"والغابة الأَجمة ذاتُ الشجر الـمُتَكاثف، لأَنها تُغَيِّبُ ما فيها"
- لسان العرب
ملصق على شبّاك يطل على عمّان
صباح كل يوم، وفي نفس الموعد، يخرج ستينيّ ملتحٍ من منزله بملابس النوم يحمل كيس قمامة وحقيبة سوداء باتّجاه حاويات القمامة على زاوية منزل مهجور بحديقة كبيرة. وبالوتيرة والترتيب نفسهما يرمي الكيس على بعد متر ونصف من الحاوية الممتلئة، وينبّش في الأخيرة هاشّاً القطط التي تنتظر كيس قمامة آخر، ثم ينتقل ليبحث في الأكياس المتناثرة على الرصيف، وأمام مداخل العمارات من دون أن يأخذ شيئاً معه.
كان خصمي السياسيّ يتمثّل في هذا الرجل: بلادته وروتينه القاسي الآتيان من امتياز لم يمنحه إيّاه أحد، احتكاره لحيّز عام بتهديد قوّة سريّة توجد أو لا توجد في الحقيبة التي يحملها، والقسوة التي تفرضها حقيقة أن لا أحد من الجيران سيقوم بمساءلته. هكذا، كان علي التدخّل في طقوسه السلطويّة حسب مسار التحديّات الشعبيّة في وجه السلطات: كنت أوارب الشبّاك الذي لا يراني منه أحد كأنّه تمثّل مديني لفكرة المراقب العام "بانوبتيكون" في السجن، وأهتف بصوت عالٍ: "يسقط يسقط حكم العسكر". ولاحقاً: "ما نقف عقصرك نشحد مكارم" (1)، ثم: "يسقط يسقط حكم المرشد". كان الرجل يرتبك فعلاً إلى حد أنّني نجحت في التشويش على مواعيده الثّابتة منذ أن سكنت في هذا المنزل بأقصى شمال عمّان.
في نفس الفترة، نجح أطفال الحارة بكسر قفل باب جانبي للمنزل المهجور وقسّموا الحديقة الكبيرة حسب نفوذهم. في البداية، كان التقسيم بديهيّاً وبلا نزاعات، أو هذا ما كنت ألاحظه من النبرة الهادئة للعمليّة خلال مراقبتي من شبّاك منزلي بالطابق الثاني. احتلّ أكبرهم الشّرفة للمراقبة، والأقل قوّة استولوا على مصطبة عالية بطرف الحديقة. ومن هم أصغر حدّدوا نطقة نفوذهم بشجيرات على طرفي جزء معشب وأقاموا مباريات كرة قدم. والباقي إمّا بدؤوا يبحثون عن متروكات، أو بقوا للمناكفة ومحاولة اقتحام أراضي الآخرين. بينما وُضعت كنبة مهترئة بين الشّرفة والملعب المخترَع احتلّها ولدان يحملان عصيّ خشبيّة، أحدهم يرتدي تي شيرت "ميسّي" لنادي برشلونة، والآخر وضع غطاء رأس أحمر على كتفيه العاريين واتّخذ مقرّه على المسند.
كانت صيغة المكان تحاكي مشهد مروجي المخدّرات المراهقين في المشاريع الإسكانيّة الفقيرة بمدينة "بولتيمور" الأمريكيّة في مسلسل(2) The Wire ، حيث يجلس المروّجون على كنبة مهترئة نُسيت في الفراغ المتوحّش الذي تتركه بقعة خالية من الإسمنت تحت أنظار "المعلّم" الذي يراقبهم من شرفة منزله. هنا، بالضبط، حيث يتشابه المشهدان: التمرّد على النظام بإعادة إنتاجه، ويختلفان: الجديّة والانضباط الذي تستدعيه عمليّة ترويج المخدّرات في المسلسل، وعبث استعادة الأطفال اليوميّة لغابتهم الصغيرة بعد نوبات الرّجل الستينيّ الصباحيّة.
في أحد الأيّام، كان الأطفال ينتظرون عودة الرّجل إلى منزله. وما أن عاد، حتّى بدأت سلسلة مواقف أربكت أولئك المنتظرين: في الوقت الذي دخل الرّجل إلى منزله، بدأ المطر يهطل غزيراً، وكادت سيارة "بيجو" حمراء، وضع صاحبها صورة لـ"فريدا كاهلو" على الزجاج الخلفي، أن تصطدم بسيّارة أجرة أوقفها سائقها في منتصف الشارع، وفتح الصندوق الخلفيّ مخرجاً ثلاث دمى لدببة زهريّة عملاقة ليلقيها في الحاوية، بينما وقفت في مكان قريب خمسينيّة ترتدي بدلة رجاليّة رماديّة وهي تدخّن تحت المطر.
كان الأمر البديهي للأطفال الاحتماء من المطر بالحديقة التي دخلوها راكضين، والانسحاب أمام التوتّر الخافت الذي فرضه كسر الإيقاع الهشّ للمكان الهادئ عادةً: استعادة الملجأ اليوميّ الذي توفّره أشجار النخيل الطويلة، والحمضيّات، وشجرة البلّوط العملاقة في أقصى الحديقة.
في اليوم التالي، تجمّع رجال الحارة وأتوا بمن استبدل الباب المكسور، ووضع قفلاً جديداً. ولم يكن أحداً من الأطفال محتجزاً في الداخل، لتعود الحديقة غابة متخيّلة تعاقب كليشيه الاسمنت بكليشيه العبث بانضباط إيقاع الحيّز العام. ليحتجز الأطفال خارج فردوسهم الذي يتمثّل كجزء من مشهد متجمّد لا يظهر إلا عند النظر إليه من الشبّاك، كملصق وضعه أحدهم على شبّاك يطلّ على عمّان.
انتفاخات اسمنتيّة متروكة
تبدو الحارات الشعبيّة في عمّان من الخارج ككومة حجارة وحديد مسلّح، وتراكمات لانتفاخات اسمنتيّة متروكة. حتى يعتقد الزّائر أنّ وباءً نمّط المكان وحوّله إلى مجرّد خيارات سكنيّة بائسة. وما إن يتم تجاوز الشعور بالانسحاق أمام ثقل المشهد، حتى ينكشف نظام بدائيّ معقّد يحكم هذه الأحياء ويرتّب سكّانها ومناطق نفوذ الأقوى كأي نظام حيوانيّ يحكم الغابة.
نشأتُ في أحد هذه الأحياء، حيث يعيش السكّان في حيّز هجرته أجهزة السّلطة لتحكمه قوّة الشّارع. في إحدى المرّات، وبينما كنت ذاهباً للشرب من إحدى الحنفيّات الموازية للحمّامات في مدرستي بالجبل، رحت أسمع صراخ طلبة يُغتَصَبون من داخل الحمّامات، وأرى من الباب طلاباً آخرين يخرجون منها ملطّخين بقذاراتهم. في إحدى المرّات، ذهبت للشرب قبل انتهاء الفرصة، وعندما جاء دوري، قام أحد الطلاب بتجاوز الدور وأزاحني عن الحنفيّة. أمسكت به بكل قوّتي ورميته أرضاً وبدأت بضربه. إلى أن جاء صديقي وأبعدني عنه وصرخ بي: "إنت حمار؟ بتعرف مين هاد؟ هاني الدهّان. رح تموت اليوم".
كنا بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من أعمارنا آنذاك. وكان هاني الدهّان معروفاً أصلاً بشرب الكحول وتعاطي المخدرات والبلطجة. وكان تناقل خبر مروره في حارة كفيل بإخلائها. عندما قام هاني عن الأرض لينفض الغبار عن ملابسه كنت على وشك التبوّل في ثيابي. وبدا لي وجهه الممتلئ بالبثور وضربات الشّفرات والأمواس قريباً جداً حين سألني مبتسماً: "شو إسمك؟" أجبته مرتجفاً: "أحمد الزعتري". ثم وضع يده على كتفي، وجبينه على جبيني، وقال بصوت عالٍ: "أحمد الزعتري: إنت جدع ورح أسامحك. من يوم وطالع إذا بدّك شي ناديني". وهكذا ارتقيت لأوّل مرّة في سلّم الحيوانات التراتبي.
كنت أشعر بالخوف المَرَضيّ على أخي الذي التحق للتو بالمدرسة. وكان هاني دائماً على بُعد نداء واحد ليأتي ويعنّف كل من حاول الاعتداء علينا وأذيّتنا. حتى عندما انتقلت إلى مدرسة أخرى لم يكن موجوداً فيها، كثيراً ما كنت أصادفه وأنا أتمشّى أو أهرب راكضاً أحياناً من شوارع موبوءة أو حتى محظورة. كان ثمن المرور في بعض الشوارع قبلة، أو بعصة . كلّنا كنا نعرف الأمر، وكان من الصعب إخبار أهالينا عن ذلك، حتى وجدنا أنفسنا جزءاً من هذا النظام.
كنّا نعيش خارج المنزل معظم أوقاتنا، ونتعرّض باستمرار لتغيّر الحدود التي تفصل بين هذه الحارات وصارعات تقسيم النفوذ بين هؤلاء الذين استفادوا، كما القوى المحافظة، من انكشاف الحيّز بقسوة أمام أعينهم، باحثين عن غاباتهم الخاصّة لاستقطابنا. كانت "غابة اسمنت" حقيقيّة بكل كليشيهاتها.
كنّا أولئك المراهقين الذين تترهّل أجسادهم بسرعة ويبلغون أمام الأهالي الفخورين. كنّا نخوض معركتين: واحدة لإظهار التزامنا الأخلاقي "المديني"، بالخضوع، على الرغم من بلوغنا، للأهالي. والأخرى لإظهار تمرّدنا البدائيّ وخشونتنا أمام الأكبر سنّاً للعبور بالقرب من تلك الغابات. كثر منّا سقطوا في المعركتين، أو في إحداهما على الأقل. أحدهم ممّن كنا نقضي الوقت سويّاً في الحارة لم يحتمل المقاومة طيلة الوقت. فاختار أن يسقط في المعركة الثانية، وعاش أول تجربة جنسيّة مقابل عشر كرات زجاجيّة.
يتمثّل تواجد السلطة الوحيد في مركز أمنيّ على قمّة الجبل الذي يقوم الحيّ علبه. المركز بأسواره العالية والأشجار التي تحيط به، يطلّ على شوارع الحي كلقعة محروسة . يسيطر المركز على الحيّ، لكنه وفي نفس الوقت مخفيّ وراء الأشجار والأسوار، فارضاً سيطرته على الأراضي المكشوفة حوله من دون ظهور أيّ من عناصره الأمنيّة.
يترك هذا الحضور الخفيّ مشهداً من صراعات مكشوفة في الشوارع المتروكة لمصائرها. فبدلاً من اللجوء إلى المركز الأمنيّ البعيد والمسيّج بالأشجار، يلجأ السكّان إلى هاني وصديقه زياد الخروف اللذان ظهرا في وقت واحد كقوّة سيطرة بديلة. حيث وقفا بوجه المدرّسين المتحرّشين، ومدراء المدارس المضطّهِدين، وفارضي الخوّات. مدافعان عن الضعفاء أمثالنا، والمغتَصَبين، وأولاد الأهالي الجبناء أمثال أهالينا.
بينما كان هاني وزياد يقيمان نظاماً رديفاً يحيل الأرض المكشوفة إلى غابات صغيرة من أشجار مقتلعة، كان المركز الأمني يبدو وكأنّه "غابة أَجمة ذات شجر متكاثف تغيّب ما فيها". لكن عندما تضخّمت قوّة الشابين أمام الحضور الخفيّ للمركز الأمني وسلطته الواهية، حلّت في رجال الأمن صحوة مفاجئة، فخرجوا من مخبئهم. وفي مشهد مسرحيّ، أغلق رجلا النظام البديل الشارع الرئيسيّ، وصعد زياد على السيّارة، ملقياً خطبة طلب فيها من الأهالي إغلاق محالهم، وتأمين أولادهم، والالتزام بالمنازل، قبل أن يقتلهما رجال الأمن ويعودوا إلى أوكارهم.
غابات عمّان المتنقّلة
1
في الصّيف، تتحوّل عمّان من كرة كريستاليّة مُعنّفة عوقبت بالبقاء خارجاً في العراء، إلى حيّز فاتر تخنقه حرارة الشّمس. ويبدأ التخطيط لقضاء عطل نهاية الأسبوع في مكان آخر: المتنزهّات والمزارع الخاصّة
خارج المدينة.
بعد انحسار "الحراك الشعبي" وتوقّف المظاهرات، تعود مجموعات الناشطين، التي شكّلت قاعدة الحراك، إلى دوائرها المغلقة وخدرها اليوميّ. ففي محادثات جماعيّة خاصّة على "الفيسبوك"، يستبدل الناشطون التخطيط للمظاهرات بالتخطيط لقضاء عطل نهاية الأسبوع: مستشار شركات اتصالات وناقد سينمائي في نفس الوقت، ميسّرة فنيّة، عاملة في مجال حقوق الإنسان، مهندس مدني وموسيقي في نفس الوقت أيضاً، ناشط سياسي، مصوّر فوتوغرافي، منتجة أفلام وثائقيّة، صحافي، مهندسة مدنيّة، ومغنّي راب، وفنّان كلّما أخرج نفسه من المحادثة يعود أحدهم ويرجعه إليها.
تتوّجه المجموعة إلى مزرعة تملكها عائلة أحدهم في غور الأردن: إحدى المزارع المنتشرة هناك، والتي تم ابتياعها أثناء فترة الطفرة الاقتصاديّة في التسعينيّات كمحميّات طبيعيّة مسيّجة، وتجلس في عمّانها الخاصّة التي أعادوا بناءها ، والتي تكشف وتخفي في نفس الوقت: لا أحد يعرف ما يجري داخلها، بينما يمارس الجميع حياتهم اليوميّة فيها بدون اختلاف. وهناك، تتوزّع المهام كما في أيّ مهمّة تحمل هدفاً جليلاً، فيتبرّع المهندس بتخطيط أماكن الجلوس وأماكن شواء اللحوم وتناولها، وينهمك المصوّر في توثيق الرّحلة، ويشغّل الموسيقيّ قائمة مختارة، ويحمل الصحافي كتاباً لجان بودريار، ويقتحم الفنان بركة السباحة وهو يشير إلى بنطال الجينز المخضّب بالدم على كرسي التشمّس، راوياً القصّة التي حفظها الجميع حول اختطافه من قبل عصابة في فنزويلا.
ينقل الجميع أدوارهم المدينيّة التي يشكون ويهربون منها إلى الطبيعة من دون تفاعل فيما بين هذه الأدوار، لتتجسّد المدينة فيهم، وتنتهي العطلة بكوميديّة مضنية على شكل آثار في المزرعة: بنطال جينز مهترئ تحوّل إلى فوطة للتنشيف، كتاب يطفو على سطح الماء، كاميرا نفدت بطاريّتها ملقاة إلى جانب صحن لحوم مشويّة، ومهندس مستلقٍ على فراش متّسخ يشتكي من رائحة الشواء. كمخلّفات أيّ مدينة انتقلت بفوضويّتها إلى الطبيعة.
2
أثناء فترة الحراك السياسي الشّعبي، استمرّت المظاهرات الأسبوعيّة كل يوم جمعة لأكثر من 30 شهر. تجنّدت خلالها أجهزة الدولة في استعادة خفوت يوم الجمعة العمّانيّ مقابل ضجيج الشعارات، والاشتباكات أحياناً، وحالة الطوارئ المؤقّتة التي تستدعي انتصاب الأمن وتحفيزه. سياسيّاً، تراوح التعامل مع "الحراك" بين المساومات والاعتقالات وبين تمرير جرعات قوانين إصلاحيّة إلى مجلس النوّاب. واقتصاديّاً، تم اتّهام منظّمي المظاهرات والمشاركين فيها بتقويض النمو الاقتصادي. أمّا اجتماعيّاً، فتمّ استعادة مفهوم "العائلة الأردنيّة" وتقاليدها في نهاية الأسبوع مقابل المتظاهرين المتمرّدين على هذه التقاليد عبر استدعاء أفراد الأمن الذين منعهم واجبهم من الحصول على إجازة، واضطّرابات السّير في الشّوارع الرئيسيّة التي يتم إغلاقها. وبالتالي: تقويض "الأمن الاجتماعي"، وحرمان الأردنيين من افتعال مدنهم الصغيرة المؤقّتة في المنتزهات والمزارع الخاصّة.
على الطريق إلى الغور، يتنشر عدد قليل من الغابات المحميّة على شكل منتزّهات عامّة مخصّصة للعائلات. في أيّام العطل، يتشكّل صفّ طويل من السيّارات بانتظار الدخول إلى المتنزّه من البوّابة الرئيسيّة الوحيدة. وعند الدّخول، تستعيد العائلات بدائيّتها الاستيطانيّة: فمن يصل أوّلاً يمتلك أحقيّة احتلال بقعة كثيفة الشّجر أقرب ما يمكن إلى المرافق الصحيّة، مستوية قدر الإمكان، ومنزوية قدر الإمكان.
عندما كنت أرتاد هذه المنتزهات مع أهلي في التسعينيّات، كنت أشعر بأنّني ذاهب إلى مكان مصطنع: مجرّد أشجار حرجيّة تتخلّلها أشعّة الشمس في عمود من الغبار المستثار من حركة المرتادين المستمرّة. حيث لا حيوانات، وحيث الضجيج مستعار من المدينة، وحيث تجلب العائلات معها أدوات عزلتها المدينيّة: عند اقتناص المكان المناسب، يشرع الرجال ببناء أسوار من البسط حول البقعة المختارة: يربطونها بالأشجار المحيطة بملاقط غسيل كبيرة الحجم، وينقلون واجهات المدينة الحجريّة المسيّجة بمناشر الغسيل. بالضبط كما تفقد الغابات أثرها الكاشف والمتفاعل مع محيطها، لتتحوّل بذلك إلى غابات متنقّلة تقترب أكثر من الفعل المديني.
غابات فلسطين المقدّسة
في أقصى غرب عمّان، وفي البلدات القريبة منها، يفتخر سكّان قمم التلال هناك بإطلالة بيوتهم على فلسطين. لكنّها إطلالة تم تقدسيها ليس أكثر. فنهاراً، لا يمكن تحديد ملامح واضحة للأرض الممتدّة على طول الأفق الغربي إلّا من خلال انعكاسات اللون الأصفر للتراب النقيضة لفكرة الفردوس المقدّسة. وليلاً، تمكن مشاهدة هالات ضوئيّة مشوّشة تنبعث من نقاط سحريّة في الطرف الآخر.
لفلسطين حضور متخيّل نشوّش عليه بالاكتمال البصريّ المفترض. فإذا كان لونا عمّان أبيض وأصفر، لا بد أن تكون فلسطين خضراء تحيط بها الأشجار والغابات كجنّة صغيرة. على الأقل هذا ما نريد تصديقه. فالأرض تتحوّل إلى "صيغة عليا لكل ما ضاع منّا" كما قال حسين البرغوثي: يوتوبيا يستعيض الشاعر بها عن احتمال انكشاف نزواته السريّة فيها. صديق آخر روى لي أنّ ذاكرته ضبابيّة بما يتعلّق بالانتفاضة الأولى، وأنّه لا يذكر منها إلّا مشاهد أبواب المحال التجاريّة المطليّة باللون الأخضر وهي مغلقة أثناء الإضرابات في مدن الضفّة الغربيّة. وينقل تلك القصّة المتكرّرة عن والده الذي لم يبق شيء في باله بعد انسحابه مع الجيش الأردني من الضفّة الغربيّة بعد حرب 1967 إلا شجر الليمون في أريحا.
هذا الارتباط البصريّ المفترض يتكثّف على نحو أكثر رمزيّة في قصّة رواها ناشط سياسيّ يعمل في حملات مقاطعة "إسرائيل". في عمّان مدينة الإسمنت البارد، يعمل من أجل فلسطين، جنّة الله على الأرض، في المقاهي المزدحمة بأشخاص يعملون لأجل المزيد من الإسمنت البارد، وفي ذهنهم فلسطين الخضراء. ففي إحدى رحلاته مع والده ضعيف البصر إلى مناطق قرب الحدود الغربيّة، وقف الاثنان أمام امتداد الأفق ذاته وهما مستغرقان في المشهد، حتى يقول الوالد: "ما أجملها بلادنا، شوف الخضار". يرتبك ابنه وينظر مرة أخرى إلى الجبال الصخريّة القاحلة، مفضّلاً أن يكون هناك: أمام المقهى، يدخّن وينظر في الأفق المرصوص بالبنايات الصفراء.
"اللويبدة" التي تطفو في فراغ أخضر
ما إن تصبح الساعة التاسعة مساءً، حتى تتحوّل "اللويبدة" إلى جبل مهجور تحمي شوارعه الأشجار الكثيفة. عدا حانتان وثلاثة مقاهٍ تترك حيّة، تخلد المنطقة إلى سكون ليس خطراً أو متوتّراً، سكون أشبه بمواساة مهيبة لمدينة توشك على الموت.
يقال أن تسمية "اللويبدة" أتت من فعل "أن تلبد": أن تتّخذ، متحفّزاً، ملجأً من المطر أو الخطر. وهي، في الأصل، تسمية نبتة كانت تنبت و"تلبد" بين الصخور والنباتات الأخرى قبل أن تنقرض. وبهذا الشكل، حافظت اللويبدة على اخضرارها الدائم طيلة السنة، وطابعها الهادئ والبطيء والخافت بسبب وقوعها خارج منظومة الاستثمارات التجاريّة والمعماريّة الضخمة. لتبدو، بأشجارها المعمّرة الكثيفة وشوارعها الضيّقة، محميّة مثاليّة وملجأً من المدينة، تشغلها، بكثافة، طبقة الناشطين السياسيين والكتّاب والصحافيين والفنانين والموسيقيين: المتمرّدون على إيقاع المدينة المحافظ. وبقيت كذلك: جبلاً لا ينتج إلا الهدوء والصمت والفراغ، مثل روّاده الذين استغنوا عن صناعة الثقافة بممارساتها في مقاهي "المثقّفين" التي تنتشر في شوارعها.
أثناء هبّة تشرين تشرين أوّل (نوفمبر) 2012 التي شهدت مظاهرات شعبيّة ضد قرار رفع سعر المحروقات، بدت اللويبدة مكاناً مثاليّاً للالتجاء، حيث تحوّل خفوت الإيقاع المديني إلى توتّر مشبع بالأدرينالين. ففي السادسة والنصف من مساء كل يوم، كنّا نجتمع في مقر حزب اليسار الاجتماعي، الذي تخبّئه عن الشارع صف أشجار حرجيّة، ونناقش أماكن التظاهر والتحشيد لذلك اليوم، ونخرج من هناك إلى الأماكن التي نحدّدها. وكان من البديهي ألّا يتم اختيار اللويبدة كمكان للتظاهر. فعندما كنّا نعود إلى مكان التجمّع بعد التظاهرات: مشبعين برائحة الغاز والبصل، بعضنا مصاب ومتعب، كنّا نشعر بأنّنا رجعنا إلى فجوة بين زمانين: سقطة حرّة في فراغ أخضر، حيث لا ولن يحدث ما يمكن أن يشير إلى مكان أو زمان أو بعد ملموس: مجرد مسطّح أخضر بأشجار معمّرة توقّف الناس عن عدّ سنواتها ولاحقاً ملاحظتها.
بعد انقضاء الهبّة بسبب فتور النشاط السياسي وانعدام تجذّره، عادت اللويبدة لممارسة هرمها على سكّانها من كبار السن الذين بقوا فيها وأصبحوا أيقوناتها. هنا حيث أقدم مطاعم عمّان، وبائع اليانصيب الذي يستقر في بقعته منذ 30 عاماً، والخيّاط الذي افتتح محلّه في الستينيّات، وصاحبة البقالة منذ عشرين عاماً أيضاً. وهنا حيث مرّت عليهم هبّة تشرين وغيرها بدون أي تأثير.
في مطعم إيطاليّ على زاوية التقاء ثلاثة شوارع باللويبدة، جلسنا، شريكتي وأنا، على الكراسي الموضوعة على الرّصيف، منكشفين على الإيقاع الهادئ والبطيء للمكان وداخلنا مقابل توحّش اليوميّات المصطنعة المفروضة علينا تاريخيّاً. وشيئاً فشيئاً، بدأ إيقاع هذه الزاوية يطوف ويجمّد عدّة ثوانٍ في الفراغ: تبدأ زاوية التقاء الشوارع الثلاثة بانحدار متوسّط الحدّة يجبر السائقين والمشاة على التخفيف من سرعتهم أمام الأشجار التي تعمّم سكونها على المكان. عندها تبدو حركة السير وكأنها تصل إلى نقطة مرئيّة ثم تطوف متجمّدة بلا إحساس بالوقت. وما فاقم من الإحساس بهذا البطء، جلوس ستّيني على كرسيّ بهدوء تحت الأشجار تحيط به مجموعة من القطط وهي تتمطّى وتتمسّح به.
بقيت اللويبدة لابدة لأكثر من 100 عام وهي تنتج سكّاناً صموتين يختفون بين أشجارها. إذ أنّه من الصّعب التصديق بأن سكّانه يتجاوز عددهم اليوم 13 ألف نسمة. أين يلبد هؤلاء كلّهم؟ من السّهل القول بأنّ السكّان يحتمون بغابتهم الأخيرة أمام هذا الواقع الاسمنتيّ، إلّا أن جولة في شوارع الحيّ الضيّقة تحت اشتباكات أغصان الأشجار الكثيفة تكشف بأن الغابة تقتات على سكّانها مع الوقت. وبأن اللويبدة ستبقى ملتجئة بانتظار تشكّل هويّتها التي تصطنعها الآن على شكل الفرق بين الإسمنت والأشجار
الأشجار التي تعيق رؤية الغابة
لطالما اعتبرتْ عمّان مكاناً مؤقتّاً، وليس مكاناً للإقامة. المدينة التي أوّل من سكنها، بصيغتها المدينيّة الحديثة، قبائل الشركس، استوعبت هجرات متتالية من الأرمن والفلسطينيين والعراقيين والسوريين واللبنانيين، إضافة إلى هجرات سكّان القرى، دجّنت المقيمين فيها من دون أن تمنحهم هويّة محدّدة. فأن تجيب على سؤال عجوز يكبر سنوات المدينة "من أين أنت؟" بـ"من عمّان"، ذلك يعني مباشرة أنّك من مكان آخر يؤكّد عليه تشكيك العجوز بردّه: "لا أحد من عمّان". وإذا لم يمتلك القادمون الجدد آليّات فرض هويّاتهم على المدينة، يترك الحيّز العام لنفوذ القوى السياسيّة التي تتغذّى على الطبيعة المحافظة والقاسية والمكشوفة: حيث لا شيء مضمراً أو ما ورائيّ. لا غابة تغذّي الخيال الجمعي، ولا تذكير روتيني ببدائيّة الفرد وحاجته إلى التفكير بحضوره المستمر الذي تمنحه إياه الطبيعة.
الكنتونات التي يبتدعها المصطافون في الغابات المحميّة، وصنّاع الثقافة في اللويبدة، والأطفال في الحدائق المستولى عليها، تبدو كأنّها أشجار تحمي الغابة من الانكشاف والتفاعل مع محيطها: أن لا ترى الغابة لأنّها محميّة بالأشجار التي تعيق الرؤية. لعلّ عمّان تفعل ذلك كل يوم: تصطنع لهجتها وهويّتها، طائفة في لازمن ولامكان محدّدين، محتمية بوهم الأشجار من فكرة الغابة.