من الملفت للنظر أن نرى، أنَّ بعض التحليلات التي تنتقد أفكار التغيير الثوري في مصر وتروج لوهم التحديث السلطوي القادم تدَّعي بنفسها الواقعية والعقلانية المترفعة فوق التفكير الخيالي الساذج للثوريين أصحاب النوايا الحسنة والتي تقود إلى الجحيم. بينما في حقيقة الأمر نجد أن هذه التحليلات، وما يتنج عنها من مقترحات وتصورات سياسية، لا تزيد عن تفكير خيالي، تفكير تواق منعزل تماماً عن واقع ما حدث وما يحدث وما يمكن أن يحدث في مصر. واقع عمل مؤسسات الدولة وواقع عمل الاقتصاد السياسي للبلاد وواقع المصالح الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة والسائدة والمتضاربة، وواقع الاحتياجات والتوقعات والمطالب الاجتماعية ومآلات الأمور والأوضاع في مصر. هذا التفكير الخيالي يهرب من استحكام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتعقدها في مصر في سياق ظرف تاريخي قاسٍ، حقيقي وغير مستورد أو متَخيَّل. وهو محصلة تراكم عشرات السنين من فشل الدولة والمجتمع في مصر إضافةً إلى أوهام ودجل سياسي لا يمتلك فرص واقعية للتحقق. وذلك ببساطة لأنَّ هذا الظرف التاريخي سيفرض نفسه على كل من يتصور أنّ هناك إمكانية للمسكنات أو الجري في المكان أو الهروب إلى الأمام. ستنفجر كل الأزمات والمشكلات المتراكمة والمتوارثة عن قرنين من الزمن من فشل الدولة الحديثة في مصر، ستنفجر هذه الأزمات في وجوهنا الواحدة تلو الأخرى .
وأدرك تماماً أنّ تسطير المشكلات والحلول بدافع الاستسهال بها هو إغراء شديد الجاذبية، لكن المضحك حقاً هو أن تقع فريسة له أصوات أهل التحديث يا ليل التي تدعي العقلانية والواقعية والعلمية والمنطقية وهي بذلك تصطف جنباً إلى جنب مع خصومها الألداء أبناء الإسلام السياسي في نادي أساطير السياسة المصرية.
بدايةً أنا لا أختلف مع من يرى أنَّ ثورة يناير 2011، قد انهزمت مرحلياً وإن كان هذا لا يعني انتهاءها لأنها تبقى في النهاية -ومن البداية وبعيداً عن خيالات المتحمسين والرومانتيكيين كانت الثورة هكذا- صيرورة تحول تاريخي طويل المدى يزخر بتناقضات اجتماعية وتداخل مسارات تاريخية متنوعة لدرجة تعقيدها وانحطاط قواها المحركة. كما أني لا أختلف أيضاً مع من يرى أنّ المرحلة القادمة ستشهد تمكيناً سياسياً للنظام الحالي بكتلته الحاكمة القائمة على تحالف مؤسسات الدولة القديمة وطبقة ”البيزنس“ عبر شبكات مصالح متشعبة في الاقتصاد وهياكل الإدارة والإعلام مدعومة إقليمياً ودولياً. لكنّي أختلف مع أصحاب نظرية ”الجناح الديمقراطي داخل النظام“ وتوأمها نظرية ”الإصلاح من الداخل“ لأني لا أمتلك أي أوهام عن طبيعة النظام الذي يراد تأسيسه حالياً وأعني بذلك الطبيعة السلطوية وغير الديمقراطية لهذا النظام ورغبته الواضحة جداً في تحجيم المجال السياسي أو ما تبقى منه و ترويضه عبر وصاية أجهزة الدولة والإعلام وتدخلات الأمن والقضاء والتحكم في العملية السياسية الانتخابية من المنبع، على غرار ما تفعله دولة الملالي مع مجالها الانتخابي في إيران ، لتصفية القوى السياسية التي يمكن أن تشكل مصدر قلق وإجهاضها بشكل ممنهج والإبقاء على تعددية شكلية وغير فعالة دونما الحاجة إلى فجاجة تزوير الانتخابات في عهد مبارك والسادات أو أكثر من ذلك إلى فجاجة إلغاء الانتخابات برمتها كما في عصر عبد الناصر.
لكن ما أختلف معه كلياً، وهو ما سأقوم بتفصيله لاحقاً، هو قدرة هذا النظام الجديد/القديم على تجاوز الأزمات التاريخية لنظام ما قبل ثورة يناير 2011، ألا وهي أزمتي الشرعية والإنجاز. أما بالنسبة للشرعية فتعني تمثيل ودمج القطاعات الشعبية الأوسع داخل كتلة النظام الحاكم، بينما الإنجاز فيعني أنّ تحقيق ”تحديث“ للمؤسسات العامة هو كفيل بتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة بشكل محسوس من قبل غالبية المواطنين.
وأن هذا الفشل سيبقى عنوان الأزمة المستحكمة والمستمرة التي ستبقى تطارد النظام و تنتج الفشل وعدم الإستقرار عندما ينتهي مولد سيدي السيسي وتحين ساعة الحقيقة ويقف النظام أمام استحقاقات الواقع الاقتصادية والاجتماعية وهناك نسختان أو صيغتان متداولتان لأسطورة التحديث هذه في سوق تحليلات أهل التحديث يا ليل، فهناك التصور النيوليبرالي الموروث عن المرحوم مشروع جمال مبارك غير المأسوف على شبابه، بالإضافة إلى التصور النيوناصري الذي ينبئ بالتحديث الدولتي السلطوي بقيادة زعيم شعبي جديد ”جاء على موعده مع القدر“ أو البونابرت الذي يأتي متبختراً بنظارته الشمسية السوداء ليكرر قصة جمال عبد الناصر في ثوب جديد ألا وهو الفريق أول عبد الفتاح السيسي نجم الشباك السياسي في مصر في الوقت الحالي.
لنبدأ بالأسطورة الأولى القائمة على انحيازات أيديولوجية معروفة تؤمن بقدرة السوق الحرة على تحقيق النمو الاقتصادي، حيث يتم اختزال التنمية بمفهومها الشامل هنا إلى المعدل الحسابي لنمو الناتج القومي. وهذا النمو الاقتصادي بدوره سيكون قاطرة التحديث والتقدم في المجتمع. فنجد هنا خريطة ذهنية تبسيطية جداً شديدة الجمود والاختزال تنظر إلى الاقتصاد على أنه تجربة علمية مختبرية تنميطية وأنه مسألة تقنية أي تطور تقني وميكانيكي. فحسب هذه الأسطورة لا تحتوي العملية على أي صراعات ولا تناقضات ولا تضارب مصالح كما لا تحتاج إلى تدخل سياسي وليس لها أي صلة بالسياسة أصلاً، اللهم إلا ما توفره السياسة من حدود دنيا كضبط الأمن وتنفيذ القانون من أجل تمكين وتسهيل حركة قاطرة التقدم والنمو الاقتصادي. إذاً فهناك إجحاف واضح ليس فقط ضد ضحايا هذه القاطرة من جماهير شعبية تدهسها أو قد لا تمر على محطاتها أصلاً ولكن أيضا ضد مفهوم السياسة كساحة للصراعات والتدافعات وعلاقات القوة والموائمات وإعادة التشكيل والإزاحة والدمج القسري والطوعي والنضالات من أجل تمكين المستضعفين ليتملكوا مزيداً من الحقوق والمكاسب وتحسين شروط الحياة للناس والضغط نحو تغيير السياسات العامة والقوانين والتشريعات من أجل هذا التمكين والتحسين.
وكل هذا يجري مع عدم الإدراك لحقائق الواقع في مصر أصلاً، فحديث أهل التحديث الجمال مباركي يا ليل من قارئي ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاجو عن اقتصاد السوق الحرة في مصر، مصر البلد الذي تتحكم فيه مؤسسات الدولة البيروقراطية والعسكرية والأمنية في كيفية تخصيص الموارد الاقتصادية وفقاً لاعتبارات الأمن القومي ورؤية البيروقراطية، هو حديث مضحك لا أكثر ولا أقل. والأكثر إضحاكاً هو الرهان على مؤسسات الدولة هذه لتوليد اقتصاد السوق الحرة هذا في مصر.
ويرى أنصار التحديث الجمال مباركي يا ليل، أن ”المعجزة الاقتصادية“ قد تحققت بالفعل في عهد جمال مبارك لكن المشكلة كانت فقط في أنّ نظام مبارك لم يضع آليات مؤسسية ناجحة لانتقال السلطة من بعده بشكل منظم وآمن، لجمال مبارك ومجموعته بالطبع، ويتحمل مسؤولية هذا الخطأ القاتل مبارك نفسه والعسكر ومجموعة الحرس القديم فقط، بينما جمال مبارك ورجاله فقد قاموا بدورهم وحققوا المعجزة الاقتصادية بالفعل. ومن ثم فأهل التحديث الجمال مباركي يا ليل، يرون أنه وحيث تتجه الأمور الآن لتراجع زخم قوي الاحتجاج التي ملأت الشارع عبر السنوات الثلاثة الماضية منذ اندلاع الثورة وبعد هزيمة الإخوان وتشديد قبضة الدولة على الأمور في مصر- برضا شعبي- فالفرصة مواتية الآن لإعادة تكرار التجربة مع مراعاة تجنب المعوقات التكتيكية التي أوقفت القاطرة في المرة السابقة.
لن أخوض هنا في الجدل الفكري والأيديولوجي والتنظيري المرافق عادة لحوارات النيوليبرالية وخصومها وقد يتسع المجال لهذا في مقال آخر لكني سأكتفي هنا فقط بالكلام عمّا يخص الاقتصاد السياسي، ولنبدأ أولا بتشخيص واقع الأزمة الاقتصادية في مصر.
إنّ أزمة الاقتصاد في مصر هي أزمة هيكلية وبنيوية حادة، بل في حقيقة الأمر هي مجموعة أزمات سأقوم بسردها بشكل موجز:
1- اختلال رهيب في ميزانية الدولة: أي ضخامة الإنفاق على الأجور والدعم وخدمة الدين إلى جانب الموازنات الدولتية الخاصة غير المعلنة مثل الجيش والصناديق الخاصة والأجهزة الأمنية مقابل ضعف الموارد بسبب فقر الإنتاج وتقلب موارد الريع وخلل نظام الضرائب. إنّ هذا الاختلال مرتبط بعوامل عديدة سياسية واقتصادية بل وعملية أيضا تتعلق بحجم هذه الدولة المتضخم ببيروقراطيتها وهيئاتها الاقتصادية والخدمية والمحلية وأجهزتها الأمنية والعسكرية وطبيعة عمل الدولة وكيفية تخصيص مواردها بين مؤسساتها المختلفة وتحديد أوجه إنفاقها والاعتبارات السياسية والعملية التي تحكمها.
2- الاعتمادية على الريع من الداخل والخارج وتدفقات النقد لا الإنتاج المولد للثروة وفرص العمل والتنمية والتقدم الحقيقي حتى بمقاييس مدرسة شيكاجو.
3- سياسات حكومية عامة غير قائمة على الكفاءة وحسن إدارة الموارد لأنها محكومة بمنطق تقسيم المغانم ”شيلني وأشيلك” و”سيب وأنا أسيب” والفساد وإهدار الموارد وتعظيم مكاسب المتنفذين في لعبة توازن المصالح والمغانم بين مؤسسات الدولة بعضها البعض بالإضافة إلى قطاعات البيزنس وعلى حساب من هو خارج اللعبة في غياب كامل للمحاسبية والشفافية. وكل هذا مرتبط ببنية الدولة السلطوية غير التنموية في مصر. يحلو لي دائما تذكير أهل التحديث يا ليل أنّ الديمقراطية تعني حرية تداول المعلومات والمحاسبية والشفافية وهي احتياج اقتصادي تنموي في مصر وليست فقط احتياج سياسي.
4- ضعف كبير في الاستثمارات الحكومية والاستثمارات من القطاع الخاص في الصناعات كثيفة العمالة المنتجة للسلع والخدمات، وهي معضلة التنمية في مصر المستمرة عبر العقود الماضية.
5- أزمة الطاقة المستفحلة منذ أيام مبارك وهذا يشمل الوقود والكهرباء.
6- قطاع زراعي غير منتج وغير كفء، يعاني من الاختلالات الهيكلية في التسويق والإنتاج والتوزيع مما يؤدي إلى غياب الأمن الغذائي.
7 - تدهور مستوى المعيشة نتيجة كل ما سبق بالإضافة إلى البطالة وسوء توزيع الدخل وعوائد الاقتصاد، وانهيار التعليم والقطاع الصحي، وتدهور مستوى المرافق والخدمات الأساسية والبنية التحتية نتيجة ضعف الإنفاق الحكومي المخصص لها والخلل في الأداء الحكومي نفسه، وأزمة المواصلات والتخطيط العمراني والإسكان، وتدهور مؤسسات الدولة سواء الإدارة والمحليات والخدمات والإنتاج أو مؤسسات العدالة كالشرطة والقضاء.
(لهواة الأرقام راجعوا مؤشرات التنمية البشرية والاقتصادية في مصر سنة 2010 في تقرير التنمية البشرية العالمي الذي تصدره الـ UNDP وتقرير التنمية البشرية العربية.)
8- تفشي العشوائيات والعنف الاجتماعي والجريمة وإحباط الشباب واختلال الديوموجرافيا السياسية في البلاد.
9- أزمات منابع مياه النيل والإرهاب في سيناء وغيرها من أزمات الأمن القومي ذات الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية.
كل هذه الأزمات هي نتاج تراكم فشل الدولة المصرية غير التنموية وغير الديمقراطية بالطبع عبر العقود المختلفة وكلها موروثة من عصر مبارك. إذن لو أنّ أقصى طموح أهل التحديث يا ليل هو العودة إلى الوضع الاقتصادي إلى ما قبل ثورة 2011 وإلى أيام اقتصاد مبارك لكي تبدأ مسيرة البناء العظيم وتنطلق القاطرة الموعودة فهذا يعني إفلاس مريع ينافس وبشدة قصة إفلاس مشروع النهضة عند الإخوان المسلمين. لقد كشفت الثورة عن استفحال هذه الأزمات فهي ناتجة عن هذه الأزمات ولم تكن المسببة للأزمة الاقتصادية وعدم إدراك هذا هو إنكار للواقع.
وقصة جمال مبارك التي شكلت مصدر إلهام الفصيل الأول من أهل التحديث يا ليل كلها هي نمو في الريع، تحقق بفضل تدفقات الأموال للاستثمار في العقارات وفي الاتصالات وبسبب الوفورات القادمة من الخليج والناتجة عن ارتفاع أسعار النفط، بالإضافة إلى ارتفاع مداخيل السياحة وريع الغاز الطبيعي. لكن هذا النمو لم يحقق أبدا التنمية في القطاعات الإنتاجية الصناعية أوالزراعية ولا انعكس على تحسين توزيع الدخل أو ارتفاع مستوى معيشة القطاعات الأوسع من المواطنين (لنتذكر كوميديا تصريحات أحمد عز الشهيرة عن ارتفاع معدلات استهلاك السيارات والموبايلات وأجهزة التكييف).
ناهيك عن الفشل في إصلاح أداء مؤسسات الدولة، ففي نهاية الأمر ارتبط فشل تجربة جمال مبارك أيضا بالإشكاليات الناجمة عن شخص جمال مبارك نفسه، وعن افتقار مشروعه النخبوي إلى أي ظهير شعبي منظم أو أي تنظيم اجتماعي مؤسسي من أي نوع، وإلى الفساد الأخطبوطي الذي صاحب تنفيذه. فالإصلاح عمليا مستعصٍ في نظام حاكم قاعدة تأييده ومناط عمله هي الدولة المتضخمة نفسها بأجهزتها الأمنية والعسكرية والبيروقراطية صاحبة المصالح المتراكمة وصاحبة قواعد العمل الثابتة والمقدسة برغم أنف الجمال مباركي. كما أنّ هذا النمو لم يكن حدثاً استثنائياً أصلاً فهو شبيه بمعدل النمو العالي جداً الذي تحقق أيام سادات في السبعينات بسبب تحويلات المصريين في الخليج وارتفاع ريع النفط ، إلا أنه لم يحقق تنمية صناعية أو زراعية حقيقية ولم تمض سنوات قليلة إلا ودخلت مصر في أزمة اقتصادية مستفحلة في الثمانينات أوصلتها إلى مشارف الإفلاس المالي. إذن فهي نفس قصة معدل النمو أيام جمال مبارك ونفس النهاية أيضاً، لأنه بعد 2008 ومع الأزمة العقارية والتمويلية الدولية انهار معدل النمو إلى 4 في المئة وانتهت الحدوتة.
إذن فأهل التحديث يا ليل الجمال مباركي بالاضافة إلى أنهم أسرى عمى أيديولوجي نيوليبرالي كامل، وهذا يبدو مضحكاً جداً لأنهم طالما صدعوا أدمغتنا بالعقلانية والبراجماتية والعلموية وضرورة التحرر من الأيديولوجيا ، فهم أيضا أسرى لتصورات ذهنية تبسيطية وسطحية مستقاة من تجاربهم السابقة وقائمة على العودة لأيام جمال مبارك، عاجزين عن فهم أنّ الواقع اختلف لأن أيام جمال مبارك أثبتت فشلها وماتت، ليس بسبب حدوث مؤامرة عليها أو بسبب معوقات ظرفية وتكتيكية ولكن لأنها كانت فاشلة في صميم مشروعها. وهؤلاء في تمسكهم بتصوراتهم الذهنية منفصلون تماما عن الواقع ومتخيلون أنّ الواقع هو من يجب عليه التكيف على مقاس هذه التصورات وليس العكس.
نأتي إذن للفصيل الثانيمن أهل التحديث يا ليل ألا وهو الفصيل النيوناصري والذي يرى في السيسي عبد الناصر الجديد أو فلاديمير بوتين جديد والقادرعلى قيادة دولة قوية تصلح من مؤسساتها وتحدث أداءها وتلم شتات المجتمع وتفرض عليه قبضة حديدية لتنتزع منه تأييداً لمشروعها التحديثي الاقتصادي والاجتماعي المفروض من أعلى... ولن أخوض أيضاً في الجدل الفكري والتنظيري والنفسي حول الخرافات المصاحبة لفكرة المنقذ المخلص آفة حارتنا الخلاصية السياسية والميتافيزيقا السياسية المرافقة للذعر من انهيار العالم القديم المألوف والجوع إلى حنان المخلص من التيه وأحضانه الدافئة، وسأكتفي فقط بالكلام في الاقتصاد السياسي.
وأتوقف كثيراً أمام غرائبية تعلق الآمال على عبد ناصر جديد أو بوتين مصري في شخص جنرال هو نتاج المؤسسة العسكرية في عصر مبارك البليد والذي شهد ترهل وتراجع كبير في أداء وكفاءة كل مؤسسات الدولة، جنرال لم يظهر حتى الآن أي مواهب أو قدرات استثنائية إلا في الخطابات العاطفية والحديث عن الرؤى الغيبية الساذجة التي يحلم بها وتوليد يوفوريا التعلق الشعبي بالجيش كمخلص والشبق العاطفي بالبيادة عند البعض ونجاحه في قيادة الجيش والشرطة في مواجهة الإخوان والتجييش الوطني في الحرب ضد الإرهاب. فبعد أكثر من 6 أشهر من توليه مقاليد الأمور في البلاد، فرسمياً الفريق السيسي هو نائب رئيس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع ولكن عملياً، وبما لا يخفى على أحد، هو الرجل الأول في الحكم حالياً، لم نشهد أي تحسن ولونسبي في أداء مؤسسات الدولة بدءا من تفشي الجريمة وافتقار الشرطة إلى كفاءة البحث الجنائي مروراً بأزمات المواصلات والمرور والقمامة المستحكمة حتى في الأحياء الراقية في القاهرة والإسكندرية وتفشي البناء العشوائي والعمارات المنهارة في الاسكندرية وغيرها. وكل هذا نتيجة ضعف الرقابة الحكومية وترهل مؤسسات الإدارة وأزمة الطاقة المستفحلة، فلولا ضخ الإنعاش من أولياء النعم في الخليج ، إنتهاءً بحرب ضد الإرهاب في سيناء لم تنجح في القضاء على هذا الإرهاب في سيناء. فواقع العمليات الإرهابية المستمرة وإيقاعها للخسائر في صفوف الجيش يكذب تأكيدات القيادات العسكرية والأمنية المستمرة حول السيطرة على الأوضاع.
وهذه كانت مجرد أمثلة على غياب أي علامات أو بشائر حول قدرة الجنرال ساري عسكر بونابرته الموعود على إصلاح مؤسسات الدولة المتدهور أداؤها، تلك الدولة العاجزة عن جمع الضرائب من مواطنيها بشكل فعال وكفء، الدولة العاجزة عن توفير الأمن للمواطنين في أنحاء مصر والعاجزة عن تنفيذ أحكام قوانينها هي نفسها الدولة العاجزة عن توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها من علاج ومياه وكهرباء وصرف صحي في أنحاء مصر المختلفة، الدولة العاجزة عن مواجهة انفلات الباعة الجوالين في ميادين القاهرة والاسكندرية الرئيسية، الدولة العاجزة عن تطبيق قوانينها على عفاريت الأسفلت من سائقي ميكروباص وتوكتوك في جميع أنحاء مصر، الدولة العاجزة عن مراقبة الأسواق حيث تتحول سياسات التسعير من سياسات ملزمة إلى سياسة ”نصائح استرشادية“ خلال أيام قليلة، الدولة العاجزة عن إدارة المرور في مدنها الرئيسية، الدولة العاجزة عن مواجهة احتكارات السوق من حفنة محدودة من التجار المرتبطين بامتدادات عضوية داخل أجهزة الدولة نفسها. وبالمناسبة وبينما يقضي أحمد عز، الحالة الأشهر للاحتكارات في مصر، عقوبته داخل السجون فما تزال مصانعه محتكره لسوق الحديد في مصر حتى لحظتنا هذه، الدولة التي تعجز عن إدارة مزلقانات القطارات وحولت شبكات السكك الحديدية والطرق والشوارع إلى مزارع للقتل الجماعي تضرب أرقام قياسية عالمية في عدد حوادث الطرق السنوية. الدولة التي تتصارع هيئاتها القضائية المختلفة على حصص النفوذ داخل الدستور والتي تتشاجر مؤسسات العدالة داخلها أي الشرطة والقضاء مع بعضها البعض على أكبر الأسباب وأتفهها شأناً، الدولة التي تقوم أجهزتها الأمنية والقضائية والإعلامية بمطاردة البط والحمام والعرائس للاشتباه الأمني في خطورتهم على ”الأمن القومي“ وحبس طفل ووالده لأنه ذهب للمدرسة بمسطرة عليها شعار رابعة ومطاردة شخص أشار بشعار رابعة لطائرة من فوق سطح إحدى العمارات، الدولة التي تحولت إلى عزب وإقطاعيات وممالك وطوائف على غرار إقطاعيات مراد بك وإبراهيم بك في أواخرعصر المماليك. عن أي دولة يتحدث هؤلاء؟ وعن أي علامات للتحديث الدولتي يراها هؤلاء في شخص ساري عسكر بونابرته الموعود؟!
وبقدر نقدي ورفضي للناصرية إلا أني أجد أنه من الظلم والابتذال والتسخيف لها أن يتم الزج بها في معرض الدعاية للخيار السيساوي. فالتجربة الناصرية قامت بتأسيس دولة سلطوية أبوية قوية وعفية ذات قدرة عالية على الضبط والتحكم لكي تقود عملية التحول الاقتصادي والسياسي، والتي كان مضمونها الحراك الاجتماعي وإعادة توزيع الدخل، في سياق سياسات تحرر وطني في مواجهة قوى الاستعمارين القديم والجديد. أين هذا من الجنرال القادم لحكم مصر على رأس دولة أبوية متداعية بقدر قمعيتها، ومواردها مفلسة وقاصرة عن الاستحقاقات الأبوية التوزيعية الزبونية وفي سياق تدجين وخضوع للمصالح الخارجية المهيمنة إقليمياً ودولياً؟!
لكن الأهم والأخطر هو أنه لا توجد أي مؤشرات واقعية حتى الآن تدل أنّ أجنحة السلطة الحاكمة عندها أي نية أو رغبة حقيقية في الإصلاح أو حتى إدراك لعمق وخطورة الأزمة، بل ما تزال هذه الأجنحة مصممة على تعظيم مكاسبها وامتياراتها الخاصة. بدءا من الجيش الذي اتسعت شهيته الاقتصادية بشكل ملفت وصارخ في الشهور الأخيرة وهاهو يستحوذ على كل عقود الإنشاءات والبناء الجديدة الخاصة بالحكومة بالأمر المباشر. ويضع يده على العديد من مصانع وهيئات ومرافق الدولة التي تعاني من المشاكل لإضافة المزيد إلى إقطاع جمهوريته الاقتصادية الخاصة باسم ”تحفيز الاستثمار“ أو ”المصلحة الوطنية“ أو”معالجة مشاكل فشل الإدارة المدنية“ أو ”مواجهة الكساد“ أو ”ضرورات الأمن القومي ومواجهة الإرهاب“ وهناك إمكانية حقيقية لعسكرة الاقتصاد هنا، ربما على طريقة كوريا الشمالية، وهذا بالطبع يضرب في مقتل كل تصورات الاقتصاد الرأسمالي عن حرية المنافسة ومنع الاحتكار ودور السوق في تحقيق النمو والتقدم، بل إنه يفتح الباب أمام الفساد الديناصوري أيضا. والفساد لن يكون فقط فساد جمهورية الجيش الاقتصادي الخاص خاضعة للضرائب أو المراقبة والمحاسبة من أي جهة في الدولة أوالمجتمع تمت دسترة هذا رسمياً في دستوري 2012 و2014 ، والمستغلة لميزاتها النسبية شبه الاحتكارية عمالة من المجندين بلا أجور وبلا حقوق إضراب وتخصيص مشاريع وعقود حكومية بالأمر المباشر بالقانون بالإضافة إلى حق الجيش بالقانون في تملك أراضي الدولة بدون محاسبة، بل سيكون أيضا فساد القطاع الخاص الذي سيضطر للتعامل مع الجيش من الباطن ومن القنوات الخلفية في إعادة إنتاج لرأسمالية المحاسيب. وهذا المناخ سيكون طاردا للاستثمار الخارجي الذي يبحث عن حد أدنى من الشفافية.
وغياب مؤشرات نوايا الإصلاح لا يقتصر فقط على الجيش، ولكنه يشمل أيضاً مؤسسات الدولة المختلفة وطوائفها وعزبها كالقضاء والبيروقراطية والشرطة وغيرها، المصممة على عدم إصلاح ماليتها ونظم إدارتها الفاسدة ونظم عملها غير الكفؤة وتحصينها من مراقبة الآخرين وإبقاء الوضع على ماهوعليه. ودستور 2014 كان بشكل أو بآخر دسترة لهذه التوازانات وحماية لهذه المؤسسات من بعضها البعض ومن مراقبة المجتمع عكس ما هو مفروض في الدستور أي أنه يحمي المواطنين من تجاوزات مؤسسات الدولة ويوفر أطر لمراقبة ومحاسبة هذه المؤسسات بشكل فعال. كذلك الأمر بالنسبة لجماعات رجال الأعمال ورأسمالية المحاسيب الأوليجاركية المعترضين على سياسات رفع الدعم عن الطاقة، والتي تحقق لهم هوامش ربح مذهلة، أو أي تغيير في السياسات الضريبية وسياسات الأجور وغيرها. وهذا يعني استمرار أزمات الاقتصاد والأمن وتدهور مستوى المعيشة وغيرها.
يتصور هؤلاء أنّ الأمور يمكن دائماً أن تبقى تحت السيطرة والضبط باستخدام عصا الأمن الغليظة وإعلام تسلم الأيادي الكوري الشمالي الطابع ووسائل التحكم الموروثة من عصر مبارك، وخاصة بعد النجاح في القضاء على الإخوان والسيطرة على المجال السياسي، واستمرار المعونات من الخليج. وهذا تصور مقطوع الصلة بالواقع، واقع ماحدث ومايحدث وما يمكن أن يحدث، لأن الوضع الاقتصادي الحالي والموروث غير قابل للاستمرار بالفعل اقتصادياً. وذلك برغم كل محاولات المسكنات والتجميل وترحيل الأزمات والجري في المكان وأهل التحديث يا ليل بفصيليهما، لا يستوعبان أنّ أي إصلاح حقيقي لابد وأن يتضمن تغييرات جذرية وشاملة. وهذا يعني صراعات سياسية ومجتمعية حقيقية وأثمان اجتماعية واقتصادية شاقة وتدافع وتجاذب وتصارع وتنازع بين الأطراف المختلفة سواء جماعات المصالح والمؤسسات داخل الدولة. أي المؤسسة العسكرية وهيئة الأمن القومي التي يمثلها السيسي هي طرف من هذه الأطراف، يعني هي جزء من المشكلة وطرف في الصراع وليست الحل. أو جماعات المصالح خارج الدولة في طبقة ”البيزنس“ ورأسمالية المحاسيب، بأجنحتها المختلفة في التجارة الداخلية والخارجية والزراعة وسوق المال والأراضي والطاقة والصناعة وجموع الشعب بقطاعاته المختلفة من عمال قطاع عام وخاص وقطاع غير رسمي وفلاحين وكبار المزارعين ومتوسطي ملاك وأجراء ومهنيين وعاطلين في الحضر والريف بدرجاتهم المختلفة وعبر تمثيلات متعددة تشمل النقابات المهنية والعمالية والزراعية والأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والشبابية والتجمعات المطلبية والفئوية والمحلية. هذا بالإضافة إلى الرأي العام عبر وسائطه الإعلامية المختلفة وفي ظل مزاج شعبي يشوبه توقعات عالية وقرف وإحباط وتعب وخبرة ومزاج نزول للمجال العام تكونت عبر 3 سنوات ودولة فاشلة برغم قمعيتها. وفي ظل معطيات متشابكة مثل:
- أنّ القوى التقليدية اقتصادياً واجتماعياً، المصطلح الجديد المتداول حالياً لتعريف الفلول، ماتزال ضعيفة حزبياً ومايزال الفراغ السياسي المجتمعي يسمح بظهور فواعل مستقلة جديدة إذا استطاعت التواصل مع قواعد شعبية معتبرة من المؤيدين والتماهي مع مصالحهم والتعبير عنها.
- البيروقراطية المصرية المتضخمة، 6-7 مليون موظف، تبدو كياناً مصمتاً غير شفاف ومغلقاً أمام محاولات الإصلاح من خارجه سواء على يد الثوريين الحالمين أو الإصلاحيين القادمين من المجال السياسي أو على يد الرأسماليين وطبقة ”البيزنس“ إذا توافرت لديهم نية الإصلاح. فالجميع سيشعرون بالإعياء والعجز أمام عدم توافر المعلومات من داخل هذه البيروقراطية وترسانة القوانين واللوائح والآليات الإدارية المصممة خصيصا لشرعنة وتقنين الفساد والتحكم والمغنم البيروقراطي المتوارث. بالإضافة إلى عداء هذه البيروقراطية للقطاع الخاص ولفكرة التغيير والإصلاح بشكل عام وأخيرًا تعقيد منظومة حماية المال العام بأجهزتها الرقابية وقوانينها وتمسكها بالإجرائيات على حساب مردود الأداء. وهنا نجد أن البيروقراطية المصرية تجمع بين السيئين: فساد وإهدار مقنن للموارد من جهة، وأجهزة رقابية تعرقل حرية الحركة والتجديد من جهة أخرى. ولا داعي للحديث هنا عن أسطورة ”الأجنحة الإصلاحية داخل الدولة“ فهي تبقي أسطورة من أساطير ألف ليلة وليلة إلى أن يثبت العكس عن طريق مؤشرات ومعلومات واضحة.
- القطاع غير الرسمي والذي يحتوي طاقات وأموال وتشغيل الكثير من قطاعات الشعب، لن يكون هدفاً سهلاً لأي من مشاريع الهندسة السياسية أو الاجتماعية.
- نموذج شيلي بينوشيه، الذي يحلم به البعض من سياسة تحرير للاقتصاد بأدوات السلطة القمعية، يتعارض مع التالي: أولاً واقع ضعف كفاءة أجهزة الأمن والضبط والتحكم وإنفاذ القوانين في مصر. وثانياً مع احتياج النظام – على المدى القصير والمتوسط للمزيد من السياسات الشعبوية الطابع مثل تضخيم الجهاز الحكومي الدولتي عن طريق المزيد من التعيينات ورفع مستوى الأجور، وذلك لضمان قاعدة تأييد شعبية ومجتمعية كبيرة للنظام تعزز من هيمنته السلطوية. وسيتعزز هذا الإتجاه إذا ما استمر، توسع النشاط الاقتصادي للجيش كما ذكرنا سابقاً والسياسات الشعبوية هذه. فضلاً عن العديد من العقبات اللوجستية والتقنية أمام تنفيذها، فهي لن تكون مرضية ومشبعة للكثيرين ولن تؤدي إلا إلى زيادة توقعات المستهلكين من المواطنين بشكل غير واقعي وترحيل أزمة العجز في مالية الدولة للأمام ولكن بشكل أكثر استفحالاً وتضخماً.
- الاعتمادية شبه الكاملة على مصادر تمويل خارجية من الخليج لمواجهة أزمة الطاقة القاتلة وهي بالضرورة مصادر غير ثابتة ومؤقتة.
- وإذا ما نجح النظام في وضع برنامج طويل المدى للتكيف الهيكلي ورفع الدعم والخصخصة، فهذا يستلزم إجراءات تقشفية صارمة. تضرب الحد الأدنى من الحياة الآدمية للملايين من المواطنين، وهي إجراءات عالية التكلفة سياسياً وتفتح الباب لعدم الاستقرار وإلى اضطراب اجتماعي واسع. كما أنه سيستلزم تضحيات واسعة من طبقة ”البيزنس“ والطبقات العليا والوسطى العليا، فيما يخص مكاسبها الاقتصادية من الدعم على الطاقة ومستوى معيشتها بشكل لن تقبل به بسهولة ولم تكن تتوقعه وهي تسارع في تأييد مشروع ساري عسكر بونابرته.
- الدستور بالفعل نظرياً يقيم نظام من التوازنات السياسية بين مؤسسات الدولة بعضها البعض وبين مؤسسات الدولة والمؤسسات المنتخبة وبين المؤسسات المنتخبة بعضها البعض، بين الرئاسة ومجلس الوزراء والبرلمان. وإن السيسي كرئيس منتخب لن يكون مطلق الصلاحيات بل سيكون مقيداً. اولاً بمصالح الجيش نفسه وهو قاعدة تأييده ومعنى وجوده الأساسي، وثانياً بنتائج عمليات التفاوض المعقدة مع القوى المختلفة الممثلة في البرلمان المنتخب ، وثالثاً بنتائج عمليات التفاوض والتجاذب مع مؤسسات الدولة وعصاباتها وطوائفها نفسها.
وبالتالي فالموضوع عسير ومعقد وصراعي وسيخلق مساحة كبيرة للضغط والتفاوض والاشتباك. وفي الأغلب ستكون أيام صعبة ومليئة بالتحولات والصراعات الداخلية. فهناك تصوران، إما تصور المسيرة الوردية اللاسياسية لإعادة البناء تحت قيادة النخب النيوليبرالية، أوالمسيرة الصاخبة لدولة البناء والتحديث تحت قيادة الأب والزعيم حبيب الشعب الفريق السيسي حيث ”الكل في واحد“. وكلا التصورين تصور مقطوع الصلة بالواقع ، واقع توازن الضعف والعجز عن الحل بدون إجراءات جذرية تكلفتها السياسية يتخوف منها جميع الأطراف وواقع الافتقار إلى طرف واحد مهيمن على النظام بأكمله بل والأهم أيضا هو أنّ الطرف الذي يرشحه البعض للعب هذا الدور، مثلا الجيش بقيادة السيسي، متورط حتى أخمص قدميه في تأزيم وضع الاقتصاد.
أهل التحديث يا ليل يذكروني بقصة الملازم هيرو أونودا، الضابط في الجيش الإمبراطوري الياباني في الحرب العالمية الثانية ، أشهر قصص الـ Japanese holdouts، أي الجنود اليابانيون الذين رفضوا الاقتناع بأن الحرب قد انتهت، فاستمروا في مواقعهم في جزر المحيط الهادي المختلفة لعدة سنوات بعد نهاية الحرب نتيجة، إما للهوس الوطني والأيديولوجي والعسكري أو نتيجة لانقطاع الاتصالات. حيث رفض الملازم أونودا أن يصدق أنّ الحرب قد انتهت فبقي في موقعه في إحدى جزر الفلبين مع 3 من رفاقه يواصلون عملياتهم التخريبية والاستطلاعية خلف حدود العدو، الذي لم يعد موجوداً. ورفض تصديق فرق البحث التي أمطرته بالصحف والمجلات والبيانات اليابانية الخاصة بنهاية الحرب وصور أقاربه الموقعة منهم، بل ورفض كذلك الاستماع إلى مناشدات أقاربه الذين جلبتهم فرق البحث ليطوفوا الجزيرة بالميكروفونات لإقناعه أنّ الحرب قد انتهت بالفعل. وبقي 30 عاماً مع بندقيته وذخيرته وأسلحته ينظفها كل يوم ويضع خطط عمليات الكوماندوز ضد سكان الجزيرة ويقوم بالاشتباك معهم وقتلهم وتخريب مزارعهم مقتنعاً بأنّ الحرب ما تزال مستمرة وعالمه القديم ما يزال قائماً ولم يدرك الحقيقة إلا سنة 1974. عندما توصل إلى مكانه مغامر ياباني وجلب معه قائد أونودا السابق ومعه الورق الرسمي من قيادة الجيش بانتهاء الاشتباكات المسلحة سنة 1945 ووجه له أمراً مباشراً بالإعفاء من خدمته العسكرية.
وعندما عاد أونودا بعد نهاية حربه الطويلة هذه إلى بلاده اليابان وجدها مختلفة تماماً عن اليابان التي تركها وقت الحرب ولم يشعر بوجوده في هذا العالم الجديد فقرر الرحيل إلى البرازيل والحياة في مزرعة هناك في الريف البعيد.
وأهل التحديث ياليل يذكروني بقصة الملازم أونودا من ناحية الوقوع كأسرى لتصورات ذهنية سابقة هي بنت عالم قديم انهار بالفعل الجمال مباركية والناصرية، والتصميم على التمسك بأسلحتهم وممارساتهم وسياساتهم وأفعالهم القديمة لخوض معارك سياسية متقادمة تماماً مثل تمسك أونودا ببندقيته وذخائره وسياسات الإغارة على مزارع أهالي الجزيرة. والتصميم على رفض كلام الآخرين ومناشداتهم باعتباره كلام غير وطني أو مؤامرة أو خدعة أو كلام طابور خامس أو”كلام غير واقعي“. والشيء بالشيء يذكر فإني أقترح على أهل التحديث ياليل، كنصيحة أخوية، إما محاولة التكيف مع الواقع حتى مع الاحتفاظ بسلطويتهم وهذا حقهم بلا جدال، أو الرحيل إلى البرازيل وإنشاء مزارعهم هناك مثلما فعل الملازم أونودا رحمة الله عليه. ”لو أن حقبة من التاريخ طليت بلون رمادي على رمادي، لكانت هي هذه الحقبة بالضبط“... كارل ماركس في 18 برومير.