاع المدينة الاقتصادية وأوضاع الحياة فيها في أثناء الحرب، وتزودنا بتفصيلات مهمة حول الموضوع، وهي تختلف في وصف الحالة، فهناك من يشير إلى حالة رخاء، في حين تصف مصادر أُخرى حالة من الضيق. يقول حازم نسيبة في ذكرياته إنّه "قد يبدو الحديث عن سلام ورخاء في القدس خلال الحرب أمراً غريباً ولكنّه الحقيقة بعينها"، فالقدس وسائر فلسطين، بل الشرق الأوسط جميعه، كقاعدة أساسية استراتيجية خلفية للمجهود الحربي البريطاني، كانت تنعم بسلام شامل ورخاء منقطع النظير، وإنّها كانت "خلية نحل من النشاط في جميع ميادين العمل والنشاط"(19).  ويستطرد بأن الحكومة كانت تشجِّع "قيام الصناعات المحلية والزراعة لسدّ حاجات البلاد، بسبب تعذر استيراد أية سلعة مدنية، لأنّ الأولوية في النقل البحري كانت تعطى إلى المجهود الحربي"(20).  على أنّ نسيبة يستدرك بأنّ هذا لا يعني أنّ فلسطين كانت بمنأى عن الحرب، فيذكر الغارات الجوية على حيفا ومناطق أُخرى، ويذكر إغارة "الغوّاصات المعادية التي كانت تحصد حصادها المرّ من السفن التي كانت تغامر بالمجيء إلى المنطقة"(18).ربما تؤيد يوميات خليل السكاكينيوجود حالة من الرخاء، لكنها كانت محصورة في طبقة الميسورين والأغنياء في المجتمع المقدسي، إذ لا نعثر في هذه اليوميات على ما يشير إلى معاناة السكاكيني في سبيل الحصول على مستلزمات الحياة الأساسية، بل هناك صورة من توفر العديد من السلع غير الأساسية التي كانت تستهلكها الطبقة الغنية.

مقابل هذه الصورة ومناقضاً لها رسمت مصادر أُخرى صورة من المعاناة وشحّ المواد اللازمة للحياة، فمثلاً يصف القنصل العراقي في القدس، طالب مشتاق،(19) أحوال المقدسيين والفلسطينيين الصعبة في أثناء إقامته في المدينة (1940-1941)، فرغم ما يبدو على السطح "أن البلاد تتمتع بهدوء وسكينة وأن الناس يعيشون في جوّ مشبع بالطمأنينة والاستقرار، "هناك الفقر المدقع المنتشر في القرى العربية والأرياف."  أمّا الدكتور صبحي غوشة فقد خصّص قسماً من الفصل الأخير من الجزء الأول من كتاب ذكرياته،  الذي عنونه بِـ "أبو علي هتلر"، للحديث عن أحوال القدس في أثناء الحرب الثانية، وكان عمره حين نشبت عشرة أعوام. يقدّم غوشة في هذا القسم صورة مختلفة لأوضاع المدينة عمّا قدمّه نسيبة، وعمّا يستنتج من يوميات السكاكيني، فمعاناة الشعب الفلسطيني كانت "معاناة شديدة في مختلف أوضاعه الاقتصادية والمعيشية والسياسية"، فبالرغم من بروز طبقة من "أثرياء الحرب"، الذين يقول غوشة إنّهم تعاونوا مع الجيش البريطاني لإقامة المعسكرات والتعهدات الأخرى، "إلاّ إنّ معظم الفئات الكادحة من عمّال وفلاّحين عانت من ارتفاع الأسعار وقلّة المواد التموينية، فقد وضعت سلطات الانتداب أنظمة لصرف المواد الغذائية بموجب نظام "كوبونات" أو "النقط"، فكان يصرف لكل فرد دفاتر كوبونات فيها عدد من "النقط"....وخصص لكل فرد –بحسب عمره– مخصصات شهرية من الدقيق والسكر والأرز". ويقول إنّ الكميات المخصّصة لم تكن كافية لسدّ حاجات المواطنين "ولذلك انتشرت السوق السوداء لبيع هذه المواد، "فبلغت أسعارها أسعاراً خيالية في بعض المناطق فلم يستطع الفقراء شراءها، لذلك فتشوا عن بدائل لها".  ويستطرد غوشة في الحديث عن هذه المواد فيقول إنّ نوعيتها لم تكن جيدة، بل كانت نوعية رديئة، وإنّ العديد منها لم يكن ممّا تعوّد المواطنون على استعماله، فاستبدل بدل السكر الأبيض السكر الأحمر المصنوع من البنجر، وبدل الدقيق الأبيض الدقيق الأسود، مخلوطاً بالنخالة ومواد أخرى، كما انتشر دقيق الذرة ودقيق الشعير، واستبدل بدل البيض مسحوق البيض. ويتطرق غوشة إلى ارتفاع أسعار الأدوات المنزلية والأثاث والملابس والأحذية، وقيام السلطات بتقنين بيع الأقمشة، فأعطت "لكل مواطن بالغ "كوبوناً" لشراء بدلة أو قطعة قماش "بوتوليتي" كل عامين، وكان قماشها موحداً في النوع ومن ثلاثة ألوان فقط".  ويؤيد المعلِّم المقدسي فؤاد أبو السعودتصوير غوشة للواقع، وخصوصاً حين كتب عن شكواه ضد تجار اللحوم، الذين لم يلتزموا بالسعر الذي قررته الحكومة، بل باعوه بضعف الثمن.

تتضمن يوميات طاهر الفتياني معلومات غزيرة عن الأوضاع الاقتصادية في القدس في المدة التي تغطيها، وتتفق روايته مع رواية صبحي غوشة، ففي هذه اليوميات شكاوى متواصلة من غلاء الأسعار وشحّ المواد الاستهلاكية، فنقرأ مثلاً في يومية 7/4/1943: "انقطع البيض من الأسواق بعد أن تمتعنا به زمناً قصيراً رغم ارتفاع أسعاره، وسبب ذلك مرضٌ دبَّ دبيبه بين الطيور، واستحواذ الجيش على مقادير هائلة من البيض". ونقرأ في يومية سابقة دوِّنت بتاريخ 14/1/1943: "الصيدليات لا تعطي للشاري علبة حليب إلاّ إذا قدّم لها العلبة الفارغة، وكذلك الحال مع مواسير دواء الأسنان. أمّا حبوب الكينا فلا تعطى إلا بموجب راشتة من الطبيب".   ويتحدث الفتياني عن إحضاره كمية قليلة من البصل الأخضر من يافا في أثناء زيارته لها وذلك لغلاء سعره في القدس، وقد اعتبر هذا أفضل هدية تقدم إلى عائلته.وبحسب وصل أجار المنزل في عين كارم وفي رام الله إلى أكثر من 80 جنيها،ويتحدث في يومية الجمعة 5 آذار سنة 1943م – 29 صفر سنة 1362هـ عن لقائه بالباص المتجه إلى يافا بابن عمه يوسف الفتياني، وكان معه محمود المغربي. "وابن العم أرسل ذقنه باعتباره موظفاً حكومياً، فقد أعلن الموظفون احتجاجهم لعدم زيادة مرتباتهم بسبب غلاء الأسعار. ورأوا أن خير الاحتجاج هو أن يرسلوا لحاهم". 

موقفالمقدسيينمنالحربومنالحلفاءوالمحور

يتبين من المصادر المنشورة ومن يوميات الفتياني أنّ المقدسيين، وينسحب موقفهم على الفلسطينيين عموماً، أعطوا أخبار الحرب أهميةً كبيرة، وتابعوها باهتمام، ويتضِح بجلاء أنّهم انقسموا بين مؤيد للمحور ومؤيد للحلفاء، وهذه الحقيقة مناقضة للرواية الإسرائيلية التي وضعت الفلسطينيين جميعاً ضمن أنصار المعسكر النّازي-الفاشي في الحرب، واعتبرتهم بالتالي مسؤولين، ولو جزئياً، عن الجرائم النّازية بحقهم. ويمكن في هذا السياق تلخيص الصورة بأمرين: الأول، أنّ المجلسيين أنصار الحاج أمين، ومنهم طاهر الفتياني، أيدوا بقوة معسكر المحور، منطلقين من البغض لسياسات بريطانيا التهويدية والمنحازة لليهود؛ والثاني، أنّ طرفاً فلسطينياً آخر وقف مع معسكر الحلفاء، ومنه من دعم المجهود الحربي البريطاني، ومن تطوع للقتال ضد الألمان وسائر دول المحور.  

يشير السكاكيني إلى اهتمام الناس في القدس بأخبار الحرب، فيقول في يومية الجمعة 10 أيّار 1940 أنْ "لا حديث لهم إلاّ إغارة ألمانيا على هولندة وبلجيكا".  ويكتب في يومية الثلاثاء 28 أيّار 1940 أيضاً أن "لا حديث للناس إلاّ حديث استسلام ملك بلجيكا للقوات الألمانية في الصباح الباكر".  وعن موقف الفلسطينيين من المعسكرين المتحاربين فقد كتب عمر الصالح البرغوثي في كتاب مذكراته يقول إنّ بريطانيا أعلنت في دعايتها أنّ هتلر لا يحترم العرب، رغبةً منها في كسبهم لصفِّها في الحرب، "ولكنّ العرب انجرفوا في التيار الألماني، وهتفوا للنصر [على بريطانيا]".  على أن السكاكيني يخالف تعميم البرغوثي هذا فيشير إلى انقسام الفلسطينيين بين موالين للإنكليز ومعادين لهم في الموقف من الحرب، ففي يوميته المؤرخة في 19 أيّار 1940 يشكو من اضطراره لسماع المناقشات حول الحرب، التي "قد تكون حادّة، هذا ينتصر للألمان وذاك للإنكليز".  ولا يخفى على السكاكيني كذب كلا الفريقين المتحاربين، فهو يكتب في 20 تمّوز 1941 أنّ كلّ ما يدّعونه كذب، "يدعون أنّهم يحاربون لأجل الحرية والاستقلال، وكل ما يدعونه كذب، يدعون أنهم يريدون خير العرب مثلاً، كل ما يدعونه كذب، يدعي هذا الفريق أنه يحارب ليضع للعالم نظاماً جديداً يضمن للنّاس السعادة، ويدعي الفريق الآخر أنه يحارب لأجل الديمقراطية، كلتا الدعوَيين كذب".  

كانت متابعة الفتياني للحرب وأخبارها أشمل بكثير من متابعة السكاكيني، وهو لا يخفي في لغته وتعليقاته انحيازه لمعسكر المحور ضد معسكر الحلفاء، كما لا تخفي يومياته بغضه الشديد للإنكليز وسياستهم في فلسطين.  كتب الفتياني في يوميةالأربعاء 27 كانون الثاني سنة 1943 معبراً عن انزعاجه وقلقه بعد أنْ قرأ في جريدة الـ "بالستاين بوست" أنباء الحرب، ومنها "أن روزفلت وتشرشل اجتمعا في الدار البيضاء من 14-24 يناير، أي مدة 10 أيام، وقد وضعا بالاشتراك مع قوات الأمريكيين والإنكليز والفرنسيين الخطط المحكمة لحمل ألمانيا ودولتَي المحور على التسليم بلا قيد ولا شرط!  وكذلك قرأت أن ألمانيا (تعبانة) جداً في ستالينغراد، وأنها بدأت هناك تصفي حركاتها العسكرية، ولا تدل الأعمال الحربية القائمة الآن في الجبهة على أمل كبير من جانب الألمان".وكتب يوم الأربعاء 17 شباط سنة 1943 عن لقائه والشيخ يعقوب البخاري بالدكتور توفيق باز حداد، الذي يصفه بأنّه "مؤمن كل الإيمان بأن الروس والألمان على وشك الانهيار. ويقول إنه ليس من المستبعد أن تحاول ألمانيا الاتفاق مع الحلفاء لكسر الروس لأن الروس هم أعداء الجميع –ألمانيا وأمريكا وإنجلترا- وقال إن ما يكسبه الألمان في الصيف يخسرونه في الشتاء".

يتابع طاهر أخبار الحرب وهي مليئة بتفصيلات الهزائم الألمانية، فيكتب في يومية الجمعة 5 شباط/1943 بروح تميل إلى عدم التصديق، واعتبار بعض الأخبار دعاية سخيفة:

أعلنت ألمانيا الحداد ثلاثة أيام لمناسبة استسلام ليننغراد. وألغيت المظاهرات في ألمانيا التي اعتاد النازيون القيام بها، وذلك لمناسبة الاحتفال بالذكرى السادسة للنظام النازي. وقد أشاع الإنكليز والأمريكيون أن الحداد وإلغاء المظاهرات يفهم منها أن هتلر قد مات. وأن أساطين رجال الجيش لا يريدون إعلان هذا النبأ خوفاً من حدوث رعب وفزع في ألمانيا..  وهذه الدعاية – فيما أعتقد – فيها سخف وقلة عقل".

على أنّ هذه الأخبار السيئة لم تمنعه من إيلاء أهمية لأخبار الخسائر الأمريكية في شمال أفريقيا، ولحركة الهنود بقيادة غاندي ضد الإنكليز، فدوّن في دفتر يومياته يوم الاثنين 22 شباط/1943م الأنباء القادمة "من ألمانيا أن الجيش الأمريكي في شمال إفريقيا خسر حتى الآن (في أسبوعين) أكثر من 65 ألف جندي. هذا وقد ساءت صحة غاندي الذي مضى عليه أسبوعين وهو صائم، وقامت ثورات في الهند طالب فيها الثوار بإطلاق سراح غاندي".

يعود طاهر ليدوّن في 8 أيلول 1943 أخبار هزيمة إيطاليا واستسلامها للحلفاء بلا قيد ولا شرط: "ووقّع على معاهدة التسليم مندوبان عن الجنرال ايزنهاور والمارشال بادليوا، واعتبرت ألمانيا هذا العمل خيانة عظمى، وبدأت ألمانيا باحتلال شمال إيطاليا، وتألفت حكومة فاشستية في شمال إيطاليا برئاسة السينور موسوليني، الذي كان قد قدم استقالته منذ بضعة أسابيع".

[ينشر ضمن اتقاقية شراكة وتعاون مع مجلة ”حوليات القدس“.]


Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

Trending Articles