لبنان محطّم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. بالإضافة إلى العنف الذي يستهدف اللبنانيين يومياً لأنهم يعيشون في مناطق يُقال إنها "تنتمي" إلى هذه الفئة السياسية أو تلك، فإن الحقد الديني والطائفي في تصاعد، ويُدفع المزيد من الناس إلى البؤس والبطالة، فالمواطنون واللاجئون والعمال المهاجرون على حد سواء يتجمدون حتى الموت، أو يسحقهم الموت في الشوارع والخيام، وفي أبنية غير صالحة للسكن. ليس هناك حكومة لبنانية "شرعية"، ولا آمال لتشكيل واحدة في المستقبل المنظور. في غضون ذلك، تلوح الانتخابات الرئاسية في الأفق، والسياسيون يستخدمون تشكيل الحكومة أو عدم تشكيلها كورقة مساومة و كتهديد لـ "خصومهم".
ثمة رأي شعبي بأن كل ما يجري في لبنان اليوم يمكن تفسيره عبر استعارة "تأثير" ما يحدث في سوريا. ولكن لبنان محطّم سياسياً واقتصادياً ومستقطب اجتماعياً، وعلى نحو سُمِّي، قبل 2011. فالطائفية والعنف السني ـ الشيعي كانا في تصاعد في المنطقة منذ الغزو الأميركي واحتلال العراق، بسبب كلّ من عدم كفاءة قوات الاحتلال وما هو مخطط. وها هي سوريا مرشحة كي تكون كما كان العراق في العقد الماضي إذا استمرت الحرب. هذا قاموس حرب على الإرهاب يشتغل في لبنان اليوم، واحد تتخلله ثنائيات مثل تقدمي\رجعي، ثقافة الحياة\ثقافة الموت، إسلامويّ\علماني، عقلاني\غير عقلاني، متسامح\غير متسامح. حتى مجموعة الشخصيات هي متشابهة. إن إيران و"لبنانييها" هم في زاوية، والمملكة العربية السعودية و"لبنانييها" هم في أخرى. وعلى ما يبدو تظهر "القاعدة" من الجو الرقيق، والجميع يزعمون أنهم يعارضونها ولكنها تستمر في تلقي المال والأسلحة من مصادر "غامضة". إن تواطؤ الولايات المتحدة (والمملكة العربية السعودية) في هذا الجحيم لا يبدأ بغزو العراق، ولكنه يتبلّر هناك. فنحن لا نستطيع فهم لبنان وسوريا اليوم دون التفكير بالعراق، ومع ذلك نادراً ما نسمع عن ربْط بين هذه البلدان.
إن الاحتجاجات والمظاهرات لن تنهي الحرب التي تُخاض في أنحاء البلاد، ولن تنهي المحسوبية السياسية والفساد أو تحسّن (ناهيك عن أن تزيل) نظام الطائفية السياسية. لن تحدث ثورة في لبنان، أو انتفاضة تكنس الطبقات السياسية وتقيّدها بالأغلال التي تنتمي إليها. بدلاً من ذلك، هناك حرب أهلية. وهي لا تبدو كالحرب الأهلية التي نشبت في 1975- 1990 أو 1958. فعناصر الميليشيات والعصابات المسلحة لا يطوفون في شوارع بيروت (رغم أنهم يفعلون هذا في طرابلس وصيدا). وتواصل المدارس والجامعات (على نحو إعجازي) ومؤسسات الدولة وظيفتها، ولو على نحو هزيل. ولكنّ هذا لا يعني أن البلاد في حالة حرب.
إن انخفاض حساسيتنا للعنف يجب ألا يجعل من المستحيل معرفة أن هذه حرب أهلية. فالصراع المسلح ينشب كل يوم في أكبر ثاني مدينة في البلاد، فيما تستهدف السيارات المفخخة والتفجيرات الانتحارية والقنابل "شرائح" مختلفة من السكان بانتظام. إن المواطنين اللبنانيين والمقيمين يقاتلون بعضهم بعضاً في سوريا، مستخدمين أسلحة تقدمها القوى الإقليمية المتنازعة. هذه حرب وليس "تأثيراً"، وستتواصل طالما أن سوريا تحترق، وربما بعد هذا.
ليس من "الواقعي" أو "العملي" الآن مناصرة التغيّر الاقتصادي والقانوني أو الاجتماعي. فرجال السلطة يقولون دوماً للناشطين إن "الوقت غير ملائم الآن" للقيام بمطالبات في بلاد هي في أزمة دائمة على ما يبدو. مع ذلك، إن تغيير، أو إنهاء الحروب في سوريا والعراق ولبنان، هو خارج نطاق قدرة المواطنين والمقيمين واللاجئين. وبما أنه ليس هناك طريقة للخروج من هذه الدوّامة، فربما حان الوقت كي نتخيّل ما نريده.
قد يكون هذا وقتاً للتفكير دون قيود حول ما هو "ممكن"، بدلاً من أن نعيش في مملكة "المستحيل"، قد يكون وقتاً للحلم والتخيّل، لا تعيقه قيود الحالة العملية أو الاستراتيجية. إذا كان بوسعك أن تغيّر أي شيء تطمح إلى تغييره في لبنان، فما هو؟ إذا كان عليك تخيّل دولة يستطيع المرء على الأقل أن يتعايش معها (وفي ظلها)، كيف ستبدو؟ إذا كان بوسعك الافتراض بأن حرباً بلا نهاية لن تنشب كل خمس سنوات أو ما يقارب ذلك، وإذا كنت لن تقلق يومياً حول الأمان الفوري لمن تحبّ، فما الذي تريده؟ إذا اعتقدت بأنّ الأموال العامة (بما فيه الثروات المتوقع تحصيلها من التنقيب عن النفط والغاز قبالة الشاطئ) ستُستخدم فعلاً لتمويل الجمهور العام، ما الذي تريد أن تحسّنه أو تمنحه شكلاً جديداً؟ إذا اعتقدت أنّ صوتك وآراءك ومخاوفك وآمالك ورغباتك سيصلون إلى الآخرين، وأن الآخرين سيصغون ولن يرموها جانباً كشيء يفكرون به "بُكْرا"(غداً)، ما الذي ستقوله؟
بدأت حملة على الفيسبوك هذا العام طلبت من الناس إرسال صورهم الشخصية مع عبارة "أنا لست شهيداً" مسبوقة بعلامة #، وسؤال عن شيء واحد يريدون تغييره في لبنان. هناك أشياء كثيرة أودّ تغييرها في لبنان، ولكن في ما يلي قائمة من التغييرات أعتقد أنها تملك القدرة على أن تكون ثورية وإبداعية بنيوياً لأعداد كبيرة من الناس. إلا أنّ بعضها غير واضح، وسيلاحظ القارئ أنه ليس هناك مطالب سياسية أو "مواقف" من الحرب الأهلية الحالية في لبنان. هذا لأنّ المطالب الملخصة أدناه غير مرتبطة بأية لحظة أو حزب سياسي أو "طرف" معيّن. إنها تغييرات بنيوية ثمة حاجة ماسّة إليها بصرف النظر عمن في السلطة وبصرف النظر عمن "سيربح" أو "سيخسر" هذه المرة. هناك الكثير من التغيرات البنيوية والإصلاحات التي هناك حاجة ماسة إليها في لبنان. أقدّم في ما يلي مجموعة مختارة قليلة من اقتراحاتي الشخصية، وأشجّع جميع القراء على إضافة مقترحاتهم في قسم التعليقات.
سيلاحظ القراء أيضاً غياب طلب القضاء على الطائفية السياسية أو تمرير قانون أحوال شخصية موحّد وإلزامي. هذا لأنّ أفكاري حول كلٍّ من هذه المسائل هي نوعاً ما غير معقدة وجليّة: أعتقد أن الطائفية السياسية يجب أن تنتهي اليوم، وليس في مستقبل غير محدد وغامض حين يخبرنا السياسيون ما الذي سنكون "مستعدين" له. وعلى نحو مشابه، أعتقد أيضاً أن قانون أحوال شخصية موحّد يجب أن يصدر الآن، وليس لاحقاً، حين يمكن إقناع القادة الدينيين والطائفيين الفاسدين بالتخلي نوعاً ما عن جداول الريع السياسي والاجتماعي والنقدي.
1-إلغاء نظام الإحصاء الحالي وإغلاق جميع المكاتب التي تحتفظ بمعلومات إحصائية (دوائر النفوس). إن النظام الحالي لا يسجّل ويرصد الطائفة الموروثة من ناحية الأب لكل مواطن ويسجل العائلات بحسب "أصلها" الجغرافيّ (بدلاً من مكان إقامتها) فقط، بل أيضاً يعامل المواطنات الإناث شكلياً وبيروقراطياً على أنهنّ ملحقات قانونياً بأزواجهن أو آبائهن. فحين تتزوج النساء، مثلاً، تُزال أسماؤهنّ (في معظم الأحيان تُشطب يدوياً) من سجل إحصاء العائلة (المسجل تحت اسم الأب) و"تُلحق" بقائمة الزوج. وإذا طُلِّقْنَ يُشْطَبْنَ ثانية من سجلّ أزواجهنّ (الذي يبقي الأولاد) و "وتتم إعادتهنّ" إلى الأب. وقد صار من الشائع نقد الطرق التي يشجّع بها الإحصاءُ الطائفيةَ ويحميها بيروقراطياً، إلا أننا لا نسمع الكثير عن كيف يقوّي ويحمي التمييز الجنسي. وفي الحقيقة، إن كلاً من الهيمنة الذكرية والطائفية مرتبطتان على نحو حميميّ وتدعّمان بعضهما بعضاً، وهما نظامان أبويان وهرميان يرسّخان نزعة المحافظة ودور "الرجال الأقوياء" كقادة\حماة.
باختصار، إن إزالة نظام الإحصاء الحالي (بما فيه السجل العائلي) واستبداله بهويات فردية جديدة لا تذكر الطائفة والدين والوضع العائلي والأصل الجغرافي والوضع الأبوي أو الأسروي (كمثل التبني أو "اللاشرعية") أو أرقام السجل العائلي. وبدلاً من ذلك يحصل كلّ مواطن على بطاقة هوية برقم إحصائي مولّد عشوائياً. إن تغيّراً كهذا سينهي الكثير من الممارسات القائمة على التمييز الجنسي والطائفية.
2- يجب أن تحصل النساء علىحق منح الجنسيةلأولادهن وأزواجهنّ دوناستثناء. ذلك أنّ أغلبية المواطنين اللبنانيين لا يستطيعون تمرير جنسيتهم، وهذا أمر مُخزٍ وغير دستوريّ أيضاً.
3- فتح باب الجنسية لجميع اللاجئين وناشدي اللجوء السياسي والإنساني والمهاجرين الاقتصاديين الذين يرغبون في التقدم بطلب من أجل ذلك.
4- إنشاء نظام نقل عام مجاني وآمن وحديث يشمل البلاد كلها وموثوق. وعلى نحو مشابه، يجب إنشاء نظام قطارات ضواحي يربط النبطية مع صيدا وبيروت وجونية وطرابلس، المدن الساحلية الرئيسية في البلاد. حالما يتم إنشاء هذين النظامين ويبدآن بالعمل جيداً فإنهما سيشجّعان الناس على القيام برحلات مشتركة من خلال الحوافز والعقوبات لكل من يسوق وحده في السيارة، خاصة في المدن.
5- رفع الحد الأدنى للأجر إلى 700 دولار شهرياً. ويجب أن ينطبق هذا على المواطنين اللبنانيين والمقيمين والمهاجرين العاملين (بما فيه محلياً) في لبنان. إن الحد الأدنى للأجر حالياً هو حوالى 450 دولاراً في الشهر، وهو لا ينطبق\ أو غير مطبّق على العمال غير اللبنانيين. لا أحد يجب أن يُدفع له أجر عبد.
6- فرض قانون الأرض العامة والمصلحة العامة. إزالة البنى التي تنتهكها وإعادة فتحها للجمهور العام. يشمل هذا استيلاء الحكومة على الأرض العامة، كما في حالة نادي الضباط على شاطئ بيروت. يجب أن يكون التخطيط المديني في خدمة الجماعات، وليس في خدمة الترميم أو الربح.
7- تقديم خدمات أساسية أفضل وأرخص، بما فيه الماء والكهرباء والهاتف والإنترنت. وإنها لجريمة أن اللبنانيين يدفعون مقابل الماء والكهرياء والإنترنت والهواتف أكثر من معظم الآخرين في العالم، وخاصة حين لا تتوفر لهم مياه جارية موثوقة وكهرباء وخطوط هاتف أو إنترنت.
8- مساءلة الحكومة قانونياً في مسائلالفسادوإجراء تحقيقات عامة في الفضائح علنية وشفافة ومؤثرة. في النهاية، كيف بقي المفتيفي منصبه بالرغم من حقيقة أن فساده معروف جيداً؟ كيف لم يتم التحقيق مع قادة سياسيين من أمثال وليد جنبلاط ونبيه بري وميشيل عون في قضايا الفساد ومحاباة الأقارب التي نالت سمعتهم ، كيف لم يتم التحقيق معهم أبداً بشكل علني في أيّ تهم من هذا النوع؟ تماشياً مع روح المساءلة القانونية للمسؤولين، إن جميع أصحاب المناصب الحالية يجب أن يُحظر ترشيحهم في الانتخابات المرتقبة، ويجب أن تشمل الانتخابات المذكورة مجادلات تلفزيونية يستطيع المواطنون المشاركة فيها.
9 – إنشاء مكتب حماية للمستهلك. حالياً، لا يوجد مساءلة قانونية للرأسماليين وحلفائهم السياسيين الذين يحاولون جمع النقود من بيعاللحم الفاسد، والدمى المؤذية للأطفال، والدهان الذي يحتوي على الرصاص، أو أي عدد آخر من البضائع الفاسدة والسامة، للمستهلكين.
10- يجب أن تكون المدارس العامة مجانية ومتاحة في كل أنحاء البلاد. فالأجور المرتبطة بالتدريس العام حالياً هي في الغالب مكلفة جداً للعائلات. يمتلك جميع الأطفال الحق بنظام تعليم موحدّ متوازن ومتطور وجيد. إن نظام المدارس العامة يجب أن يُخدم بنظام باصات عام ومجاني يشمل البلاد كلها. يجب ألا يسمح للمدارس العامة أن تختار أي دين تعلّمه "لطلابها" وجميع مناهج المدرسة يجب أن تكون موحّدة ومتطوّرة.
11- إنهاء كل التعيينات السياسية في الجامعة اللبنانية، الجامعة العامة الوحيدة في لبنان. إن التعيينات الأكاديمية والإدارية يجب أن تستند إلى الكفاءة، وليس إلى المحاباة. إتاحة مدخل مجاني وشامل إلى حرمها الجامعي المركزي في بيروت وتقديم منازل مجانية للطلاب في عامهم الدراسي الأول.
12- إنشاء بنك حقيقة ومصالحة\ذاكرة للناس كي يتقاسموا تجاربهم مع العنف والصدمة المرتبطة بالحرب الأهلية. إن بنك الذاكرة هذا يجب أن يذهب إلى جميع القرى والمدن في البلاد ويجب أن يكون بشكل كامل غفلاً. إنتاج كتب وأفلام من الأرشيف وجعلها جزءاً من مناهج جامعية موحدة.
13- رعاية صحية مجانية وشاملة يجب أن تقبلها جميع المستشفيات ويجب أن تشمل مدخلاً كاملاً إلى صحة النساء الآمنة والحديثة. بالإضافة إلى ذلك، ما يشكّل "الصحة العامة" يجب أن يشمل مكاناً لإدمان الكحول والمخدرات، الأمراض المنقولة عن طريق الجنس واضطرابات ما بعد الصدمة والصدمة.
14- شرعنة وقوننة وتصديرالحشيشوفرض الضريبة عليه. استخدام الريع لتمويل نظام صحي محسّن من جديد ورعاية صحية شاملة. إن القنّب اللبناني هو مصدر طبيعي ويجب أن يُستخدم في البلاد.
15- إبقاء القوى الأمنية تحت السيطرة. إن كل من يرتدي بزة يجب أن تتم مساءلته قانونياً بشكل كامل من أجل انتهاكات ضد المواطنين والمقيمين واللاجئين. إن الهدف من وجود القوى الأمنية هو حماية الجماعات المعرضة للخطر والجماعة بعامة، وليس استهدافها.
[ترجمةأسامة إسبر. للنسخة الإنجليزي اضغط/ي هنا]