"وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على الأسد ريبة وهيبة. فسأله: هل راب الملك سماع هذا الصوت؟ قال لم يربني شيء سوى ذلك. وقال دمنة: ليس الملك بحقيق أن يدع مكانه لأجل صوت. فقد قالت العلماء: إنه ليس من كل الأصوات تجب الهيبة".
(كتاب كليلة ودمنة- حكاية الأسد والثور )
في الرابع والعشرين من يوليو 2011، اعترف اللواء حسن الرويني – العضو في المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية آنذاك–بأمر خطير. فقد ابتدر سيادة اللواء بمداخلة هاتفية في برنامج "صباح دريم" على قناة دريم 2 الفضائية- في وقت كثرت فيه مثل هذه المداخلات من أعضاء المجلس العسكري في برامج توك-شو مماثلة حتى باتت من طقوسهم وشعائرهم المعتادة–وذلك ليردّ على ما قدّمتها الإعلامية دينا عبد الرحمن من شهادات حول أحداث دامية كانت قد شهدتها العاصمة، حيث انطلقت مسيرة سلمية متجهة إلى مقرّ وزارة الدفاع في حيّ العباسية تنديداً باستبداد المجلس العسكري في الحكم وتعبيراً عن أمل النشطاء في استكمال المسار الثوري. ورغم سلمية المسيرة فما أن وصلت إلى حيّ العباسية حتى تصدّت لها وهاجمتها مجموعات من البلطجية والشرطة بمساندة بعض أهالي المنطقة، وهو الأمر الذي برّره اللواء حسن الرويني واصفاً المتظاهرين بالخونة والعملاء وزاعماً بأن ما حرّك هؤلاء ودفعهم إلى التظاهر إنما هو بعض الأخبار المغلوطة عن جرائم ارتكبها الجيش المصري في الاسماعيلية. فقد كانت هذه الجموع الثائرة، على حد تعبير اللواء، ضحايا لأمر في غاية الخطورة، ألا وهي" الإشاعة". وقال الرويني مشددا على هذه الخطورة البالغة:
هذه الشائعة–من وراءها؟ أقول لحضرتك حاجة. احنا في ميدان التحرير من يوم 28. لما كنت احبّ اهدي الميدان، كنت بروح بنفسي … كنت اطلّع اشاعة في الميدان : قبضوا على أحمد عز وحوّلوه لمحكمة الجنايات – الميدان يهدا! ] … [ وكنت اطلع اشاعة انهم قبضوا على وزير الداخلية وودّوه مش عارف ايه–الميدان يهدا! أنا عارف مدى تأثير الإشاعة في الجموع الثورية. أنا عارف ازاي اهدّي الميدان وازاي اهيّج الميدان. إنه تصريح في غاية الغرابة، فكأنه يقول: إن الشائعة لهي سبع من السباع الشرسة، وأنا أيضاً، بكل فخر واعتزاز، سبع من هذه السباع!
وابتسمت الإعلامية، فضحكت من هذا التصريح الغريب، ثم طُردت من عملها في القناة بعدها بأيام قليلة. هذا، وقد توهّجت وتلعلعت التغريدات على موقع تويتر تهكّماً باعتراف اللواء، بينما انتشرت لقطات من المفخرة\المسخرة على قنوات يوتيوب: "الرويني يعترف بفبركة الاشاعات"، "اللواء الرويني وراء نشر الإشاعات في التحرير"، "الرويني مش بتاع ساندويتشات. الرويني بتاع اشاعات" الخ.
ما أضحك الكثير في هذا التصريح، بالطبع، هو التناقض الواضح في موقف السلطة التي تحلّل لنفسها ما تحرّم على الآخرين، وكذلك الطريقة الفجّة والصريحة في الاعتراف بأن أحد أعضاء المجلس العسكري لا يستحي أن يرتكب جريمة كلامية يعاقب عليها القانون. لكن التصريح، فضلاً عن كونه مدعاة للسخرية، يثير مسألة هي أهمّ في نظري، ألا وهي "خطورة" الإشاعات، وتشديد وتأكيد اللواء اللاهثَيْن على ترسيخ هذه الخطورة في أذهان المستمعين، حيث يذكر هذه "الخطورة" ويعيد ويكرّر وصفه الإشاعات بأنها "خطيرة" عدّة مرّات في حديثه المطوّل مع الإعلامية.
ترى ما هذه الخطورة التي يؤكّد عليها اللواء؟ إنها "مدى تأثير الإشاعة" في الجموع، وقدرتها على "تهدئة" الميدان بل و"تهييجه" على حد تعبيره، مما لا يخلو من بعض الإيحاءات الجنسية في سياق اشتباك اللواء "الدكر" مع إعلامية يراها مصدر إثارة\ثورة. وهي خطورة مزدوجة، رهبته منها تقابل رغبته فيها وفي تسخيرها لأغراضه الخاصة. وقد نفترض أن اللواء وبعض من انتقد تصريحه هم على اتفاق حول هذه المسألة، إذ يرون أن للإشاعات خطورة بالغة من حيث تأثيرها في التجمّعات الكبيرة والصغيرة كما في المجتمع بصورة أشمل وأعمّ. ولا شكّ أن الأكاذيب وحملات التشهير من شأنها أن تفسد العملية السياسية في بلد من البلدان، وأن تحبط محاولات المداولة والمناقشة في الساحة العامة.
لكن "الخطورة" ليست مسألة بسيطة أبداً، فهي ليست ظاهرة علمية أو قانونية مفروغ منها وإنما تتشكّل وتتغيّر، وتثار وتتفجّر بفضل عوامل متعددة منها المعتقدات السلطوية، والممارسات التفسيرية، والنوازع العاطفية والنفسية للجماعات والأفراد. فيتمّ تصوير الإشاعات–تحرّكها وانتشارها، فمدى ونوعية تأثيرها في النفوس والمجتمعات – نتيجة لهذه العناصر الأساسية، كما يتمّ تصوير عملائها ومروّجيها على نمط معيّن، من أجل تحقيق أهداف سياسية واجتماعية معيّنة، أو إرضاءاً لرغبات وشهوات دفينة. إنّ خطورة الإشاعات معقّدة، مركّبة، أصبحت من مسلّمات الخطاب السياسي الحديث بفضل صراعات وأزمات سنسلّط عليها بعض الضوء، وبعض الدخان، من خلال البحث في مراحلها ومعانيها المبكّرة.
ترجمة معاني الإشاعة
في الساعة التاسعة من مساء 24 يوليو 1952، قبل تصريحات اللواء الرويني بتسع وخمسين سنة بالضبط، توجه اللواء محمد نجيب بك إلى دار الإذاعة بالقاهرة، فألقى بياناً رناناً قال فيه:
إخواني أبناء وادي النيل، لشدّ ما يسرني أن اتحدث إليكم ومع ما احتمله في هذه اللحظات من مسؤوليات جسام لا تخفى عليكم فقد حرصت على ان احدثكم بنفسي وذلك لأقضي على ما ينشره خصومكم وخصوم الوطن من شائعات مغرضة حقيرة. وقال: والواقع أن أشد ما آسف له هو أنبعض ذوي النفوس الضعيفة ما زالوا ينشرون الشائعاتعن حركتنا، ان حركتنا قد نجحت لأنها باسمكم ومن هديكم وما يملأ قلوبنا من إيمان إنما هو مستمد من قلوبكم. لا تنصتوا للشائعات، اتجهوا لله العلي القدير بقلوبكم وسيروا خلفنا للإمام إلى رفعة الجيش وعزة البلاد. (الأخبار، 25\7\1952)
ترى ماذا يقصد اللواء – محمد نجيب – بالشائعات، التي قالها بالثلاث؟ لعلنا نقول: إن الشائعة ) أو الإشاع (1) في اللغة هي: الخبر إذا انتشر ولم تثبت صحّته من عدمها ولم يكن عند القوم علم بمصدره أو مورده. لكنه من المؤكد أن اللواء في السياق السياسي والاجتماعي لهذا البيان الذي ألقاه في الأيام الأولى لما سمّي بعدها بثورة يوليو، إنما يشير إلى ظاهرة، بل إلى مشكلة، أقرب إلى القلب من المعنى اللغوي المجرّد.
ثمة في الأرشيف مصدر مهم يدلّنا إلى المعنى المقصود. في 1954، أصدر الأستاذ أحمد عطية الله كتاباً صغيراً بعنوان "قاموس الثورة المصرية" شرح فيه أبرز الكلمات والعبارات التي بدأت تزحم الصحف والإذاعة أيامها فكوّنت ما يشبه لغة سياسية جديدة وغريبة ولدت فترعرعت فاستبدّت في أعقاب الانقلاب الذي قامت به عناصر من الجيش في الثالث والعشرين من يوليو، سنة 1952. وإن المتصفح لهذا الكتاب ليجد في الصفحة الأولى من باب حرف الشين، وتحديداً في المساحة ما بين مصطلحيْ "شارة الثورة" و"شباب الختمية"، وفقاً للترتيب الأبجدي، المصطلح التالي:
شائعات: أو إشاعات ترويج أقوال وروايات بين الجماهير لا تستند إلى أساس من الحقيقة، فاذا كانت لغرض تضليل الرأي العام اعتبرت من أعمال الخيانة الوطنية، وعلى هذا الأساس قدم المتهمون إلى محكمة الثورة بتهمة "قيادة حملة من الاشاعات قصدوا بها المساس بالنظام القائم وأركان الثورة وأساسها" وذلك بمحاولة تضليل الرأي العام، وتتصل حملات الاشاعات عادة بأعمال الجاسوسية الأجنبية، وقد حكم على اثنين من المتهمين بالأشغال الشاقة المؤبدة وعلى ثالث بعشرة سنين اشغال شاقة.
واضح إذن أن الشائعات أكثر من "خبر غير مؤكد" فحسب، إذ نرى في كتاب أحمد عطية الله كلمة عادية وقد هزّها التاريخ وأثخنها بجراح دلالية جديدة ومعانٍ سياسية حديثة. صحيح أن الإشاعة لم تكن في يوم من الأيام بريئة، كلا، فلقد ظلّت على مرّ العصور ورمةً خبيثةً في الجسد الاجتماعي ولطالما اندفعت تنهش في جثث التواصل والاتفاقات. هكذا كانت الإشاعة منذ الأزل. لكنها الآن قد أضفت عليها الظروف سمات وأدواراً أخرى، فقد غدت، إلى جانب كونها جريمة يعاقب عليها القانون، عملاً من أعمال الخيانة الوطنية، وعلى هذا الأساس قد تم تمثيلها والتنكيل بها في مسرحية هي من أكبر المسرحيات السياسية وأكثرها ضجةً وضجيجاً في منتصف القرن العشرين، ألا وهي محكمة الثورة. هكذا إذن يصوّر لنا أحمد عطية الله، في هذه الفقرة القصيرة، اللحظة التي انفجرت فيها مشكلة سياسية ضخمة، كما يصوّر لنا طريقة من طرق مواجهتها.
لكن بغض النظر عن تلك القيمة التاريخية المكنونة في هذه الفقرة، فإنه من شأن القاموس، كجنس أدبي وإطار علمي، أن يعزل الكلمة صوتياً عن الضجيج المحيط بها، وأن يحدّ من إرجافها في المجتمع والناس، أو بعبارة أخرى، تظل الإشاعة تعبيراً غامضاً من تعبيرات لغتنا العربية المسيّسة التي نعيشها في عصر الحداثة وما بعدها، بل إنها لتظل أقرب ما تكون إلى الهمس البريء في أذن الرجل المولّه بالكتب قبيل النوم. فالقاموس هو بمثابة قبر الإشاعة، أو مقصلها، بينما تظل آثارها الحية-الميتة متناثرة في نصوص أخرى علينا البحث فيها واقتفاء أصدائها.
نعيد السؤال: ما هذه "الأقوال والروايات" التي بلغت من القوة والبأس بحيث باتت تهدد النظام القائ وأركان الثورة وأساسها؟ ما هو مضمونها؟ وما هي الأساليب والوسائل التي اتخذتها في انتشارها؟ يمكن القول إن معظم هذه الأخبار الت أرّقت الضباط وأقضّت عليهم مضجعهم في الفترة بين 1952 و 1954 هي تلك الحكايات المنتشرة عن انتماءاتهم الإيديولوجية وقراراتهم السياسية، كما تناقلت الألسنة في تلك الأيام ادعاءات كثيرة عن انقسامات في صفوف الجيش والقيادة العسكرية (2) وباستطاعتنا أن نسمع أصداء هذه الشائعات في الخطب التي ألقاها رجال الحركة وخاصة في "المؤتمر الشعبي" الذي انعقد في ميدان الجمهورية في السادس عشر من سبتمبر عام 1953، وقد انعقد من أجل تحقيق هدفين أولهما الردّ على "موجة جارفة من الإشاعات" (3) وثانيهما إنشاء محكمة الثورة لمعاقبة رموز النظام القديم. فقد ألقى الصاغ أركان حرب صلاح سالم، "لسان الثورة وميزانها الحراري"، كلمة شديدة النبرة هاجم فيها حالة البلبلة السائدة صائحاً: إشاعات وإشاعات في كل مكان!
مجلس الثورة منقسم على نفسه وخالد محيي الدين اعتقل وانور السادات أقصي عن المجلس وصلاح سالم على خلاف شديد مع جمال عبد الناصر وتخترع القصص والأحاديث فلان انا سمعته بنفسي قال كذا وعمل كذا إلى آخره.(4)
ولا غرابة في هذا الأمر، أولاً لأن مثل هذه الانقسامات كانت موجودة بالفعل، وثانيا لأنه من المعروف أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الكبرى تكون بيئة خصبة لتداول شتى ألوان الأوهام والخيالات، لا سيما وأن السلطات التقليدية قد اهتزّت عروشها وضاعت كلمتها فحلّت محلها أضغاث أصوات متناثرة هنا وهناك. ولم تكن القيادات الجديدة بإمكانها السيطرة على سوق الأخبار والمعلومات، فالضباط الأحرار مثلاً لم يكونوا – في أول عهدهم بحكم البلاد – قد بسطوا سيطرتهم كاملة على مرافق الإعلام ووسائل الكلام والازدحام، وإنما كانوا في وضع أشبه ما يكون إلى "التخبّط في الظلام" على حد قول المؤرخ جويل جوردن، فكانوا في التخطيط والتدبير يعمهون.
وفي الوقت نفسه، كان القادة الجدد شأنهم شأن غيرهم من الجمعيات السرية يؤثرون التكتيم، والتعتيم، والتستّر على أخبارهم بل وأخبار البلد كلها، الأمر الذي زاد الطين بلّة، وأشعل مصر بلبلة. فكلما ابتعد القادة عن المواطنين، وكلّما ضنّوا عليهم بالمعلومات والإيضاحات، كلّما ازداد تولّع الناس بالقيل والقال، حتى أخذوا يختلقون الأخبار من تلقاء أنفسهم بطريقة ترضي ضمائرهم وتشبع فضولهم. وقد كتب الصحفي والأديب الكبير إحسان عبد القدوس، إبان تلك الفترة، مقالة بعنوان "إن الذي يقف في الظلام قد يحطّم شيئاً!" تعرّض فيها إلى هذا المعنى:
هناك طائفة كبيرة من الوطنيين... لا تستطيع أن ترى ما يدور حولها ... هناك ستار سميك أسود أسدل بينها وبين المسؤولين عن تحرير البلاد، فلم تعد تستطيع أن تفهم أو تكوّن رأياً أو تحدد موقفاً ... إننا لا نفهم الفرق بين الاتصالات الرسمية والاتصالات غير الرسمية... ولا نفهم الفرق بين المحاضر المكتوبة والمحاضر غير المكتوبة ولا نفهم ماذا يقول جمال عبد الناصروماذا يقول روبرتسون، وماذا يقول صلاح سالم، وماذا يقول هانكي، خلال هذه الاجتماعات المتعددة المتتالية... هذا الظلام... هذه الأسرار والطلاسم... هذا الصمت .. هذه الحيرة التي نعانيها... كل هذا يدعو إلى الحذر، وإلى الشك، وإلى التربص...
ولا يستطيع صلاح سالم، والناس وسط هذا الظلام، أن يلومهم إذا فتحوا آذانهم للإشاعات، وإذا أصبحوا ضحية لها... فإن الناس يجب أن يسمعوا شيئاً يطمئنهم، فإذا لم يجدوا غير الإشاعات استمعوا لها وجروا وراءها... ويوم يقول لهم صلاح الحقيقة ، يوم يشرح لهم التفاصيل، ويوم يبين لهم ماذا قلنا وماذا قالوا... لن يجد إشاعة واحدة على قيد الحياة، ولن يجد إنساناً واحداً يسلّم أذنيه للإشاعات ... (7\9\1953، مجلة روز اليوسف)
إن انتشار الإشاعات وإقبال الناس عليها، في نظر إحسان عبد القدوس، مردّه السرية الحاكمة، والصمت المطبق، بل والغموض اللغوي في خطابات الزعماء. لا أحد يستطيع فكّ هذه الطلاسم اللفظية التي تطلع بها الإذاعات الرسمية ليلاً نهاراً. فكان التساؤل، وكانت الحيرة، وكان التربص، وكانت البلبلة. لا شك أن هذا كله كلام خطير، وقد نفهم من هذه التهم المتبادلة بعض الظروف التي انتشرت فيها شائعات معينة ذات مضمون معيّن. إلا أن المشكلة لم تقف عند بضعة خطابات ألقاها الضباط هنا وهناك، بل باتت تشغل بالهم وأفعالهم بصورة أشمل وأعمّ.
طقوس مكافحة الشائعات
تجلّت في الفترة ما بين 1952 و1954 فما بعدها، عمليات منظّمة "لمكافحة الشائعات" اتخذت أشكال متعددة. وجاء في مقدّمتها – فضلاً عن أوامر الحبس التي صدرت ضد بعض شخصيات المعارضة، وأوامر أخرى صدرت لإغلاق بعض الصحف بحجة مكافحة الشائعات والشغب (5) عدد لانهائي من الخطابات الواعظة التي ألقاها الضباط الأحرار. فاللواء محمد نجيب، على سبيل المثال، عاد إلى معالجة هذا الموضوع عدداً من المرات بعد البيان المذكور، فنسمعه يحذّر من "الشائعات" و "الإشاعات" في عدد من الخطابات الموجّهة إلى مختلف فئات المجتمع على مرّ السنتين اللتين قضاهما في الرئاسة.(6) وقد ساهمت بعض أجهزة الدولة في عملية المكافحة بطرق أكثر إبداعاً، ففي يونيو 1953 نشر الصحفي فكري أباظة تقريراً في مجلة المصوّر عن "قصة التليفون رقم 41836 " وهو الرقم الذي يُحثّ المواطن على الاتصال به إذا ما تلقى خبراً يشك في صحته: "ويقوم على محطته استقبال الشائعات، الصول على محمد زهران، وهو شاب لبق، يعرف كيف يقضي على الشائعة فى مهدها... بالتليفون!". هذا إلى جانب بعض الأفيشات التي وزّعتها إدارة الشؤون العامة، إبان تلك الفترة، لتهاجم ما وصفتها بالإشاعات.
ثم كانت القضية السادسة لمحكمة الثورة، التي فتحت ميداناً جديداً للحرب، فلا شكّ أنها أبرز عملية شنه النظام على الإشاعات من حيث مسرحيتها ودراميتها الصارخة. وقد اُتهم فيها كل من أحمد نصيف )موظف سابق في وزارة العدل( وزكريا زهران )ضابط شرطة متقاعد( ومصطفى شاهين )موظف في وزارة الشؤون الاجتماعية( بتهمة "خيانة الوطن، ترويج الإشاعات الكاذبة" وقد لقبتهم المحكمة بـ "ثالوث "الإشاعات.
ترى، ما هو الذي أشاعه هذا الثالوث تحديداً؟ تفاصيل القضية تحفظها لنا "المضبطة الرسمية لمحاضر جلسات محكمة الثورة" التي نشرتها المحكمة عقب انتهائها سنة 1953.(7) إنها وثيقة تاريخية دسمة، تنقل أقوال المتهمين والمحامين والقضاة على حد سواء، حتى لتفضح أمام القارئ مدى هشاشة التهم في بعض الأحيان. فالشائعات التي تنسبها المحكمة إلى هذا الثالوث، وإن كانت ذات مضمون سياسي "إثاري"، إلا أنها عبارة عن كلام عام أقرب إلى التذمّر والتضجّر منه إلى التخريب. ويقول أحد الشهود عن شائعات أحد المتهمين:
بيتكلموا كلام وحش ضد الحركة )الضباط الأحرار(، فأحمد نصيف قال عن تصريحات جمال عبد الناصر انها تهويش علشان الشعب ينام … وكان كل مرة يقول عاوزين يخمدوا الشعب المغفل. ومرّة بعد قطع المفاوضات قال: الانجليز قطعوها علشان الحركة لا تمثل الأمة، ولازم يكون فيه انتخابات وبرلمان، ومرة قال: ان الانجليز احتلت من الاسماعيلية الى الزقاقيق، وان التجار متذمرون، وضباط الجيش متذمرون. (ص. ٣٣٨)
فدققت هيئة المحكمة مع الشاهد، فأدلى بتصريحات مشابهة كما أنه أورد شائعة أخرى تمسّ سمعة والدة عبد الحكيم عامر. فصدرت الأحكام، وتم اعتقال الثالوث والتنكيل بهم، وكأن الجرثومة قد اجتثت من موطنها الفاسد لتعيش الأمة حرة مطهّرة من هذا المرض الشفاهي الخبيث.
كانت هذه المحاكمة، وغيرها من نصوص "المكافحة"، فضلاً عن كونها مسرح لإثبات جرائم الأعداء، معرضاً صارخاً لهواجس الضباط المتعلقة بالإشاعات وإحساسهم بـ "خطورتها" الخاصة. ونسمع المدعي العام، على سبيل المثال، ينقل إليها الذعر المحيط بها، إذ يقدّم للمحكمة ما يسميه "لوناً جديداً من الاتهام ونوعاً جديداً من المتهمين". ونفس هذا التصريح أعاده البكباشي أنور السادات–الذي كان أحد القضاة الثلاثة في محكمة الثورة–في مقالة نشرها بعدها بشهور، فقال فيها أن الاشاعات هي "سلاح جديد"، بل هي"سلاح برّاق"، ذو "بريق"، ابتدعه أنصار الملك والنظام الإقطاعي "ليناسب لون المعركة الجديدة". وكأن الشائعات ظاهرة لم يعرفها الناس من قبل!(8)
من خلال البحث في نصوص المكافحة، قد نتوصّل إلى أن الخطورة الخاصة للشائعات لترتكز على جانبين أساسيين، بصرف النظر عن مضمونها أو محتواها الذي يلفّه الغموض في أغلب الأحيان: أولاً، مصادر الإشاعة الغريبة، وثانياً، تأثيرها في جموع الشعب، وهو تأثير ساحق مخيف يطغى عليه الطابع السحري الغيبي. فبالنسبة لمروّجي الشائعات والأطراف الواقفة وراءها، نراهم في نصوص المكافحة وكأنهم صور مجسّدة لمختلف مخاوف الضباط على أنواعها سواء كانت مخاوف سياسية، اجتماعية، أو روحية، أو جنسية حتى. فهم "بعض ذوي النفوس الضعيفة" أو " فئة حاسدة" أو " أعوان الاستعمار" أو "العناصر الرجعية" – وهي كلها تعبيرات مطاطة انتقدها الكاتب إحسان بعد القدوس وقتها بأنها " طلاسم " فارغة من أي معنى. (9) أما الاستاذ فكري أباظة فيقسم مروجي الشائعات إلى مجموعتين احداهما "نفر من العابثين الماجنين" وأخراهما عملاء "الطابور الخامس". وقد طوّرت محكمة الثورة هذا المعنى وزوّدته بالمحسنات البديعية والألفاظ المسرحية، إذ وصفت "ثالوث الإشاعات"– وهو لقب يوحي بالمعاني الوثنية والمغازي الميثولوجية – بأنهم "ذوو النفوس الشريرة النزاعة إلى التدمير" فقد تجمّعوا يومياً أمام محل لبيع السجائر حيث أطلقوا إشاعاتهم العديدة. وهذا المحل، في نظر القضاة والمدعي العام، هو "الوكر الحقير" الذي اندلعت منه الشائعات لتعمّ أرجاء المدينة، أما صاحب المحل، المدعو ابراهيم، فهو "الصعلوك" و"المخمور القواد الذي لا يفيق" و"يبتاع كوكاكولا". هكذا إذن تنسب الإشاعات إلى مكان مشحون بالدلالات الثقافية السيئة، والرموز اللاأخلاقية الحوشية.
أما من ناحية تأثير الإشاعات في الجماهير، فكثيراً ما يشبّهها أبطال المكافحة بـ "السموم"و"الجراثيم" نظراً لانتشارها المعدي السريع والسري، إذ كانت تنبثق من الوكر المذكور لتطير، "فتخرج من حي إلى حي، ومن مدينة إلى مدينة، لتعمّ البلاد" فهي بمثابة فيروس فتاك أو أشباح تحملها الرياح. وقد صرّح محمد نجيب أمام المؤتمر الشعبي، المذكور أعلاه: "أشفقنا على ما أحدثته الإشاعات في نفوس بعض الضعفاء الذين ما زالوا محتاجين إلى الكثير من التربية الوطنية، وإلى الكثير من التوجيه الصحيح "فالخوف كله من أن هذه الشظايا الكلامية سوف تخطف الشعب خطفاً من بين أيادي الحركة المباركة، إذ أن هذا الشعب، في نظر الضباط، عبارة عن مادة مرنة مطاطة يُفعل بها ولا تفعل.
إن خطورة الإشاعات تبدو وكأنها خطورة خاصة، غريبة، تعبّر عنها لغة خائفة وألفاظ متوجسة، وقد تدلّنا هذه اللغة وتلك الألفاظ إلى منطق معيّن يلهم ويشكّل وينظّم عمليات المكافحة.
منطق الخطورة
"إنه ليس من كل الأصوات تجب الهيبة". فلماذا يخاف الأسد صوت الشائعات؟
نحن كلنا نحس بشيء خرافي غيبي في انتشار الشائعات، فهي بالنسبة للكثيرين لغزٌ مستغلق على الفهم، هي بمثابة "كائن سحري خارج عن المألوف" حتى ليضفي عليها البعض "عالماً روحياً ما" على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي جان-نويل كابفيرير. (10) وهو الأمر الذي تعزوه باتريشيا سباكس إلى مخلّفات المعتقدات القديمة في القوة السحرية للغة. (11) وقد تكون هذه الخطورة السحرية للشائعات، في بعض الأحيان، لا تعدو أن تكون تقنية من تقنيات المنهج الخطابي والبلاغي للنظام الوليد، أي أن قادة الحركة كان يطلقون كلمة "إشاعة" على كل خبر خرج عن سيطرتهم ولم يرغبوا في انتشاره، وذلك بهدف التعتيم والتكتيم، كما أن نسب شائعات معينة إلى عدو خارجي غامض، هو حيلة ترهيبية معروفة. لكن الكلام عن الخطورة، في العادة، ليس عملية براجماتيكية وعقلية بحتة، تتم وفقاً لخطّة سياسية أو علمية منظّمة، وإنما ينبثق أيضاً عن خليط من النوازع النفسية والممارسات التفسيرية التي تصوّر للواعظين المتوجّسين هذه المشكلة الخطيرة الغريبة بشكل معين.
إن المنطق السحري الذي يطغى على تعامل الضباط الأحرار مع "الإشعاعات" ليشبه إلى حد كبير تفكيرَ الدكتور دانيال شكرايبر الشهير، مؤلف كتاب "ذكريات مرضي الذهاني"، إذ يتحدّث عن "الإشعاعات" التي يرى فيها خطورة بالغة فيشكو ظلمها وبطشها بجسده كما بعقله. ويريد بـ "الإشعاعات" أدوات التحكّم الذهني والجسدي التي يبثّها كلّ من زرادشت وأودين وثور والإله الأب بغرض السيطرة على الدكتور المريض، وقد شبّهها أيضاً بالغزو والتطفّل، وارتبطت عنده بالمياعة والشبقية المفرطة. فتكون بمثابة عناصر هدامة، يحسّ بها المرء المحاصَر، والإنسان الموسوس، فهي تمزّقه وتهدّده بالانهيار الروحي والأخلاقي والنفسي، إنها تهدّد بتفجير المشروع الحداثي للرجل المتماسك المتحكم في جميع شؤونه وشؤون الدنيا، إذ أنها تثنيه عن عزمه وتغريه عن حزمه وتعبّئ رأسه بمهملات الغرباء.
فلعّل هذا المنطق السحري، هذا الإحساس المفرط بخطورة الإشاعات، ناجم عن مثل هذا الوسواس التفسيري –البارانويا– وهو المرض الذي كان يعانيه الدكتور شكرايبر، حسب مقالات فرويد المشهورة عنه. فإذا فهمنا الخوف من الشائعات كنوع من البارانويا –لإشاعات هي الإشعاعات- إذن نستطيع أن نتفهم بعض هذه الصور الغريبة والخطيرة التي تظهر عليها الشائعات في خطابات الضباط، الأحرار منهم وغير الأحرار. أولا من ناحية المصادر الغريبة المنسوب إليها الشائعات: ان البارانويا، في حالة الدكتور شكرايبر وغيره، لَهُوَ مقرون بذكورة مهددة بالانهيار، وبالتفتت وفقد السيطرة – فتكون مصادر الإشاعات، بالتالي، مرتبطة بشتى ألوان الانحلال الجسدي والجنسي–يقال مثلاً إن "ثالوث الإشاعات كان مرتبطاً برباط الإثم والخيانة، وقد كانت تقوّي أواصر هذا الرباط تلك العلاقة المريبة التي تقوم على النساء والخمر والمخدّرات"(12). وإن صورة الأنثى الماكرة الخادعة لهي صورة قديمة للإشاعة، تعود إلى فاما، "ربة الشائعات" الأنثى عند الشاعر الروماني أوفيد، وتتصل أيضاً بالشخصية الكاريكاتيرية "إشاعة هانم" التي كان يرسمها رسّام الكاريكاتير ألكسندر صاروخان أثناء الحرب العالمية الثانية.
البارانويا التفسيري ينظّم منطق الخطورة والمكافحة من ناحية التأثير المتوهم أيضاً. ان البارانويا مقرون بعملية إسقاط خفية: نوايا وقوى الآخر المعتدي هي صورة معكوسة للذات المثالية، أو بعبارة أخرى، إن الخطورة التي يتوهّمها الضباط في كلمات الآخر هي نفس الخطورة، كيفاً وكماً، التي يدّعونها لكلماتهم هم. عملية الإسقاط هذه هي انعكاسٌ لنظرية حسية كامنة تلوّن رؤيتهم لقوّة الكلمة وتأثيرها بصورة عامة، حيث يفترضون أن كلمة الضابط هي كلمة مقدسة سحرية، بمثابة أمر مقضي فور إطلاقها. كلمة الضابط لها خطورتها، ولها قدرة كبيرة على التهدئة والتهييج: وعملاً بهذا المبدأ العام، يصرّون ويلحّون على خطورة إشاعات الأعداء، وكأنهم يريدون إثبات وتعميم هذه الخطورة للكلمات الطائرة بحرياً وقبلياً. هكذا يكون "ثالوث الإشاعات" هو الانعكاس المباشر للضباط القضاة الثلاثة في محكمة الثورة، هكذا تكون خطورة الأجندات الخارجية هي الانعكاس المباشر لخصوبة اللواء حسن الرويني وقدرته الخارقة على التهدئة والتهييج. هكذا يكون صوت الثور هو صوت الأسد. هو الصوت الذي يهابه تارة وينفخه هيبة تارة أخرى.