بعد عقود قضوها مشتتين بين المناهج العربيِّة، كان قد أصبح للفلسطينيين في مطلع الألفيّة الجديدة منهاجهم التعليميّ الخاص والموحَّد في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة. في حينه، لم تعجب المناهج الجديدة «أميركا» و«إسرائيل» اللتان اتهمتا السلطة الفلسطينيِّة بأنِّ تلك المناهج تحرِّض على العنف، وأنّها لا تتضمّن مبادئ السلام والمصالحة ولا تشير إلى وجود «إسرائيل» على الخريطة. كان الرئيس عبّاس قد تطرَّق إلى ذلك في خطابه في شباط/ فبراير الفائت أمام طلبة إسرائيليين في مقره في «المقاطعة»، وتعهّد بالعمل على تغيير ما لم يرق عبر لجنة فلسطينية ـ أميركيّة ـ إسرائيليّة.
يتّفق طرفا المعادلة الفلسطينيّة البائسة في غزّة ورام الله، وفاءً لقاعدة «إن لم تجد شتاتًا فبادر الى خلقه»، على ضرورة كسر وحدة المناهج الفلسطينيِّة. ينحصر الاختلاف في موعد التغيير وماهيِّته. وكان شرف السبق لحكومة «حماس». ففي نيسان/ ابريل من العام الفائت، أصدر أسامة المزيني، وزير التربية والتعليم في حكومة غزّة، قراره رقم (13) بتدريس مناهج تربية وطنيّة جديدة لصفوف الثامن والتّاسع والعاشر في المدارس الحكومية في القطاع المحاصر.
يفرض القرار الجديد، الذي أصدره الوزير نفسه الذي ابتدع «برنامج الفتوَّة»، انقسامات تعليميّة مبدئيِّة ذات أبعاد سياسيّة في غزّة نفسها، وبينها وبين الضفِّة الغربيِّة. ذلك أنّ المناهج الجديدة لن تدرَّس في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) بغزّة، بل سيقتصر تدريسها على من يقعون تحت السلطة المباشرة للوزير المزيني. ما يعني حوالي 55 ألف طالب موزعين على عشرات المدارس.
مع الإعلان عن القرار، أبدى العديد من المراقبين ورموز المجتمع الأهلي في غزّة تحفظهم وامتعاضهم من هذه الخطوة. ركّزت الانتقادات على ما ستعنيه من تجذير وترسيخ للانقسام الفلسطينيِّ الذي سيُتم بعد أشهر قليلة سنته السابعة. ولكن الانتقادات لم تتطرّق لمضمون المناهج الجديدة. فما الذي فعلته حماس بالضبط في منهاج التربية الوطنيِّة؟
بالاطلاع على الكتب الجديدة، أرادت حماس بمنهاجها الجديد أن «تزايد» على منهاج السلطة القديم. أي أن «تجهّل فوق جهل الجاهلينا»، وأن تجعل من كتاب التربية الوطنيّة المقدّم لطالب فلسطينيّ في مقتبل عمره كتابًا للتربية فائقة ـ الوطنيِّة. تنسحب هذه النكهة الرسوليِّة على كافة قرارات حكومة «حماس» ذات الطابع الاجتماعي والثقافي، من حملات فضيلة وبرامج فتوَّة ونشرات توعية، والتي يمكن اعتبارها في جلّها عربات في مترو أنفاق «الأسلمة» الذي يجري تحت سطح الأرض الغزيّة.
هذا في العموم. أمّا في التفاصيل فيخضع ما تقرر الإبقاء عليه، أو جرى حذفه، أو تمّت اضافته كي يصير منهاج التربية الوطنيِّة «وطنيًا جدًا» لاعتبارات تحكمها خيالات المؤلِّف، ذكوريَّته، وخلفيّته التنظيميّة. أمسك مؤلُّفو حماس المناهج القديمة وقلّبوها. أبقوا على ما يلائم صورة فلسطين في خيالهم، وارتأوا حذف الباقي.
فمثلما تركِّز مناهج السلطة الفلسطينية على فلسطين - الأرض، تركّز مناهج حماس الجديدة على ذلك وتضاعف منه وتحقنه بكلّ ما توفر من آيات قرآنية وأحاديث شريفة مع تخصيص وحدة «فلسطين والموقع الإستراتيجي» الدراسيّة في ناصية كتب التربية الوطنية الجديدة. يختلف ما هو «إستراتيجيّ» بين المنهاج القديم والمنهاج الجديد. في الجديد، تكتسب فلسطين قيمة إستراتيجيّة نوعيّة باعتبارها «أرض الرباط» و«موطن الطائفة المنصورة» حسبما يرد في كتاب التربية الوطنية الجديدة للصّف الثامن.
الوحدة الدراسيّة الوحيدة التي تتطرق للوجود الفلسطيني في صيغته البشريّة، وفي اختلاف مناطق سكناه، ألا وهي وحدة «الشتات الفلسطيني» في منهاج التربية الوطنية للصف التّاسع، لم تنج من الحذف والاستبدال بوحدة دراسيّة تسلّط الضوء على عدوانَي إسرائيل الأخيرين على غزّة، مقدّمين للطالب في حلّة حمساويِّة: حرب الفرقان وحرب حجارة السجِّيل.
أمّا الوحدة الدراسيّة الثانية التي تحتّل حيّزًا ثابتًا في كتب المناهج الجديدة فجرى إيرادها تحت عنوان «فلسطين أرض البطولات». تقدّم هذه الوحدة، في كتابي الصف الثّامن والتاسع، عرضا تاريخيا سريعا لبعض الأحداث السياسيّة والمعارك ذات العلاقة بفلسطين: اليرموك، حطين، عين جالوت، ثورة البراق، ثورة القسّام، ومعركة الكرامة.
أمّا في كتاب الصّف العاشر، فيستعاض عن تلك الوحدة بأخرى تحت عنوان «من أعلام فلسطين»، وفيها يأتي المنهاج على ذكر أحمد الشقيري، ياسر عرفات، وأحمد ياسين. كما ترد في نفس الكتاب الوحدة الثالثة بعنوان «المشروع الصهيونيّ» والتي تفرد فيها العقليّة الحمساويّة عضلاتها وتقدّم ما من شأنه الدفع باتجاه إتمام عمليّة تحويل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيليّ إلى معركة أديان.
فحسب المنهاج الجديد، تقدّم الصهيونيّة للطالب الفلسطيني على أنّها «جزء من تفكير كلّ يهودي»، وأنّ إسرائيل «دولة دينيّة رسمها الحاخامات وهي قائمة على التلمود»، وأنّ الاندماج التّام قد حدث بين الصهيونيّة واليهوديّة، وبذلك «ظهرت اليهوديّة بزيِّها الجديد باسم الصهيونيّة». وقد يكون في كلِّ ما سبق بعضا من الحقيقة، لكنّه قطعا ليس حقيقيا على طريقة مؤلفي المنهاج. أي أنّه ليس مسطحا كما يقدّم للطالب.
أمّا بعد أن ينتهي الكتاب من إيراد تشكيلات مختارة من بعض حجج «اليهود» في أحقيّتهم بفلسطين، تبدأ عمليّة التفنيد بسلاح الدّين الحنيف: «ومما يدلل دلالة قاطعة على كذب اليهود ومزاعمهم الخادعة بأنهم شعب الله المختار هو أنّ الأمة الإسلاميّة هي خير أمّة أخرجت للناس، خصّها الله تعالى بميزتين هما الخيريّة والوسطيّة».
ليسوا هم شعب الله المختار، إذًا، بل نحن. معركتنا معهم، نحن أهل الإسلام، قديمة قدم الدّين. ففي درس «جدار الفصل العنصريّ» في كتاب التربية الوطنيّة الجديد لن يقرأ الطالب الفلسطينيّ شرحا حول أسباب بناء الجدار الأمنيّة وتبعاته المدمّرة إلا بعد أن يقرأ آية كريمة عن يهود بني النضير «لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصّنة أو من وراء جُدر بأسهم بينهم شديدٌ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون» (سورة الحشر، 14)
ما فعلته «حماس» في مناهج التربية الوطنيّة للصفوف المعنيّة، هو أنّها قامت بحَمسَنتِها بكلّ ما يعنيه ذلك ويترتّب عليه من إعلاء من شأن السرديّة الدينيّة لتاريخ فلسطين والصراع فيها وعليها، وتغييب تام لأي نهايات مفتوحة تحفِّز الطالب على التفكير المستقل (الأمر الذي ينطبق على المناهج القديمة)، وإبقاء على الطابع الذكوريّ الذي يريد تحرير الأرض «المغتصبة»، وتقديم اعتداءات صهيونيّة وأفعال مقاومة حديثة في صيغة إسلاميِّة حزبيِّة يكاد المرء يسمع بين ثناياها، لو أصغى، ما قاله دانتي عن الطريق المحفوفة بالنوايا الحسنة إلى جهنَّم.
ومع ذلك، أبدى كثيرون حماستهم لهذه المناهج الجديدة. ربُّما تعزز هذه المناهج، في بعض مواضعها، ثقافة المقاومة، كما يقولون. من الجيّد حذف الوحدة الدراسيّة عن «المسيرة السلميّة» ناصعة الفشل، وإيراد وحدة دراسيّة تعرِّف الطالب على فصائل العمل الفلسطيني. لكنّ هذا «البعض» لا يجب أن يعمينا عن محاولة فهم «الكلّ». إذ لا تكمُن خطورة ما قامت به حكومة حماس في «ترسيخ الانقسام» فحسب (وهو المرسَّخ بالفعل) بل في أخذ ما هو «مُحتمل»، كتعزيز هذه المناهج لثقافة المقاومة (في صيغتها الغزيِّة) أو تباينها عن سياسات رام الله الانهزاميّة، والتعامل مع تلك المسائل على أنّها الناتج «الأكيد» والوحيد لخطوة من هذا النوع، دون التوقّف عند التفاصيل التي يحلو للشيطان أن يتمدد فيها.
تكمن الخطورة، بكلمات أخرى، حين تكون المدرسة مكانا لاستعراض العضلات الحزبيّة (حتّى وإن تمّ التأكيد على الوحدة الوطنيّة) وخشبة مسرح للخيال الضيِّق، وحين يطغى الحسّ النفعيّ الذي قد يكون مدفوعا بنوايا طيّبة على الحسّ النقديّ في الحكم على هكذا خطوة، خصوصا أنّ ما على المحكّ في موضوع بدقّة وحساسيّة تغيير المناهج ليس هامشيا أو قابلاً للتجاهل. إنّه، بدون مبالغة، عقول الآلاف من الطلبة الفلسطينيين.
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير العربي"]