لم يَخْل الحراك السياسي في مصر من مطلع القرن الحادي والعشرين من صور عبد الناصر ومفردات الحقبة الناصرية ومن السياسيين والمثقفين الناصريين. كانت هذه العناصر جميعاً حاضرة في المظاهرات الداعمة للانتفاضة الفلسطينية في ٢٠٠٠، وفي المظاهرات المناهضة للغزو الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣، ثم في حركة كفاية، ومع انتشار الاحتجاج السياسي والاجتماعي في سنوات حكم مبارك الأخيرة. ومع تصاعد المعارضة ضد حكم الإخوان المسلمين خلال رئاسة محمد مرسي القصيرة العهد اكتسب استدعاء ذكرى عبد الناصر ومفردات نظامه السياسي وسياساته وحقبته عامة دلالات جديدة أسهمت بشكل جدي ونشط في صياغة الخطاب السياسي للحراك الشعبي في يونيو ويوليو ٢٠١٣ فما هي هذه الدلالات؟
كان استدعاء عبد الناصر وفترة حكمه حاملاً لمعاني سياسية مكثفة أسهمت في تطوير هوية جماعية للمواطنين المحتجين على حكم محمد مرسي والراغبين في إنهاء حكم الإخوان المسلمين. حملت صور عبد الناصر جنباً إلى جنب مع صور أنور السادات ومع الأعلام المصرية باعتبارهم جميعاً علامات تمثل القومية المصرية الجامعة للمصريين بحكم انتمائهم للبلاد في مقابلة واضحة مع الأممية الإسلامية التي ينادي بها الإخوان، والتي ترتبط بشكل مبهم وغامض مع الانتماء للوطن في نظر الكثيرين من مناهضيهم، ولكن لم تكن هذه هي الدلالة فحسب بل كان في استدعاء عبد الناصر والناصرية استحضاراً لمفردات كالكرامة والعزة، وهي مفردات من قاموس التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار في الخمسينيات والستينيات على حد تعبير شريف يونس في كتابه الرائع "نداء الشعب"، وكانت الكرامة هنا بالطبع تشير لاستقلال القرار الوطني الممثل في خلع الجيش لمحمد مرسي بدعم أو بناء على طلب الجماهير في مواجهة موقف غربي وخاصة أمريكي فسر من قبل مناهضي الإخوان على أنه داعم لهم.
بيد أن ناصر والناصرية حملت معاني أخرى للحراك الأخير كان أحدها بالقطع استدعاء صور وتمثلات العقد الاجتماعي "الناصري" الذي نشأ في أعقاب الاستقلال الوطني في منتصف الخمسينيات، والذي تمثل في بناء الدولة لتحالف اجتماعي عريض يقوم على عمال القطاع العام، وطلاب الجامعات وموظفي الدولة والجنود في الجيش وغيرهم من قوى الشعب العامل، وليس هناك شك في أن خيال العدالة الاجتماعية منذ بدء الاحتجاج الاقتصادي-ـالاجتماعي ضد مبارك في ٢٠٠٤/٢٠٠٥ كان ناصرياً بامتياز كونه في النهاية احتجاجاً على تآكل مكتسبات هذه الطبقات الاجتماعية منذ الانفتاح بشكل مطرد ومستمر. ويضاف لهذه الدلالات الثلاث دلالة رابعة لاستدعاء ذكرى ناصر ومفردات الحقبة الناصرية للمشهد الاحتجاجي ضد الإخوان وهو اعتباره رمزاً للحداثة في مواجهة القوى الظلامية المعادية للتحديث. وقد كانت الحداثة وخاصة الادعاء بالتوفيق بينها وبين الأصالة أحد الأركان الأيديولوجية للنظام الناصري كغيره من النظم السياسية التي نشأت في مرحلة ما بعد الاستقلال، وحملت لشعوبها آمال التحديث السريع والتصنيع والعدالة الاجتماعية وانتشار التعليم العام وتحرير المرأة.
لم يكن حضور عبد الناصر ومفردات الحقبة الناصرية جديداً أو داعياً للعجب فكما سبقت الإشارة فإن المثقفين والصحفيين والنقابيين الناصريين ما انفكوا يلعبون دوراً محورياً في صياغة خطاب الاحتجاج السياسي في السنوات الأخيرة لمبارك، ويحضرنا هنا كتابات عبد الحليم قنديل كمثال لصحفي ناصري الانتماء أيديولوجياً وحزبياً كان من أول وأجرأ من تناولوا مبارك وعائلته بالنقد الصريح في العديد من مقالاته الصحفية ثم في سلسلة من الكتب التي أعادت نشر بعضاً من هذه المقالات، وكان هجوم قنديل على نظام مبارك على أساس كونه امتداداً لنظام السادات، وردة عن ثوابت النظام الناصري خاصة في قضايا السياسة الخارجية والاقتصاد. ولم يكن قنديل وحيداً في تصوير نظام مبارك في آخر عهده كصورة شبيهة بالنظام الملكي قبيل ثورة/انقلاب يوليو ١٩٥٢: ملك/رئيس فاسد تحيط به أسرة فاسدة مع تدهور شديد في وضع مصر الإقليمي والدولي (حرب فلسطين/غزو العراق) وتفاقم للأزمة الاجتماعية في صورة الإضرابات العمالية والتظاهرات المناهضة للنظام، ولم يكن صعباً استشفاف رؤية قنديل للحل لهذه المعضلة ممثلة في تحرك آخر للجيش كي يقضي على مشروع التوريث، ومن ثم مد عمر هذا النظام الفاسد بعد خروج مبارك من الحكم، مدعوماً من الشعب. ولا شك أن رؤية قنديل كانت كاشفة عن بعد نظر شديد وعن فهم عميق لتفاعل الدولة والمجتمع في مصر فالبلاد كانت بالفعل على شفا ثورة، ولم يكن نجاح هذه الثورة ممكناً دون تخلي الجيش عن مبارك، ومن هنا يمكن القول إن قنديل قد تنبأ بأن "الشعب والجيش إيد واحدة" ضد مبارك ونظامه قبل سنوات من تحقق المشهد في أركان ميدان التحرير. وقد عكس ناصريون آخرون كمصطفى بكري هذا الموقف من خلال قراءتهم لثورة يناير باعتبارها انقلاباً عسكرياً وثورة شعبية في آن واحد على الرغم مما يحيط بهذه القراءة من تناقضات وفي الأغلب عدم دقة تاريخية.
مع تصاعد الأحداث في يونيو ويوليو ٢٠١٣ لعب المثقفون الناصريون دوراً شديد الأهمية في صياغة الخطاب السياسي المناهض للإخوان بالإسهام في تشكيل خطاب قومي مصري في مواجهة خطاب الإسلام السياسي، وفي صياغة الصراع السياسي في البلاد على أنه صراع آخر من أجل تحقيق الاستقلال الوطني (من الولايات المتحدة والغرب مضافاً إليهم مقاطع من الخطاب الساداتي الكاره للفلسطينيين ممثلين في حماس وقطاع غزة)، كما ساعدوا كثيرا خاصة من خلال وسائل الإعلام في الحديث عن تدخل الجيش في ٣ يوليو بعزل مرسي على أساس أنه دعم لثورة شعبية أو ما يمكن اعتباره انقلاباً تصحيحياً لإعادة الثورة لمسارها بعدما ضلت السلطة طريقها لأيدي الإخوان المسلمين. وقد تجلت الناصرية الجديدة إن جاز التعبير في عدة مقولات مثلت الإطار السياسي لإقصاء الإخوان من الحكم من خلال تدخل الجيش المدعوم من الجماهير المحتجة والمحتشدة في الميادين منها إنقاذ الدولة الحديثة / المدنية في مصر من الإخوان وأعوانهم، ومنها إنقاذ البلاد من الصدام الأهلي والفوضى. ومع تأجج الصراع السياسي قبيل وبعيد فض اعتصام رابعة العدوية أسهم الناصريون مع غيرهم في تكريس صورة الفريق السيسي باعتباره ممثلاً للجيش المصري من ناحية، وممثلاً للحراك الشعبي المدعوم من الجيش (وربما العكس) من ناحية أخرى.
وتماشى هذا بالطبع مع حضور لساسة ونقابيين ناصريين في الصورة كالدكتور حسام عيسى وزير التعليم العالي والنقابي المعروف كمال أبو عيطة وزيراً للقوى العاملة واللذين استخدما رأس المال التنظيمي والثقافي الذي كوناه خلال حكم مبارك وفي المرحلة الانتقالية لدعم خارطة الطريق التي وضعها الجيش، ولمقاومة ما رآه الكثيرون دفعاً للبلاد إلى هاوية الفوضى من جانب الإخوان الذين كانوا يحرصون كل الحرص على التأكيد على "كسر الانقلاب" و"عودة الشرعية". وهنا وبصورة مبكرة بدأت مفردات الناصرية تُسْتدعى بجانب الحرب على الإرهاب ومواجهة الفوضى لتبرير مصادرة الدولة لمساحات من المجال العام التي تحررت بعد سقوط دولة مبارك الأمنية على يد ثورة يناير ٢٠١١ . فنجد أن كمال أبو عيطة قد بدأ يتحدث عن ضرورة تعليق الإضرابات حتى تستقر الأمور، ويذكر العمال بواجباتهم الوطنية، في تجل واضح للتناقض الكامن منذ البداية بين كونه ناصرياً ينطلق من تجربة قوضت العمل النقابي المستقل لصالح مكتساب اقتصادية لعمال القطاع العام، وكونه نقابياً (ولسخرية الأقدار) أحد أبطال الحركة النقابية المستقلة التي تمردت على ذات البنى ناصرية الأصل التي ورثها مبارك كالاتحاد العام لنقابات عمال مصر. وتكرر المشهد بصور ليست أقل درامية مع حسام عيسى الذي وجد نفسه في مواجهة استقلال الجامعات والحراك الطلابي (الداعم جزئياً للإخوان) والذي كان هو ذاته أحد أبطاله منذ نهاية عهد مبارك.
لم يتوقف استدعاء التجربة الناصرية كمستودع للمعاني القابلة لإعادة التأويل في سياق الصراع السياسي في مصر عند صياغة الخطاب المناهض للإخوان قبل ٣٠ يونيو وبعدها إنما انتقل إلى دعم جهود الجيش ومعه تحالف ٣٠ يونيو في تشكيل سلطة سياسية جديدة، وهو ما تجلى بوضوح في الإصرار على رسم أوجه شبه بين السيسي وبين عبد الناصر، وبين دور الجيش في ١٩٥٢ ( لحظة تأسيس نظام يوليو) ودور الجيش في ٢٠١٣ لحظة تأسيس نظام ما بعد مبارك وما بعد الإخوان. ولا شك أن هذه الجهود من جانب الناصريين والأطراف ناصرية المخيال والمرجع قد اختلطت بجهود أطراف أخرى داخل التحالف الحاكم تراهن على إحياء الدولة الأمنية، ومصادرة المجال العام مرة أخرى في إطار الحرب على الإرهاب واحتواء محاولات الإخوان لزعزعة الاستقرار وتعطيل المسار الانتقالي التالي على عزل مرسي.
ومما لا شك فيه أن ثمة تناقضاً ما بين المشروعين السياسيين (إن جاز إطلاق وصف مشروع عليهما) وهو أن إعادة السيطرة الأمنية على المجال العام قد تكون قاسماً مشتركاً بين الناصريين والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الدولة المصرية، التي هي نفسها ابنة النظام الناصري القائم منذ ١٩٥٤، على مصادرة المجال العام وإخضاعه للرقابة والإدارة الأمنية ـ ولكن يظل الفارق شاسعاً بين إعادة إحياء نظام يوليو في صيغة ناصرية جديدة بما يتطلبه هذا من إصلاحات اجتماعية واقتصادية واسعة النطاق تبرر مصادرة المجال العام من جديد، وبين إعادة إحياء نظام مبارك بانحيازاته الاجتماعية والاقتصادية وسياسته الخارجية. ولعل هذا مصدراً حقيقياً للتوتر بين العديد من الناصريين الذي قد يتسامحون مع إحياء الدولة الأمنية وإنشاء مجال سياسي مقيد بوصاية دولتية عسكرية/ قضائية بمقتضى الدستور الجاري إعداده، ولكن مقابل إصلاحات تحقق المطالب الاقتصادية والاجتماعية ( أو بعضها على الأقل) بما يضمن إحياء التحالف الناصري القديم، ويولد نظاماً اجتماعياً ما يحظى بقدر أكبر من الشرعية والتأييد. ويمكن قراءة تشريع الحد الأدنى والأقصى للأجور في هذا السياق. ولكن يظل مربط الفرس حقا هو موقف الجيش من إصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق ستؤدي حتما لصدام المؤسسة العسكرية مع المصالح القوية داخل جهاز الدولة وفي الاقتصاد، والتي تولدت في عصر مبارك (وربما السادات).
نشر أنور عبد الملك في ١٩٦٨ كتابه الشهير "مصر مجتمع عسكري"، وقدم تحليلاً ماركسياً لانقلاب/ثورة يوليو ١٩٥٢ كان أساسه أن الجيش قد تحرك لإنقاذ الأطر العامة للنظام الاجتماعي في مصر فتمخض عن هذا ما يمكن تسميته ثورة من أعلى أو ثورة محافظة وبالطبع لفظ ثورة هنا لا يعني الكثير بقدر ما إنه يشير إلى إصلاحات بحق واسعة النطاق أحدثتها القيادة السياسية الجديدة المنبثقة عن الجيش كالإصلاح الزراعي ومد التعليم المجاني والحصول على الاستقلال الوطني وتمصير ثم تأميم رأس المال الكبير والشروع في التصنيع الثقيل، وكلها مطالب للطبقات العمالية والمتوسطة في المدن والريف منذ نهاية الأربعينيات عجز الوفد عن تحقيقها. وبمعية هذه الإصلاحات صادرت المؤسسة العسكرية (أو السلطة السياسية الناشئة عن تدخله) المجال السياسي وقضت على الوفد والحياة الحزبية ثم ما لبثت أن سحقت أقصى اليمين (الإخوان المسلمون) وأقصى اليسار (الشيوعيون)، وكما قال شريف يونس عزل الجيش الملك ليحتل محله، وليحل التناقضات التي ضربت النظام السياسي بين ١٩٢٣ و١٩٥٢ بحل الوفد ومصادرة السياسة وإجلاء الإنجليز وإنشاء نظام سياسي يقوم على البيروقراطية وامتداداتها في التنظيم الحزبي الواحد.
على أن السؤال الحرج الذي يواجه المشروعين معا هو وجود الأدوات من عدمها لمصادرة المجال العام فبينما يبدو الأمر محسوماً فيما يتعلق بإعادة نظام مبارك للحياة إذ إن ترتيبات النظام نفسه هي مصدر استمرار الاحتجاج بشقيه السياسي والاقتصادي، وقد أثبتت السنوات الثلاث التي تلت ثورة يناير أن القمع وحده لا يكفي، وأنه يؤدي فحسب لتأسيس نظم سياسية لا تحظى باستقرار يذكر، ومن ثم فما من مفر من تقديم تنازلات اجتماعية ما تكفل قيام تحالف اجتماعي ـ سياسي لنظام ما بعد مبارك، ولكن يظل السؤال معلقاً عن إمكانية توليد شرعية إنجازية تضاهي شرعية عبد الناصر ونظامه في الخمسينيات والستينيات لتبرير مصادرة المجال العام مرة أخرى، وكذا عن مدى توفر رؤية والتزام لدى المؤسسة العسكرية لإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق في ظل الانقسام السياسي العنيف الحالي، والمرشح للاستمرار، والاستقطاب الذي يتولد عنه بين معسكر مصري وطني لا يجمعه بالأساس سوى الخوف من الإخوان أو الرغبة في إقصائهم عن المجال السياسي، ومعسكر إسلامي آخر يرى أعضاؤه أنهم يخوضون معركة وجودية.
لقد بنى عبد الناصر شرعيته على الإنجاز من اتفاقية الجلاء في ١٩٥٤ إلى تأميم القناة والانتصار سياسياً في أزمة العدوان الثلاثي في ١٩٥٦، والموجات الأربع من الإصلاح الزراعي التي خلقت طبقة واسعة من صغار ومتوسطي الملاك في الريف داعمة للنظام السياسي ومخلصة لتوجهاته وسياساته، ولإنشاء قطاع عام صناعي ومعه السد العالي، ومد التعليم الجامعي المجاني مع ضمان وظيفة عامة للخريجين. إن نظام عبد الناصر وتحالفه الاجتماعي أو قل العقد الاجتماعي الذي استند إليه كان من نوع الشعبوية السلطوية كما صنفه بيانكي في الثمانينيات Populist Authoritarianism، وهو ترتيب يقوم على استبدال الحقوق السياسية بمكتسبات اقتصادية. فهل يمكن لأي طرف توليد مكتسبات اقتصادية في المدى المتوسط (ولا أقول القصير) بما يولد تحالفاً اجتماعياً راسخ الأقدام كذاك الذي ولد في دولة ما بعد الاستقلال في مصر، وميز عصر ونظام عبد الناصر؟ والإجابة القاطعة هي بالنفي لأن السياق العالمي اليوم لا يسمح بظهور هذه التحالفات الاجتماعية أو الترتيبات الاقتصادية والسياسية نتيجة ظروف عديدة هي التي قضت على نظامي السادات ومبارك باتخاذ إجراءات اقتصادية تحريرية قوضت شرعية النظام وحكمت عليه بالتفكك البطيء وبمواجهة حركة احتجاجية أخذت تتصاعد حتى وكزته وقضت عليه في يناير ٢٠١١.
ولكن هذا لا يحملنا على تجاهل حقيقة ماثلة في مصر وهي أن خيال العدالة الاجتماعية ناصري بامتياز، وأن الناصرية قد لا تكون أيديولوجية متماسكة أو متجانسة كالإسلام السياسي أو الماركسية، وقد لا تكون قوة تنظيمية حزبية أو نقابية إلا أنها ولا شك جزء أساسي من الثقافة السياسية ومن المخيال السياسي للطبقات العمالية والوسطى الحضرية والريفية في مصر. ويضاف إلى هذا أن الفشل المبكر للإخوان المسلمين كان راجعاً إلى أن المشروع الهوياتي الإسلامي كان يفرق أكثر مما يجمع، وأنه أدى لانقسامات اجتماعية عنيفة خلال الصعود السياسي القصير للإخوان المسلمين، بينما أثبتت الصياغات القومية المصرية (والناصرية والساداتية تجليات لها) أنها أكثر رحابة وتقبلاً للتعدد بين المصريين، وبالتالي فإنها تمثل أساساً أيديولوجياً أرسخ لتحالف سلطوي جديد، هو الذي يستند عليه الجيش اليوم وتحالف ٣٠ يونيو في التصدي للإخوان وإعادة تصميم المجال السياسي بإقصائهم منه.
ومن هنا يبدو أن جوهر الإشكال الذي تواجهه مصر اليوم هو أن العقد الاجتماعي الوحيد الماثل في خيال الكثيرين من المصريين ناصري بامتياز عائد لدولة ما بعد الاستقلال، ولكن إعادة إنتاج هذا التحالف غير ممكنة في ظل الظرف العالمي الذي يقضي على مصر بالاندماج في النظام العالمي لا اقتصادياً جراء الاعتماد على تدفقات السلع ورأس المال من الخارج فحسب، وإنما ثقافياً وسياسياً كذلك، إذ لم تعد هناك مساحة حقاً للصيغ الأولى لدول ما بعد الاستقلال، ولليسار القومي التقليدي، أو للاقتصاد الدولتي. هذا بالطبع لا يعني أنه ما من مساحة للتحول الاقتصادي والاجتماعي في مصر، إذ إن الوضع القائم خاضع للتفاوض ولا شك وخاضع لإعادة الترتيب لإنتاج نظام اجتماعي ( وليس سياسياً فحسب من الناحية الإجرائية) أكثر شعبية وأكثر شرعية في عيون الغالب من المصريين بما يضمن له البقاء والاستقرار. ولكن شروط هذا التفاوض من الأصل تجعل الصيغة الناصرية القديمة أو تجلياتها الجديدة غير ممكنة ولا محتملة في أي وقت قريب رغم كل الدعاية والنشاط الإعلامي المكثف. فهل هذا يعني أن الناصرية قد ماتت وأننا بصدد غياب أي إطار لإعادة بناء النظام الاجتماعي في مصر؟ إن الإجابة مرة أخرى هي بالنفي. قد تستمر الناصرية مرجعية ما للدولة وللقوى السياسية، ولكنها مرجعية مرشحة للتجاوز إلى مرحلة ما بعد الناصرية. والمقصود بها صيغة لتحالف اجتماعي يضمن دوراً أكبر للدولة في توزيع الدخل والثروة، وفي تمكين المزيد من المواطنين من المشاركة في النشاط الإنتاجي ومن ثم في الحصول على عوائد النمو الاقتصادي (خلافاً لما كان قائماً في عهد مبارك الأخير)، ولكن دور الدولة هنا لا يعني حلولها محل القطاع الخاص من خلال التأميم أو توسيع القطاع العام ولا يعني قطعاً حلول البيروقراطية محل المجال السياسي بمصادرة الحريات النقابية والطلابية والحزبية، إنما يعني استحضار ترتيبات العدالة الاجتماعية من خلال تعريف دور الدولة في اقتصاد تعددي وفي مجال سياسي تعددي بما يدفع بالناصرية هنا إلى وضعية قريبة من اليسار الجديد رافضة للصيغة النيوليبرالية من الرأسمالية ولكنها ليست بالضرورة تدور في فلك اشتراكية أو رأسمالية الدولة.
إن هذا المقال لا يهدف بحال إلى وضع صيغة محددة ومعرفة مسبقا لما بعد الناصرية أو لكيفية قراءة التجربة الناصرية في مرحلة ما بعد مبارك وما بعد بعده إنما تهدف لبدء النقاش العام حول هذه القضية، وللشروع في حوار مفتوح حول الأسس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لنظام اجتماعي أكثر شرعية وأكثر استقراراً في السنوات القادمة.