قبل أعوام قليلة، بدأت بالعمل على رواية تدور أحداثها في العراق. ولتحفيز نفسي على الكتابة، استعرت اسم شخصية حقيقية، محسن خضر الخفاجي. للوهلة الأولى، لم يبدُ لي الخيار ذا معنى، إذ أن الأحداث مختلقة وأي تشابه ممكن سيكون بالصدفة المحضة.
لكن وفيما كنت أراجع المسودة الأولى، شعرت أنه ينبغي عليّ كشف هوية هذا الرجل. لقد كان الخفاجي المطلوب رقم ثمانية وأربعين من بين المسؤولين البعثيين، ومُنح في "ورق اللعب" الخاص بالمطلوبين العراقيين ورقة "الثلاثة ديناري".كنت أعرف بعض ملامح قصته. تم القبض عليه في السابع من فبراير/شباط عام 2004، وكان مطلوباً لدوره في القمع الدموي لانتفاضة عام 1991 ضد نظام صدام حسين.
قد تكون أحداث عام 1991 قد أصبحت في طي النسيان، لكن ليس في العراق. فلقد شعت خُطَب الرئيس جورج بوش الأب النارية الشيعة والأكراد على الانتفاض ضد الدولة البعثية. وكادوا أن ينجحوا لولا وحشية أولئم الذين يعملون مع النظام مثل الخفاجي. وعندما أسدلت الستارة على هذه الانتفاضة، كان عدد القتلى قد تجاوز مئة ألف مدني.
بشعور عميق بالمرارة بدأت رحلة البحث عمّا حدث للخفاجي بعد اعتقاله. أوصلتني الخيوط إلى محسن الخفاجي المعتقل في معسكر بوكا. إلا أنني ما لبثت أن اكتشفت أنه رجل آخر. لم يكن مجرم حرب بل مبدعاً. كان توقيفه واعتقاله لمدة ثلاث سنوات خطأ رهيباً، يعود سببه على الأرجح إلى تشابه في الاسم، تماماً كما حدث لبطل روايتي.
في عام 2005 كتب محسن الخفاجيرسالةمن سجنه يقول فيها:
صباح الخير سيادة الرئيس . أنا محسن خريش عبيد الخفاجي أقدم معتقل عراقي في معتقلات العزلة في أقصى الجنوب العراقي. أخذني حسن النية إليكم وتصورت أنني سأجد ملاذًا آمناً فما وجدت سوى الأصفاد وطقطقة العظام. يعرفني العالم بأنني لا أحترف شيئاً سوى الكتابة. وأحياناً أنا رسام وخطاط جيد وجليس أسطوري في مقاهي المدينة. لست متزوجا ولاأملك في هذا الوطن شبرا عداً غرفة في بيت ورثته مع أخوتي تتناثر فيها الكتب وأسطوانات مضغوطة لأفلام أكثرها منتج في هوليود. فأنا أحب الغرب ليس لأنه يرتدي الخوذة ويذهب بعيداً إلى بلدان يريد أن يؤسس فيها ديمقراطية هانتغتون. بل لأن همنغواي ووالت ويتمان وشارون ستون وجون أبدايك وماكليش ومارلين مورنو يبعثون في شهوة لأكون أكثر سعادة من صاحب مطحنة أو ناطحة سحاب.
بحثت عن مجرم حرب، ولكني وجدت في مكانه روائياً قابعاً في سجن أمريكي يتحدث عن الكتاب الأمريكيين المفضلين لدي. لم يثنني هذا اللقاء العجيب المخيف عن متابعة البحث عن "الثلاثة ديناري". كل ما كنت أعرفه هو أنه كان معتقلاً من قبل القوات الأمريكية، ثم أحيل لاحقاً إلى المحكمة العراقية العليا. وهو يمضي الآن عقوبة السجن المؤبد في سجن الكاظمية، في الجناح نفسه مع طارق عزيز.
لا يوجد شك في فظاعة جرائم النظام البعثي بحق الشعب العراقي. لكن كثير من منظّمات حقوق الإنسان أملت بمحاكمة دولية لأعضائه عوضاً عن محاكمة محلية، وذلك بغية ضمان محاكمة عادلة وشفافة. متجاهلاً تلك الدعوات أنشأ بول بريمر المحكمة الخاصة وعيّن سالم چلبي، ابن أخ أحمد چلبي، رئيساً لها. الجدل الذي أثاره هذا التعيين أخّر عمل المحكمة لشهور وأدى إلى تغيير اسمها. سرعان ماتغيرت تشكيلتها بعد اغتيال بعض القضاة واستقالة بعضهم و إقالة البعض الأخر. وهكذا شرعت المحكمة العراقية العليا عام 2005 بمحاكمة القادة البارزين. فبعضهم، مثل صدام حسين، حوكم بسرعة وأعدم، فيما سُجن آخرون. أما الذين أطلق سراحهم فكانوا قلة قليلة.
إبان وصول قضية الخفاجي أمام المحكمة، كانت المحكمة العليا العراقية تتعرض لانتقادات حادة لأسباب شتى منها أنها غير شفافة وغير عادلة. وكان للمحكمة سجل متفاوت خلال تسع سنوات من العمل، إذ إنها سلطت الضوء على بعض الجرائم التي ارتكبت خلال حكم البعث وعتمت أيضاً على بعض القضايا الأخرى ودفنتها.
هذه الحكاية ليست حكاية العراقيين فحسب. فعلى مدى العقد المنصرم، ذهب آلاف الخبراء الأميركيين والمستشارين إلى العراق، وأعدوا تلك المحكمة، وصاغوا القوانين العراقية، وتركوا وراءهم إرثاً مشيناً. إذ إن مقابل كل "محسن خفاجي" يقبع في زنزانة مظلمة لجرائم ارتكبها، هناك ألف "محسن خفاجي" يشكل سجنهم، وأحياناً تعذيبهم، على يد الأمريكيين جرائم حرب بدورها.
ومازلنا نحن الأميريكيون غافلين. فلقد نسينا العهد الذي قطعناه عام 1991 لمساعدة العراقيين حين هبّوا ضد صدام حسين. ونسينا عهدنا عام 2003 بالمساعدة على محاكمة مرتكبي الجرائم خلال فترة حكم البعث، محاكمةً عادلةً وشفافةً. وبالطبع نحن ننسى الجرائم التي اقترفناها خلال احتلالنا للعراق. ولقد تمت معاقبة حفنة قليلة من الجنود الأمريكيين الصغار لارتكاب جرائم « أبو غريب »، إلا أن كثيرين ما زالوا أحراراً طليقين، شأنهم شأن حماتهم الذين يتبوأون المناصب العليا. تلك لم تكن جرائم ضد العراقيين فحسب، بل كانت جريمة بحق سمعتنا كأمة، ولم يعاقب المجرمون عليها ولم يتم التحقيق معهم.
بحثت عن "الثلاثة ديناري" فوجدت قصة ظلم أمريكية وعراقية، وقائعها ضرب من الخيال. لن ينسى العراقيون تلك الأحداث قريباً، وعلى الأمريكيين ألا ينسوها أيضاً.
[ ترجمة يوسف حدّاد. ]