Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

قديسون وانتحاريون

$
0
0

إذا كانت الحرية لعنة ونعمة في آن، فلأن من الممكن استعمالها للهدم مثلما للخلق.ولهذا فهي تحتاج، على منوال كل القوى المقدسة، إلى أن تُحاط بشبكة سميكة من  التحذيرات والممنوعات. فما هو عظيم القيمة فيها بنحو كبير هو الأكثر خطراً أيضاً.ويمكن أن توصف قوة الهدم هذه بأنها استغلال الحرية، ولكنه استغلال لا بد منه باستمرار إذا كان من المطلوب أن تزدهر الحرية، وهو،إلى هذا الحد، جزء من طبيعتها. فالحيوان القادر على القيام بجراحة منقذة للحياة  قادر أيضاً على أن يعذّب الآخرين.وتعني الخطيئة السعيدة(1)Felix culpa أنه من أجل أن تسود الحرية لا بد لنا من أن نتلقى ركلات القدر.

وعلى أي حال، فإن بعدي الخلق والهدم لم يكونا  دائماً الخيارين اللذين يمكن أن يظهرا، إذ يستطيع المضربون عن الطعام والمفجرون الانتحاريون أن يظهروا بدائل أخرى. فالمضربون عن الطعام يموتون بمحض إرادتهم الخاصة المهلكة. حيث الإرادة هنا تغدو جسداً غريباً داخل جسدهم، يتأكله ويقضي عليه.ومهما كانت معتقداتهم الحقيقية فإنهم في هذه الصورة يشبهون أطفال التنوير، فقد كان عصر الأنوار يرى بأن الإرادة هي قوة تهيمن على المادة وتضغط عليها بشكل متغطرس كي تضعها في خدمتها. وبالنسبة للمضرب عن الطعام، فالأمر يتعلق بجسده. بحيث يصبح النصر النهائي اختفاء المادة تماماً، لأن جسد المحتج يتلاشى تحت القوة الوحشية لإرادته المصممة.

يأمل معظم المضربين عن الطعام أن يظلّوا على قيد الحياة، ولكن هذا ليس حال الانتحاريين. ففكرة الإضراب عن الطعام ليست هي رفض الطعام بالتحديد وإنما رفض طعام المُضْطَهِِد، وهكذا فإن المضرب يكشف عن مفارقة مفادها أنه أُبقي على قيد الحياة من قبل أولئك  الذين هم، في الأساس، هناك في الخارج لتدميره. ليست المسألة هنا مسألة موت فحسب، وإنما وضع المضرب لموته على باب أحد ما. والإضراب عن الطعام والتفجير الانتحاري متشابهان في أن كليهما يحمل تناقضاً ذاتياً . فإذا كانا يمثلان أعراض ضعف ويأس فهما يمثلان أيضاً مسرحين للتحدي. يصرّح المفجر الانتحاري بأن الموت أفضل من هذه الصورة البائسة للحياة، وبالفعل إن حياته تلك هي شكل من أشكال الموت، والموت الحقيقي للمرء إنما هو تحققه المادي. يمثل فعل التضحية بالنفس مسرحياً، وبنحو مضخّم، التضحية بالنفس التي هي وجودك المعاش. واستخدام العنف ضد النفس يرسم بهذا المعنى صورة أكثر حيوية لما يفعله العدو بك، وهذه التضحية تحوّل موتك إلى مشهد عام. فالموت حل لوجودك، ولكنه تعليق عليه أيضاً.

يبدو موت الانتحاري منفصلاً عن وجوده المعاش ومتجانساً معه في آن واحد. فالمفجر الانتحاري يأمل، من خلال التخلص من حياته طوعاً، أن يشد الانتباه إلى التباين بين هذا الشكل المتطرف للإرادة  الذاتية، وبين غياب إرادة مستقلة كهذه في حياته اليومية. ولو كان بوسع الانتحاري أن يعيش كما يموت لما احتاج إلى الموت. فالانتحار يشير إلى الحاجة الماسة إلى تحول درامي يجعل الحياة مقبولة.ولكنه أيضاً بديل يائس  لذلك التحوّل. ويتجاوز المفجر الانتحاري قدره من خلال الخضوع له بحرية على غرار البطل التراجيدي، وهكذا فهو يصبح منتصراً وضحية في آن. ويغدو التفجير الانتحاري الكلمة الأخيرة في عدوانية منفعلة. فهو انتقام وإذلال في حركة واحدة. يهدف الانتحاري إلى أن يصبح شيئاً فعالاً عظيم القيمة من خلال إذعانه إلى أن يكون لا شيء. وعلى غرار الأبطال التراجيديين، أيضاً، فإن أهمية الانتحاري لا تكمن في حساسيته الشديدة حيال الحيوات البريئة التي يأخذها معه. بل في كونه يغدو في لحظة عابرة ذاتاً حرة من خلال تحويل ذاته إلى موضوع، بدلاً من تحمل عار كهذا على يد آخرين، وهذا حال كبش الفداء أيضاً، رغم أن كبش الفداء بريء  ولكن المفجر الانتحاري ليس بريئاً. فموت كبش الفداء الآن هو موته، وليس جزءاً من الإنتاج الضخم للموت الذي يحدثه الانتحاري حوله.

إذا كانت الحداثة تتعلق بامتلاك المرء غرفة خاصة به، فهي أيضاً تتعلق بامتلاك المرء لموت خاص به، وهذا حدث صار نادراً كما يزعم ريلكه في دفاتر مالته لوريدس بريدج . ويقول نيتشه  ليس هناك شيء أكثر ابتذالاً من الموت، وهذا القول ينطوي على معنى ضمني بأن أرستقراطياً روحياً مثل نيتشه لا يليق به أن يخضع لسوقية مواجهة قدر يشترك فيه مع العوام دون احتجاج. وهكذا فإن عنف المفجّر الانتحاري هو إشارة تحدٍّ لهذا القطيع المدجّن من الجمهور، وهو نفسه جزء من القطيع لا يساوي أكثر من صفر. ففي نظام اجتماعي يبدو بدون عمق وشفافاً ومعقلناً وسريع الاتصال، فإن الذبح الوحشي للبريء يبعث الغامض والمفرط والخاص بنحو يتعذر تجنبه. فالإرهاب اعتداء على المعنى اللامادي واعتداء على ما هو مادي، إنه "حدث" دادائي أو سريالي دُفع إلى طرف أقصى غير قابل للفهم. إنه مشهد وهو كذلك قتلٌ.

يحثّ السيد فلاديمير، في رواية كونراد العميل السري،  فرلوك على القيام بعمل إرهابي لا يكون مخيفاً فحسب بل وعبثياً أيضاً، فهو يقول له:" إن الاعتداء بقنبلة للتأثير على الرأي العام الآن ينبغي أن يتجاوز نية الانتقام أو الإرهاب. بل لا بد له من أن يكون تدميراً صرفاً. لا بد من أن يكون هكذا ... فهو يطلب منه القيام بفعل وحشي مدمّر وعبثي أيضاً بحيث يكون غير قابل للفهم، أو للشرح، أو للتفكير ... لن أحلم أبداً بتوجيهك إلى ارتكاب مجرّد مجزرة"... (الفصل الثاني). وهكذا فإن فلاديمير لا يقترح تفجير مسرح أو مطعم، وإنما مرصد غرينيتش. وهو يعتقد أنه بفعل ذلك فسيؤكد فكرة أن إرهابه هذا رمزي أو تعبيري أكثر مما هو أدائي.وهو يتحدث أيضاً باحتقار عن ذلك المرصد كرمز للإيمان الصنمي بالعلم لدى الطبقة الوسطى، مشوّهاً على هذا النحو فكرته الخاصة عن الإرهاب. فما دام يريد أن يكون عمله الإرهابي عبثياً حقاً، لماذا لا يفجّر مرحاضاً عاماً؟ هكذا يسوق فلاديمير فكرته ولكن ضد نواياه حين يقول إن الإرهاب السياسي  هو في الحقيقة بلا هدف. غير أن هذا لا يجعل الإرهاب أقل قابلية للشجب، ولكنه بالتأكيد يجعله أقل جنوناً على أي حال، لأن تخطيط انفجار جنوني دليل دامغ على جنون من قام به. إنه أشبه بتكذيب الذات أو برمي غريب من القطار لإثبات أن من الممكن أن يكون هناك فعل بلا باعث.

على هذا النحو ما يزال بإمكان المرء أن يرى بعض أشكال التفجير الانتحاري كنسخة إجرامية عن الفن الطليعي، كاستحضار دادائي للفوضوي ولما لا يُوصف وللغامض من ثنايا اليقينيات المهزوزة لعالم الحياة اليومية. فعلى غرار الطليعيين، يهدف المفجر الانتحاري إلى تفجير اللعبة الاجتماعية نفسها، وليس مجرد القيام بحركة غريبة داخلها. إنه يهدف إلى اغتصاب العقل وتمزيق اللحم، و تشويه فضاء الجلّي كي ينفجر من الداخل. فهو يمثل بذلك الفعل المطلق للإبهام، الذي يحول اليومي المعاش إلى ما لا يُعرف كنهه ولا يُفهم مغزاه بنحو وحشي. إنه يهدف إلى شق الأرض مجازياً وفعلياً أيضاً تحت أقدامنا. وتعتبر الصدمة والعدوانية جزءاً من معناه،لا مجرد تأثيرين جانبيين.

هكذا يؤدي المنبوذون من الوسط العام مسرحية عامة من إبداعهم. ولكن الذين يلعبون كعابرين في هذا الوسط لا يستطيعون أبداً اختيار أدوارهم. فالمفجر الانتحاري ينتصر على خصومه لأنه مجهّز للهلاك أما هم فلا. فالحرية الأخيرة في النهاية ليست توقّي الموت، الذي يبقينا في أمكنتنا مذعنين. وهكذا فإن بارنادين البليد في مسرحية العين بالعينينال عن غير قصد من أفضل المتفوقين عليه. كان ينبغي إقناع بارنادين بأن يموت راغباً بالموت، لا أن يموت دون رغبة، أو لأنه لا يأبه كيف يموت،فهذه اللامبالاة بالموت أو الهدوء الذهني (2) ataraxy يجده النظام الحاكم أكثر إقلاقاً بكثير. فالموت، أو مقته، هو داعم التمدّن ، مثلما أن السامي أو الجليل برأي بيرك، هو البنية التحتية للجميل. فأولئك الذين لا يملكون شيئاً يخسرونه هم خطرون جداً، لهذا السبب فإن القوة الغاشمة التي أوصلتهم إلى هذا الوضع قد فشلت. وهكذا يصبح التحديق في عين الموت أفضل طريقة لضمان أن لا تسيطر عليك مثل هذه القوة. فمن خلال الموت الذي تلقي بنفسك فيه، مثلما فعل بارنادين، تستولي تماماً على سلطة الموت. أما أن تعيش حياة كالموت فإن هذا يبعدك عن الأذى، ويحميك من الخطر. ولكنها حقاً حياة لا يُحسد عليها.

حين تفجّر نفسك فهذا  لا يعني أنك مولع بفنائك على نحو مرضي.فالمضربون عن الطعام والمفجرون الانتحاريون يؤمنون بأن الحياة ثمينة، و إلا لما قاموا بما قاموا به.تريد المضربة عن الطعام أن تُلبّى مطالبها لكي تستطيع أن تأكل ثانية. ويرى المضرب عن الطعام وكذلك الانتحاري أن ما يمنح حياتك قيمة جوهرية  هو ما تكون أنت مستعد أن تتخلى عنها من أجله.وإذا لم يكن هناك شيء يستحق الموت من أجله فما معنى الحياة إذاً؟ إن فعل التخلّي عن حياتك إذاً يسمح لهذه التضحية بأن تتألق كخلفية مضيئة لاضمحلالك.في الموت، تُدفع إلى المقارنة بين فنائك وبقاء ما تموت من أجله. كذلك هو الحال في السامي أو الجليل، فهو يجعلنا نشعر بضخامته بالمقارنة مع تفاهتنا.فكلما تلاشينا كلما تعزّز. ولكن ثمة خداع ضمني هنا. فأنت لا تموت في النهاية، لأن القضية الجليلة التي مت من أجلها هي نواة وجودك، فهي إذن الشكل الذي ستعيش فيه إلى الأبد.

بهذا المعنى، يعتبر الانتحار السياسي محاكاة ساخرة غرائبية لما يراه إمانويل كنتْ الفعل الأخلاقي الصرف الذي تقف خلفه نزاهة تضع جانباً المصالح الشخصية باسم الواجب الأعلى. ففي هذا الفعل الصرف، يقول كنت، تتحول النفس كأنما تولد من جديد، أو هذا ما سينطبق على الأقل على المفجر الانتحاري، لو لم يكن قد وضع نفسه لتوه خارج نطاق الولادة من جديد بالطريقة الأكثر تحديداً. ولكن بوسعنا دوماً أن نرى هذا التحول منقولاً إلى جماعته، التي ستولد من جديد من خلال فعله.والحقيقة، إن أفعالاً كنتية (نسبة إلى كنتْ) كهذه، متحررة من كل العناصر "المَرَضية"، يصعب تحققها بنحو محتم، والموت بواسطة التفجير الانتحاري ليس استثناء.فأنت تموت في الحقد واليأس مثلما في الإيمان والأمل. وهناك دوماً الفكرة الخادعة عن الجنة لتسهيل مرورك. لكن الشهيد الحقيقي هو الذي يتخلى عن كل شيء،حتى عن أمل الخلاص.أما المفجر الانتحاري بالمقابل فعينه مصوبة بقوة على مكافأته الأبدية، فهو أشبه بالشهيد المزيّف الذي يحاول أن يدخل بالغش إلى نادي الجنة من خلال سحر مالكها. فهو منخرط، في النهاية، في منطق تبادل القيمة. والمفارقة المستحيلة تقريباً للشهادة الحقيقية، مثلما يقول توماس في مسرحية تي. إس. إليوت التي بعنوان جريمة في الكاتدرائية، لأنه من غير الممكن إثبات أن شهادتك مثمرة إلا بعد تأمل ثمارها. وخلافاً لذلك أنت منخرط فحسب في مقايضة أخرى قذرة. لأن هذا النوع من الفعل الاستشهادي يشوش الفرق بين السلوك "العقلاني" والسلوك "غير العقلاني": عليك ألا تحسب النتيجة، ولكن دون أن تكون منخرطاً في فعل مجاني غرائبي. وليست هذه المفارقة مقتصرة على أفعال استثنائية كهذه، فهناك من دون شك أفعال  تفشل في التأثير على الآخرين لأنها تقصدت أن تؤثر بهم. 

منذ بضعة قرون، كان الرجال والنساء الغربيون مستعدين للموت بأعداد كبيرة من أجل هدف واحد هو الدين. وما يزال هذا صحيحاً في مناطق متنوعة من العالم، وهذا أحد الأسباب التي توضح لماذا يواجه الغرب مشكلة سياسية. أما في الأزمنة الحديثة، كما يشير بينيديكت أندرسون في كتابه الجماعات المتخيلة،فإن الناس مستعدون للموت من أجل الأمة. فالقومية هي أثر متبق مما هو جليل وسام في العالم العلماني، على غرار الله، وبما أن الأمة خالدة وغير قابلة للانقسام وغير مرئية وشمولية، ودونما أصل أو نهاية، فهي تستحق حبنا الأقوى، وهي أرضية وجودنا. ومثلها مثل الله أيضاً، لأن وجودها مرتبط بإيمان جماعي. إذ لن يكون هناك أمة إلا إذا آمنا بأنها موجودة. وهي ليست موجودة مثلما يوجد الحاجز المرجاني الكبير. لأنها حين توجد بالإيمان، فهي تنطوي على  الأمل السياسي، وخاصة من أجل تحررها المستقبلي؛ وتكون في الوقت ذاته ميداناً للعمل التضامني أو العاطفة الأخوية." وكما يقول سلافوج جيجيك: "إن ملء الحيّز الفارغ للخير الأعلى يجسّد المفهوم الحديث للأمة".

يحوّل المضربون عن الطعام ضعفهم إلى قوة. ويستطيعون ممارسة تفوقهم على القوى التي تحتجزهم من خلال خداعهم بالجزء الوحيد من أدواتهم والذي لا تستطيع هذه القوى السيطرة عليه: ألا وهو أجسادهم. وهم يتحصنون بحرمان جلاديهم من هذا الجزء القابل للتلاعب منهم. إذ لا شيء أقل قابلية للتحكم من اللاشيء. إن استباحتهم لذواتهم كاملة بحيث لا يبقى من يطالب بالغنائم. وهكذا فإن النصر والهزيمة غير قابلين للتمييز. ولكن قتلك لنفسك يمكن أن يكون أيضاً طريقة لإبقاء المظاهر الإرهابية للموت على مدى الذراع. فما يبدو كمواجهة إرادية لفنائك يمكن أن يكون أيضاً تملصاً منه. فربما كان فعل قتل الذات في النهاية مجرد تأكيد صارخ لها؟ وتغدو التضحية بالنفس على الأرجح هي الشكل المطلق لامتلاكها. يقول موريس بلانشو في كتابه الفضاء الأدبي: إن الشخص الذي ينتحر يؤكد الحاضر بقوة، ما دام يريد من لحظة الانتحار هذه أن تكون لحظة مطلقة بحيث لا تنقضي ولا يتم تجاوزها.ويرى بلانشو أن الموت الطوعي إنما هو فعل قتل للذات يؤكد تفوّق الإرادة في فعل القتل نفسه للتخلي عن هذه الإرادة مثل فعل سيئ.وبما أن الموت هو ما يربك جميع مشاريعنا ويبقى غريباً على قراراتنا، ويلغي ذواتنا فلا يمكن التعويل عليه من أجل أي مشروع .ويقول الفيلسوف إمانويل ليفانس في كتابه الزمن والآخرإن الموت يحدّد نهاية البطولة والرجولة؛ ولكنه في الحقيقة يمكن أن يكون نسخة عنهما أيضاً.

يرى بلانشو أن الانتحار يلقي الضوء على نوع من القوة مناسب بوجه التحديد للمواطن العالمي. إنها قوة التصميم الإرادي التي تنبع مباشرة من الوضع الذي يخلصك من الموت. فحين يكون الموت هو ملكك الدنيوي، فأنت تتخلى عن هذه الملكية كملكية. وينطوي القضاء على الذات على نوع غريب من الحياة في الموت، لأنه يتضمن حقيقة أن المرء يستطيع أن يتخلّص من عدمه بطريقة سيادية، وذلك في اللحظة نفسها التي يعلن فيها المرء لاجدوى الفعل وفراغ القوة.ويرى بلانشو أن المنتحر يمكن أن يكون شخصية مأساوية، ولكنه هو أيضاً شخصية ساخرة بنحو لا فكاك منه.

يمكن أن تدفع السلطة المُضْرِبَ عن الطعام إلى حتفه؛ ولكنها بفعل ذلك تجرد نفسها من أي شخص تخضعه، وهو ما كان يراهن عليه المضرب عن الطعام. فهو بإجباره السلطة على أن تخون فراغها، ينزلق من بين أصابعها ويتركها تتمسك بالهواء. وهكذا إذا تخطّت قوة السلطة نفسها، فإنها تنتهي إلى سحق الحياة التي أملت أن تسيطر عليها، تاركة نفسها دون شخص تستبد به وهكذا تحقق انتصاراً بيروسياً(3). فالقوة المطلقة  هي نوع من الموت الحي: بحاجة إلى أن تحول البشر إلى جثث من أجل أن تؤمن سيطرتها عليهم. وبالمقابل، فإن المضرب عن الطعام هو صورة معكوسة لتلك القوة، فهو  يقهر خصمه بوضعه حداً لحياته. فبتأكيده لسيادته على ذاته يمحو نفسه من الوجود. والثمن الذي يدفعه من أجل تفوقه على قوة السلطة هو اللاوجود.

حين تموت في وقت تختاره أنت فهذا يعني أنك بتخلصك من حياتك تتصرف كملك مطلق. ولكن إذا كنت حينئذ سيد نفسك، فأنت أيضاً في النتيجة عبد نفسك.وعاقبة هذا النوع من الحرية هي نهاية الحرية. تماماً مثلما يجتمع في فعل التضحية كاهن يتمتع بسلطة كاملة وضحية بلا قوة، وهذا هو حال المفجّر الانتحاري، الذي يرأس طقوس  تقطيع أعضائه، حيث يجتمع فيه الاثنان سوية. وككبش فداء للتضحية، يأمل الانتحاري أن يمر عبر طقس التضحية هذا من الضعف إلى القوة.وهذا يعني عملياً أن القوة الوحيدة  التي بقيت له هي قدرته على تولي مسؤولية التضحية به.

بقضائهم على أنفسهم يُظهر المضربون عن الطعام والمفجرون الانتحاريون قوة يرونها أكثر هولاً من الدولة. من الصحيح أن الجسد قابل للانحلال، ولكن مقابل عملية انحلاله نفسها تقف الفكرة التي تحثهم متألقة وسامية وغير قابلة للقتل. وما لا يُمكن تدميره هو الإرادة نفسها التي تدفعهم لملاقاة حتفهم. فحين تكون قادراً على محو نفسك من الوجود بمحض إرادتك تكون كالله في الحقيقة.  وهذه محاكاة لله وموت له في آن، بما أنك كخالق قمت الآن باغتصاب امتيازه الإلهي. فالانتحار هو موت الله.والمستعد لقتل نفسه يغدو إلهاً، كما يقول كريلوف في رواية دوستويفسكي الشياطين. و الشكل الأكثر سطوعاً للقدرة الكلية هو قضاؤك على نفسك إلى الأبد. والواقع أن فعلاً كهذا تنبعث منه رائحة الخلود، ولكن على نحو ينطوي على مفارقة، ما دامت نتيجته هي عكس الخلود تماماً. ربما هذا ما كان يدور في ذهن جاك لاكان حين قال: إن "الانتحار هو الفعل الوحيد الناجح". لأنه بالتأكيد الفعل الوحيد التام، كما سنرى في رواية كونراد العميل السري، بما أنه لم يكن هناك نهايات ناجزة أو نتائج بغيضة، بالنسبة  للعميل على الأقل. أما الذين تركهم وراءه فليسوا محظوظين هكذا.

والحقيقة أن قلة قليلة جداً من الذين يُنعتون بالإرهابيين هم مفجرون انتحاريون، فهناك عدد كبير من الذين ليسوا كذلك يقاتلون من أجل أهداف يمكن أن يعدها أعداؤهم شرعية في ظروف سياسية أخرى. لقد تخلّصوا، أخيراً، من النير الإمبريالي، وقدموا الدعم لأفعال كثيرة من الغليان الثوري في أنحاء الكوكب. أما إيديولوجيا التفجير الانتحاري فهي إيديولوجيا أكثر رفعة وخصوصية من نظيرتها في حرب العصابات. وحتى داخل عملية التفجير الانتحاري نفسها، هناك ما يمكن تسميته ببعد براغماتي وميتافيزيقي. وكنسخة شيطانية عن الله، يأمل المفجر الانتحاري ذو الذهن الميتافيزيقي، على غرار البروفسور المجنون في رواية العميل السري، أن يخلق شيئاً من لا شيء. ويتألف ابتكاره الجذري من تسليط الفوضى على الوجود، بحيث يقوم هكذا بعمل هو نقيض الخلق.فمن خلال حفر ثقب أسود فيما صاغه الله، يحاول أن يساوي نفسه مع الله. ويمتلك القديسون والمذنبون أخلاقاً مشتركة أكثر من شراكتهم مع أخلاق الطبقات الوسطى. فالشيطان هو مجرد نسخة ساقطة من الملائكة. ولا شيء أكثر أصالة وفرادة من التدمير، بما أنك لا تستطيع تدمير الجسر نفسه مرتين. يمكنك أن تحدث تأثيراً مطلقاً في الواقع ليس بإضافة شيء إليه أو بإعادة صياغته، وإنما بمحوه. ولكن التدمير بالنسبة للمفجر الانتحاري ذي العقل البراغماتي ليس من أجل التدمير فحسب. فمن خارج الهاوية التي يرمي فيها أشخاصاً غير مذنبين، يمكن أن تنبثق حياة جديدة لشعبه.

إذا كان انتحارك هو السلاح الوحيد الذي تمتلكه، أي إذا لم تكن تملك شيئاً تضحي به سوى جسدك، فلا شك أنك فقير معدم. ولكن انتحارك يمثل أيضاً سخرية وحشية من عتاد عدوك العسكري الثقيل، والذي يمكن أن تبرهن عشرة أحجار أو أجساد أنها أكثر من مساوية له. فالثوري الذي يُطلق الصواريخ من عربة يجرها حمار إنما هو هجّاء ساخر وهو جندي أيضاً. وهو يجسد بنحو كرنفالي عنيف الصورة المبتذلة للرجل الصغير العديم القوة والمسحوق من قبل نظام لا وجه له.

يمكن أن يغدو موت المفجر الانتحاري حدثاً أكثر أهمية من أي شيء في حياة المنبوذين أو المهمشين. وقد يصبح الحدث التاريخي الحقيقي الوحيد الذي يقومون به، فبعد أن مزق الانتحاريون الأطفال إلى أشلاء وأهلكوا الأبرياء تراودهم فكرة أنهم  يستطيعون أن يشعروا الآن بأنهم أحياء بنحو أكثر كثافةً. إذ لا شيء في حياتهم يمتلك أهمية مثل تركها. ويكف الموت عن كونه خسارة مجانية. ومهما كان هؤلاء بائسين أو مستنزفين، فإن معظم رجالهم ونسائهم يمتلكون قوة واحدة هائلة تحت تصرفهم، أعني بها القدرة على الموت بشكل مدمر قدر الإمكان. مثلما صرحت بطلة مسرحية روميو وجولييت:" إذا فشل كل شيء، فإنني أمتلك القدرة على الموت". فالموت يهبك كمالاً يمكن أن يكون مثار حسد الأحياء.

يساعدك إخضاع جسدك على الاطمئنان بأنه ليس جزءاً خالداً منك. وبما أن الجسد هو الأكثر تناهياً فينا بنحو واضح، فإن التخلص منه يجب أن يكون بالتأكيد الطريق الأسرع إلى الأبدية اللامتناهية. وإذا بدا الجسد تافهاً بالقياس إلى روائع الروح، فإن تجريد الآخرين من أجسادهم يظهر على أنه أقل من جريمة. ليست هذه في الحقيقة هي التعاليم الأرثوذكسية للإسلام، التي تعد الجسد مقدساً. وليس هذا موقفاً متعجرفاً من عقيدة الجسد في الديانة المسيحية، التي لا ترى الخلاص في خلود للروح وإنما في انبعاث للجسد. يُعتبر آلن باديو Alain Badiou  واحداً من قلة من الفلاسفة غير المسيحيين الذين رأوا أن تفريق بولس الرسول بين "الجسد" و"الروح" يختلف عن تفريقه بين البدن والنفس. ذلكم تباين بين شكلين من أشكال الحياة: الأول يعبّر عن عنف وشهوة، والثاني يعبّر عن عدالة وتعاطف. وأحدهما يقع تحت القانون، بينما الآخر متجذّرٌ في الحب.

ليس الشهداء معادين للجسد: إنهم يتخلون عما يرون أنه ثمين ورفيع القيمة، وإلا فإن عملهم يفتقر إلى أي قيمة على الإطلاق. وهم أيضاً لا يرغبون بالموت بل يفضلون أن يعيشوا، ولكنهم نظراً للظروف المحيطة بهم يفشلون في معرفة كيف يمكنهم ذلك. إنهم لا ينشدون الموت بنحو مباشر، حتى ولو كان الموت نتيجة محتمة لأفعالهم. وينطبق هذا على الذين قفزوا من برج التجارة العالمي في سنة 2001 كي ينجوا من الاحتراق. فهم لم يبتغوا الموت، رغم أنه لم تكن هناك وسيلة لتجنبه.ولا يهدف موت الشهداء إلى تجريد الآخرين من حياتهم. إنهم يصنعون قضية من موتهم، ولكن ليس سلاحاً.

وعليه فإن هناك نقاط تشابه بين الشهداء والمفجرين الانتحاريين وكذلك نقاط اختلاف. فكلا الفريقين يموتان باسم الحياة من أجل الآخرين، وليس الموت غاية بحد ذاته.فالمتطرف الإسلامي أو المتمرد ضد الحكومة الأميركية يعتقد أن موته يساعد على تحرير شعبه، في حين أن الشهيد المسيحي يموت كي لا يخون إيماناً يعدّهُ حيوياً لتحققه. وتعني كلمة "شهيد" "شاهداً"، حيث يشهد الشهيد على إيمانه باختياره لهذا الإيمان بديلاً عن الحياة.ولكن بما أن هذا الإيمان يرتبط، من وجهة نظره، بوفرة الحياة وازدهارها في كل مكان حوله، فإن فعله يقف على النقيض من فعل مشتهي الجثث. وفيما يبدو فعله غير معقول على المدى القصير، فإنه معقول على المدى الطويل. فهو يضحي بفائدة قصيرة الأجل من أجل خير طويل الأمد للآخرين. ولأن الشهيد يرفض أن يخون مبادئه، بسبب كونه عضواً في هذه الفئة المصطفاة، فإن رفض الخيانة يعني الحفاظ على الإيمان حتى حين يبدو من العبث أو من غير الملائم الحفاظ عليه.أما نقيض الشهيد فهو المتمسك بالإخلاص للجماعة أيام رخائها فقط. يرمز فعل الشهادة إلى أمل بالمستقبل، ويؤكد على حقيقة وعدالة وراء الحاضر. وبتحويل جسده إلى علامة على غياب الحقيقة والعدالة، يذكّرنا الشهيد بأن العالم ليس مهيئاً لهما بعد، وهكذا فهو يساعد على إبقائهما حيتين. ولكن فيما يكون الشهيد مستعداً للمراهنة بحياته لتحقيق ذلك، يكون المفجر الانتحاري مستعداً للمراهنة على حياتك من أجل الغاية ذاتها. لهذا فإن شهداء مثل روزا لكسمبورغ أو مارتن لوثر كينغ يموتون كي يحيا الآخرون؛ في حين أن المفجرين الانتحاريين يموتون كي يموت آخرون من أجل أن يحيا غيرهم.

يعد التفجير الانتحاري ممارسة عليا للإرادة، وهذا جانب مما يربطه بالحضارة التي يعاديها. وثمة قلة من الَملَكات هي أكثر حيوية لشكل الحياة هذا من المَلَكة العليا للخيار الحر. إن النظر إلى الإرادة كنوع من القوة المستقلة ـ كـ "إرادة قوة" ـ هو بالتحديد طريقة حديثة لفهم الإرادة، وهي طريقة غريبة على فكر فيلسوف قروسطي مثل توما الأكويني. فالأكويني لم يفهم الإرادة الحرة بهذه الطريقة التجريدية، فهو يرى بأنها جزء من جسدنا، وأن مسائل الاختيار تعتمد في النهاية على بنية أجسادنا المادية. فالأكويني مادي تماماً في مثل هذه المسائل: فهو يعتقد، مثلاً بأن العاطفة شأن جسدي في الأساس، وأن الأفراد مخلوقات جسدية كلياً. ويعتبر الكائنات البشرية أجساداً من نوع معيّن، وليسوا أجساداً تُضاف إليها وحدات مميزة تُدعى الأرواح. وهكذا فإن أعظم لاهوتي مسيحي لم يكن يعتقد بأن روح جون لينون المحررة هي جون لينون نفسه.

يرى الأكويني بأننا لا نملك حرية اختيار تامة لأن نوعاً معيناً من الاختيار موجود فيما سيكون عليه جسم بشري. وليس هذا شيئاً نستطيع أن نختاره. وهو يرى بأن الكائنات البشرية تمتلك ميلاً داخلياً إلى الخير، أو على الأقل إلى ما تتصوره كخير. فنحن نملك شهوة إلى الخير ليست اختيارية، مثلما أن شهوتنا للتغذية ليست اختيارية. وهكذا فإن الإرادة ليست كلية القدرة، ولكنها مقيدة بجسديتنا. إنها الطريقة التي تنحاز بها أجسادنا نحو ما يفاجئنا كمثير للرغبة. فنحن لسنا حياديين تجاه الخير. ولو كنا كذلك، لما امتلكنا أية إمكانية لاختياره. وعلى النحو ذاته فنحن لسنا حياديين تجاه الحقيقة. على العكس من ذلك، فنحن النوع الحيواني الذي يحتاج إليها، مثلما نحتاج إلى النوم والمأوى. وبحسب هذا النمط من التفكير فإن وجودنا ميال إلى الحقيقة، حتى ولو عرقلنا باستمرار مهمة إخراجها إلى النور. فالخطيئة الأصلية تعني بأننا مخلوقون من أجل الحقيقة والسعادة ولكننا لا ندرك تلقائياً كل ما تعنيانه أو كيفية الحصول عليهما.وقد لُقّب القديس أوغسطين المفكر الأول لأنه استخدم كلمة "قلب" كمركز العواطف، ولُقب أيضاً بأنه أول مفكّر حديث يؤمن بأننا جوهرياً غامضون تجاه أنفسنا. لأن امتلاك قلب لا يسمح بالضرورة  بأن ننظر فيه.

لا يكون الخيار، إذاً، شاملاً على جميع الصعد ، مهما كان ما يفكر به الليبراليون والمدراء التنفيذيون للسوبرماركت. وإذا كانت الحرية طليقة كلياً فهذا يعني، عندئذ، بأنها غير مقيدة بأسباب الاختيار؛ غير أننا لا نملك إمكانية لمعرفة ما نختاره دون معرفة أسباب اختيارنا وإلا فلن نكون حينئذ قادرين على العمل إطلاقاً، وستكون حريتنا وهمية تماماً. فالإرادة المطلقة مقدر لها أن تكون اعتباطية، لأنها ترفض الإقرار بأي شيء يمكن أن يكون معوقاً بنحو غير ملائم كباعث عقلاني. وعليه فإن الحرية المطلقة تفضي إلى شلل الإرادة. بحيث ينقلب "كل شيء" إلى "لاشيء". وحتى حريتنا فهي معطاة، على الأقل بمعنى لسنا مسؤولين عنها. فنحن محكوم علينا أن نكون أحراراً، ولكن ليس بمعنى أنه يمكن أن يُحكم علينا بالمشنقة. ليس كل ما لا نستطيع اختياره قابلاً للاعتراض. وهذه أحد الأسباب التي منعت الأكويني من أن يكون ليبرالياً.

يرى الأكويني أن هذه الشهوة الداخلية لما هو مرغوب هي نوع من الحب. كما يؤكد القديس أوغسطين بأن الحب يأتي قبل الحرية والعقل، وهو أكثر جوهرية منهما. أما الإرادة فهي نوع من التوجيه الأولي لوجودنا. ويرى أوغسطين أن الرغبة هي التي تحثّنا على كشف غموض الأشياء، وتجلو لنا الحقيقة والفهم. فنحن نملك ميلاً أثيراً نحو تحقيق ذواتنا، وميلاً طبيعياً إلى السعادة. ويمكننا أن نختار بين نهاية و أخرى، ولكن بما أن سعادتنا هي غاية الغايات فليس من الممكن أن تظهر كمجرد خيار واحد بين خيارات كثيرة. صحيح أننا نهتم بازدهارنا، ولكن ليس بمعنى أن نهتم  بشراء أسهم في شركة شل. ليس المقصود هنا، بالتأكيد، أن نقتنع بنحو مزيف بما نرغب به كازدهار، إذ لا يمكننا أن نقتنع بشيء بسبب حبنا الداخلي له.

لا يمكننا، في إطار هذه الرؤية، أن نرغب بما هو غير مرغوب. فحتى الذين يختارون الشر يفعلون ذلك لأنهم يرونه فكرة جيدة. و لا يعني ذلك أنهم يتوقفون عن رؤيته كشر. فالبشر الذين ينتحرون يفعلون ذلك لأنهم يجدون الانتحار فكرة جيدة، ولكن ليس معنى هذا بالضرورة أنهم يرونه فكرة فاضلة. وحتى تلك الأنماط النادرة، التي سنقف عندها، والتي يبدو كأنما تسلط الأذى على الآخرين من أجل الأذى فحسب، تفعل ذلك لأن الشر من أجل ذاته يبدو لها مرغوباً مثلما كان الفن لدى أوسكار وايلد من أجل الفن. ويمكن أن يشكّل هذا،في الحقيقة، أحد عذابات هؤلاء الملعونين. حتى لو كان شرهم باسم نوع ما من الخير، لأنهم لن يستطيعوا الهرب مطلقاً من كونهم يتبنون ما يحتقرونه. فالشيطان يجد نفسه رغم أنفه يتحدث بلغة القيمة لأنه لا يستطيع أبداً الخروج من ظل الله. و يحتاج إلى وجود الخير كي يبصق في وجهه.

وهكذا فإن الشيطان لا يستطيع أن يتفادى أبداً الإحراج الاجتماعي لأنه كان مرة ملاكاً. وعلى غرار طالب في مدرسة عامة تحول إلى نجم للروك فإن ماضيه المثقل يمكنه دوماً  أن يؤثر فيه. وعليه لا يمكن للنفي أن يقر بوجود ما يسعى إلى محوه. وهو ما نلاحظه لدى إياجو في مسرحية شكسبير حين يقدم مديحاً غير متعمّد لكل من ينوي تمزيقه إلى أشلاء. لا يستطيع تجنب التسليم بأولويات معينة، كأن يقر بأفضلية الحقيقة على الكذب. فحين نصرخ مع شيطان ملتون:" "أيها الشر، كم أنت خيِّر!" فهذا يعني تمجيد قوة الفضيلة من خلال ازدرائها. ويحاول الشكوكي قدر الإمكان تجنب هذه المعضلة، بما أنه لا يُنكر هذه القيمة أو تلك فحسب، وإنما قيمة كهذه.لكن يجب أن يبدو له هذا شيئاً ذا شأن كي يفعله. فكي تتخطى في الأسلوب، تحتاج إلى أن تتخطى التخطي نفسه. وتعجز عن هذا أكثر القوى شيطانية.

ثمة معضلة أخرى هنا أيضاً. فقد اعتقد الأكويني أن من غير الممكن أن يكون هناك وجود شرير صرف، لأن الوجود نفسه، من وجهة نظره، شكل من الفضيلة. وهو يرى بأن الشيء، بالنسبة له، يمتلك من الخير بقدر ما يمتلك من الوجود، فحين نقول عن الله إنه خيّر فلسنا نقصد أن أفعاله قويمة بلا شك ولكن المقصود أنه فياض بالنشوة، فائق البهجة بامتلاء وجوده الذي لا نفاد له، و ينبض بمتعة الحياة. يُعد هذا إذاً مشكلة للأشرار، لأن وجودهم يشي بحقدهم. وهكذا فإن الشر الحقيقي ينطوي بالضرورة على العدم. وهذا أحد معاني عقيدة الجحيم، التي تتحدث عن التدمير، وليس عن العذاب الأبدي.

يقترب الأكويني قليلاً من المفهوم الحديث للإرادة كقوة تجريدية تسخّر العالم لرغباتنا. وتتجلى هذه الإرادة كعجرفة إمبريالية وآلة عسكرية. وهؤلاء الذين يديرون مثل هذه المشاريع اليوم هم معظمهم من أصل بيوريتاني، وتتشكّل الحياة بالنسبة لهم من سلسلة قوية من أفعال الإرادة المعزولة بحيث يغدو الوجود الأخلاقي قضية فحولة ذكورية. وبهذه الطريقة الفظيعة في الرؤية تبدو الحياة مجموعة من الحواجز أو التحديات."وهذا التحدي" هو تحد على الطريقة الأميركية لكارثة لا يمكن إصلاح نتائجها، في أرض تعتبر الفشل مخالفاً للقانون. ويرى الأكويني كما يرى أرسطو، أن ما يضعف هذه الإيديولوجيا الذكورية هو فكرة الفضيلة كاعتياد أو ميل، وهو ما تعنيه الفضيلة. والواقع أن المرء حين يأتمن أحداً على حياته يميل بنحو تلقائي إلى أن يجده أهلاً للثقة ولا يأتمن شخصاً يتصارع دوماً مع دماغه كلما واجه مشكلة. فالفاضلون لا يحتاجون إلى "أفعال إرادة" كي يكونوا فاضلين، وهذا لا يعني أنهم يعملون بلا عقل.

يفكر البيوريتانيون بالحياة الأخلاقية من زاوية الواجب في المقام الأول؛ وبما أن الواجب مربك بوجه عام، فمن المؤكد أنهم يمضون كثيراً من وقتهم في العذاب الأخلاقي. والواقع أن الفكرة الأخلاقية النبيلة بأن الفضيلة تُكتسب بسهولة  على غرار تذوق المرء  نبيذ البوردو الفرنسي الأحمر، أو كنفحة وجدانية لدوافع القلب الطبيعية، هي الوجه الآخر للأخلاق العقابية. فالفضيلة في الحقيقة تتطلب درجة من الجهد، لأنها من الأمور التي تشعر بالرضى عن نفسك حين تقوم بها. فبوسع المرء حينئذ أن ينسى كل تلك الساعات المبرِّحة في الجمنازيوم الأخلاقي وأن يمارس الفضيلة كرياضة ممتعة في ذاتها.

إن الإرادة الكلية التي تمارس الإرهاب على الطبيعة كي تخضع لكل ما تأمرها به هي اسم آخر للحرية المطلقة. وعندما كان مجتمع الطبقة الوسطى ما يزال جديداً ونشيطاً، ومبتهجاً من انتصاراته ومتدفقاً بطاقة لا تفتر، كان إيمانه بهذه الإرادة غير محدود. ولم يكن وراء اندفاعته أية قوى سامية. والواقع أن هذه الإيديولوجيا حية وقوية في الحلم الأميركي اليوم، وهي ترى أن لا شيء مستحيلاً ما دمت تعمل ذهنك فيه. وهناك لوحة إعلانية معلقة في مكتبة دينية في نيويورك كتب فيها:" ما يمكن أن يتصوره الذهن، يمكن أن ينجزه الإنسان"، كأنما بإمكان المرء حين يتخيل بأنه تناول  لقمة من أفريقيا أن يكون على مسافة  خطوة واحدة من ذلك. فالفشل بحسب هذه العقيدة المتعجرفة الحمقاء هو الافتقار إلى إرادة القوة. أما مثاليتها التي لا ترحم فتنزع الطابع الإنساني عن الإنسانية التي تتظاهر بها. وهناك مواطنون  أميركيون يرون أن عبارة "لا أستطيع" هي شريرة مثل كلمة "شيوعي". فأميركا أمة وقعت في قبضة مذهب إرادي مسعور، يرى الحدود دوماً آفاقاً، ويعتبر ضعف الرجال والنساء ومحدوديتهم فضيحة معيبة. وقد أُجزِلَ المديح للرئيس الأميركي السابق رونالد ريغن لأنه جعل مواطنيه يشعرون أنهم جيدون. وكانت هذه إحدى أخفّ جرائمه.

يُعتبر التشاؤم في وضع كهذا معادلاً للخيانة. ليس هناك كوارث مأساوية بالنسبة للأميركيين، وإنما دروس ينبغي تعلّمها فحسب. وحين تفتقر إلى المعلومات فأنت في "منحني تعلم هابط".ولكن هذه الأمة التي ترفض فكرة المأساة هي مواجهة بها هذه الأيام بقوة. ولهذا السبب فإن الولايات المتحدة هي آخر أمة على الأرض تدرك لماذا هي عرضة للهجوم اليوم بنحو وثيق بحقيقة أنها هكذا. وقد جربت أوربا الحرية اللانهائية مرة عبر أسطورة فاوست. وفيما يتعلق بالهجوم الإرهابي، فإن أولئك الذين يعتقدون بأنه ليس ثمة حدود تقف في وجههم يُواجهون بعنف بضعفهم على مواجهته. يصرخ لير: "لقد قالوا لي إنني كل شيء، إنها كذبة. أنا لست برهاناً قوياً على ذلك ". ويواجه مبتكرو فنتازيا القدرة الكلية حقيقة تناهي الجسد بأكثر الطرق قسوة: أي بتجريدهم من هذه الفنتازيا. ذلك أن الإرهابي، مثله مثل السامي، يُضعفنا ويهلكنا ونحن في ذروة سيطرتنا.

لا تهدف الاشتراكية، بالمقابل، إلى القضاء على الجسد وإنما إلى إعادتنا إلى إنسانيتنا. هذا ما يكمن في جوهر عدائها للوضع القائم وليس البحث عن طرق بديلة لغزو النجوم. وفي الحقيقة، ليس من المفاجئ أن بعض أولئك الذين كانوا يحتفون البارحة بموت الاشتراكية سيشعرون في الوقت المناسب بحنين عميق إليها، ولكن ليس مطلقاً أولئك الذين جعلوا مكاتبهم بعيدة جداً عن الأرض. يمكن أن يتمنى الاشتراكيون أن يشهدوا انحسار الرأسمالية، لكنهم لا يمتلكون خططاً كي يحققوا ذلك بقنابل نووية قذرة. فأسلحتهم هي نقابات العمال وليس التيفوئيد. وهم يريدون أن يجردوا الطبقات المالكة من الملكية وليس أن يبيدوها. ورغم اختفاء طبقة البروليتاريا الذي أجزل له الثناء، لم يتلاش بؤساء الأرض، بل غيّروا العنوان فحسب. فهم موجودون الآن في أحياء الرباط الفقيرة بدلاً من مصانع القطن في روشديل؛ و ليست هذه بشائر طيبة لأوصياء الوضع القائم اليوم، مهما هنـأوا أنفسهم بغباء، بأنهم دفنوا الاشتراكية.

ينبغي، إذاً، على أولئك الذين يتباهون اليوم أن بروليتاريا ماركس غرقت دون أن تترك أثراً أن يتناولوا أقراص دواء الإشعاع بدلاً من الشمبانيا. ذلك أن الاشتراكيين رفضوا دوماً تكتيك الإرهاب، رغم أن البعض في اليسار السياسي ما زالوا يترددون في شجب الثيوقراطيات الإسلامية الجديرة بالازدراء. والواقع أن غياب المقاومة السياسية المنظمة للنظام القائم، تلك المقاومة التي كان الاشتراكيون مدمنين عليها تقليدياً، هو الذي يشجعه على الدوس على الضعفاء، محفزاً بذلك نموّ الإرهاب. بهذه الصورة فإن الاشتراكية هي بلسم الإرهاب، وليست الوجه الآخر له. فالذين أعلنوا بنوع من الاستسلام نهاية التاريخ، أو كانوا على الأقل يعتقدون ذلك قبل تدمير مركز التجارة العالمي، كانوا يهدفون إلى إعلان الانتصار النهائي للرأسمالية، ولكن نزعة الظفر الحمقاء هذه هي التي حرّضتْ  الجماهير في العالم الإسلامي على التمرد، مطلقة بداية مرحلة تاريخية جديدة تماماً. فقد نجح إغلاق التاريخ  في فتحه مرة أخرى فحسب. (كان من الممكن أن يصح ذلك لو جرى الحديث عن الفكرة التي احتفى بها هيجل حول اكتمال التاريخ والتي أنجبت سلالة فلسفية ــ كان أبرز فلاسفتها  كيركيغارد، ماركس، نيتشه، أدورنو، الخ ــ ولكن بحجج مختلفة). ذلك لأن تمرد الجماهير، المزوّد بالأسلحة الملائمة، يمكن أن يخلق في المخيلات الأكثر سوداوية أن  التاريخ قد انتهى بمعنى مجازي لا يريح كثيراً.

لدى معظم الأمم، عدا الولايات المتحدة البانغلوسية(Panglossian (4فإن أوهام القدرة الكلية لا تحيا طويلاً. فحينما اصطدمت حضارة الطبقة الوسطى بالمقاومة والتناقض، كما حدث في مجرى القرنين التاسع عشر والعشرين، انخفضت حيويتها. وبدأت بتغيير فكرة الإرادة إلى فكرة الرغبة. فالرغبة هي الإرادة المتحررة من الوهم. إنها إرادة مجوفة من الداخل، بعد أن تسلل إليها خللٌ مهلك أو فيروس، يظهر على شكل نقص داخلي  يجعل الأفعال المختارة بحرية تنهار وتخفق و تفقد نجاعتها. لقد تجلى هذا لدى اليونانيين على صورة نقص مأساوي، كنوع من الفساد الداخلي أطلقوا عليه اسم الاختلال hamartia . والواقع أن هذه الرؤية للرغبة كمرض للإرادة أو كمرض للحرية لم يظهر مع الحداثة المتأخرة. من الصعب جداً  في الحقيقة العثور حالياً على فكرة جديدة من أي نوع. فمسرح جان راسين، على سبيل المثال، يرى أن الرغبة كارثة مخيفة، عدوى خبيثة نُصاب بها كما نُصاب بالكوليرا أو التيفوئيد. أما في حداثتنا المتأخرة، فلم يكن من قبيل المصادفة ظُهور علم للرغبة مطور بنحو كامل، يُدعى علم النفس.

تأثر فرويد في هذا المنحى بآرثر شوبنهاور، الذي كان على الأرجح أكثر الفلاسفة كآبة على وجه الأرض. ففي كتابات شوبنهاور السوداوية، نستشفُّ مفهوماً أكثر كلاسيكية عن الإرادة عبر انتقالها إلى فكرة الرغبة، كنوع من الفراغ السامي، الذي ليست نواياه باعثة على الاطمئنان، ويلمّح  إلى نفسه في كتابه عن جوهر النفس قائلاً: "ينشأ فعل الإرادة من الفقد، من النقص، وبالتالي من المعاناة".4  وتحتل الإرادة الحاقدة داخلنا كشوق وتوق أبديين، كطائر جارح يبحث عن جيفة كي يقتات عليها؛ لكنها لا تكترث قط بسعادتنا على غرار القوة التي تثير الأمواج. فهذا الشيء المجهول البغيض في جوهر النفس، والذي نستطيع أن نحس به داخلنا بنحو مباشر جداً مثل عطر وردة أو مذاق ثمرة أناناس، هو  غريب عنا كل الغربة وهو يستخدمنا من أجل غاياته التي لا قرار لها. فنحن نحمل في داخلنا ثقلاً  باهظاً من اللامعنى، و في أعماق ذاتيتنا، كما لو كنا حبالى بالوحوش بنحو أبدي. والواقع أن شوبنهاور هو بالتأكيد أحد مصادر رواية الخيال العلمي.

هذا الهوى الجامح الذي لا أفق له لا يملك هدفاً مزعوماً للعظمة، ولا غائية نبيلة، وهو عاشق لنفسه سراً على غرار الرغبة الفرويدية. يعيش دوماً متعلقاً بها، وحركته اللانهائية، على غرار فاوست، لا تهدأ أبداً من أجل التحقيق الأبدي لما يتوق إليه. إنه نوع من اللامتناهي السلبي، سموٌّ غدا منحرفاً، جرحٌ لا يندمل حُفر عميقاً في نسيج  وجودنا. لا نستطيع الشفاء منه، لأنه، شئنا أم  لم نشأ يغذي قوتنا. فالرغبة، مثل اللغة، إنما هي هوة  سقطنا فيها لحظة الولادة، ولا أمل بالنجاة منها. وأي تاريخ يمكن أن يخلّصنا منها سيكون أحد منتجاتها المريضة فحسب. والواقع أننا لا نستطيع أن نريد شيئاً دون أن نريده نقياً وبسيطاً.ولكن ليس هذا سبباً كافياً لأن نتوقف تماماً عن أن نريد.كما يقول كيركيغارد في كتابه المرض حتى الموت: إنه لأمر عظيم أن يتخلى المرء عن رغبته، ولكن الأعظم من ذلك هو أن يحتفظ بها في داخله بعد أن يتخلى عنها. من الحكمة إذن الإقرار بأن الرغبة تولّد المرض والفنتازيا، ولكن من الحكمة أكثر أن نعترف بأنها، بسبب كل ذلك، ما يجعلنا ما نحن عليه.

يبدو أن أروع تشريح حديث للإرادة المميتة هو رواية دي إتش لورنسنساءعاشقات، والتي تؤكد بذكاء فائق للعادة بأن مذهب الإرادة ومذهب العدمية هما وجهان لعملة واحدة. يرمز جيرالد كريتش، مالك المنجم في الرواية، لما يسميه الراوي "علم الأخلاق العملي للإنتاجية"، بوصفه رب عمل صارماً ومحدِّثاً رأسمالياً عملياً. ولكن هذا النوع المألوف من التفوق الذكري الساحق ليس هو ما يجعله مهيمناً هكذا. وتتجلى البراعة الأعظم للرواية في إدراكها أن إرادة كريتش الفولاذية لا يمكن فصلها عن نوع من الانحطاط. فلأن هذه الإرادة هي نوع من حياة الموت، لأنها هشيم الحياة ومؤلفة من الهيمنة والدمار، فقد غدا جيرالد صورة للميت الحي، صورة ظلية ساخرة رهيبة لشخص حقيقي. و كلما استخدم قوته المهيبة، كلما تداعى من الداخل. وفيما تتصلّب أناه، تتفكك حياته الحسيّة، إلى حد أنه يتحوّل إلى قوقعة صلبة، تحوي خليطاً زنخاً من العواطف. وليس سوى التوتر الميكانيكي لإرادته يمنعه من السقوط في فراغ نفسه.

ليس من المفاجئ، إذاً، أن نرى رجل الصناعة هذا المنضبط ذاتياً بنحو غريب، يخرج مع مدمني ملذات من الطبقة العليا، ومع بوهيميين فاسقين عاجزين عن التمييز بين كتلة من الفحم والقرنبيط. وبما أن بحثهم عن المتع الشاذّة مسألة مزاجية صرفة فهي تنسجم تماماً مع تجريدية إرادتهم المهلكة. إن مثال هرميون روديس Hermione Roddice الإرادي عن الغرائبي مثال موضح. فحين نعامل أجساد الآخرين كأدوات من أجل الربح أو المتعة الشخصية، أو حين ننغمس في المتع الحسية من أجل اجتناء المتعة فحسب فإن كليهما يؤديان إلى النتيجة نفسها، ما دام أن هذه الممارسات  لا تنظر إلى الحياة كقيمة في ذاتها. فبما أن الإرادة التجريدية منفصلة عن الجسد، فهي تعامله كأداة فحسب، ولا تعود قادرة على أن تمنحه أهمية من الداخل. وعلى غرار هذه الإرادة المفترسة، فإن مذهب المتعة هو في الحقيقة شكل من أشكال العدمية، يعربد في غياب أية قيمة للوجود الجسدي. وحين تكف الحياة الحسية عن أن تكون هادفة فإنها تغدو موضوعياً على الأرجح صنماً يُعبد، أو سلعة تُستهلك.وهكذا فإن مذهب المتعة هو نوع سري من الشكوكية بسبب مطاردته لكل ما هو جديد.فالقوة كغاية في حد ذاتها، والإحساس بالمتعة كغاية في حد ذاته، ينتميان إلى ميدان واحد، مثلما تؤكد رواية نساء عاشقات.فالأول شكل صرف، والثاني مضمون صرف. فالإرادة المبهجة للنفس، التي هي عاشقة لنفسها في السر، تجد صدى لها  في الإشباع الإيروتيكي أو "المتعة الفاسدة" لما يُسمى بالانحطاط.

يشعر جيرالد برعشة الأورجازم في الآلية الوحشية لمناجمه.وأكثر ما يروق له هو النظام اللاشخصي الذي تمثله هذه الآلية، والذي هو "صارم ومريع وغير إنساني ولكنه مترع بالنزعة التدميرية". (الفصل17). فهو على هذا النحو نوع من فنان طليعي، يغتبط من الرتابة القاحلة واللاإنسانية لأفعاله. وفي نوبة من الحنين إلى حمأة الفحش، تستمد عاشقته جودرون برانجون إثارة "جنسية" مشابهة من البعد الآلي اللاشخصي لمناجم الفحم الحجري. وهذا الاستمتاع الآلي بما هو لاشخصي عرض من أعراض دافع الموت، الذي يستمتع بنحو فاحش بما يشوّه الإنسان ويجرّده من الإنسانية. وليس من قبيل المصادفة أننا نقترب هنا، إذا تحدثنا تاريخياً، من حافة الفاشية. فالفاشية عقيدة تجمع بين الإرادة الظافرة والافتتان البورنوغرافي بالأجساد، الأجساد التي تبدو في نظرها ليس أكثر من قمامة.وعلى غرار زمرة كريتش في نساء عاشقات، فإن الفاشية مفتونة بالنظام ومبتهجة إلى أقصى حد بالفوضى في آن. فالفنان الألماني لويرك، الذي يصبح عاشقاً لجودرون بعد جيرالد، هو إنسان ريّاب وحسّي وعابد للآلة في آن واحد. ولضمان رؤيته بمنظار سلبي بنحو كاف فقد جعله المؤلف يهودياً وشاذاً جنسياً.

تُعتبر روايةنساء عاشقات، ربما الرواية الطليعية الأكثر فلسفية في الحداثة الأدبية الإنكليزية، فهي رواية ما بعد إنسانوية، ترى بأن الحضارة الليبرالية والمسيحية والإنسانوية موشكة على انهيار هائل. ففي احتقاره النيتشوي للشفقة والمعاملة الأبوية، وفي عبادته للموضوعية، واحتقاره للتعاطف، وتفضيله للقوة على الحب، يحدد بطل الرواية جيرالد نهاية الإنسان. ولا تحيد الرواية عن هذه الرؤية ما بعد الإنسانوية؛ فهي ترى جيرالد على أنه يمثّل النسخة المغلوطة لتلك الرؤيا. أما النسخة الصحيحة فتتجسد في صديقه ربرت بركن، رغم أن بركن الذي يحتقر الحب، والأخلاق الإنسانوية، والمسؤولية الاجتماعية مثله مثل جيرالد، يبدو للوهلة الأولى  حليف جيرالد أكثر مما هو خصمه. وإذا كان جيرالد معطلاً عاطفياً بحيث يعجز عن ممارسة الحب الجنسي بنجاح، فإن بركن يرفضه بوعي، متطلعاً مع عشيقته أرسولا برانجوين إلى علاقة تتجاوز العلاقات. إن جوعه إلى اللاشخصي ومقته المرضي للعاطفة قريبان من حالة جيرالد. وينبغي التنويه بأننا لا نميل إلى استخدام اسمه الأول.

يبدو وجود جيرالد نوعاً من الحياة في الموت، وهو يواجه نهايته بتباه رمزي متجمداً حتى الموت في الثلج. بدوره، وفي حين أن بركن لا يستطيع أن يأمل بنهاية لحياته أروع من الموت نفسه،الشكل المطلق للاشخصي فإن جيرالد ذو روح أرستقراطية يحتقر العامة، ويرى أن البشرية ستخطو خطوة عظيمة في طريق التقدم البشري لو مُحي معظم البشر من الوجود. وتبدو ما بعد إنسانوية كل من الشخصيتين، باختصار، ذات طابع نظري عديم المعنى. فالكائنات البشرية في نظر بركن ليست سوى تلوّث وقذارة، وتظهر الرواية أن نفوره منهم هو نوع من المرض.

يبدو أن هناك هامشاً ضيقاً للاختيار بين الشخصيتين أيهما أشدّ بعثاً على النفور. ولكن الجرأة المدهشة للرواية تكمن بالضبط في هذه القرابة بينهما، حين تكشف بأن الشكل الأكثر أصالة لسلبية بركن قريب إلى حد يثير الغثيان من خواء جيرالد. فبركن بطريقة ما يحب الموت بقدر ما يحبه جيرالد. والواقع أن هذه رواية تتمحور حول دافع الموت، يمتلك فيها كل من البطلين ميلاً واضحاً إلى اشتهاء الموت. والفرق بينهما على أي حال هو أن حياة جيرالد هي بنحو مسبق نوع من الموت، بينما يرى بركن الموت مقدمة ضرورية لوجود متجدد. فهو منتش أيضاً من تحلل الحواس ومن التفكك المطرد للعالم الإنساني. ولم يكن هذا بالنسبة له غاية في حد ذاته، بل ممراً جوهرياً إلى التجدد الشخصي والاجتماعي. فالموت جدار فاصل بالنسبة لجيرالد ولكنه عتبة بالنسبة لبركن. وما ينشده بركن ليس ما هو غير إنساني بل ما هو متجاوز للإنساني: مستقبل يتجاوز الموت الحي للحاضر الذي يظل في هذا الوقت غير قابل للتجسيد على نحو سام. فأن نمنح النظام القائم اسماً يعني أن نربطه بالحاضر الفاسد وأن نلغي جدّته المُطلقة. تقول له أرسولا بأنك حتى لو صارعت الشكل القديم للحياة ستكون متواطئاً معه.فأنت لا تستطيع أن تبني حقاً نظاماً جديداً، لأن بناء نظام جديد يتضمن الإرادة الجديرة بالازدراء. ويظهر المستقبل، عندئذ، كنوع من السلب. يظهر كصفر أو كصمت داخل كلام بركن المقتضب. ولكن هذا الشكل من العدم أقل إثارة للنفور من إرادة القوة لدى جيرالد، التي تمثل بهيمنتها الوحشية غريزة الموت محوّلةً إلى الخارج.

رغم أن وجود جيرالد أشبه بوجود شخص آلي فهو لا يطيق فكرة الموت. لأن بالنسبة لأولئك الذين يحيون بالإرادة وحدها، الموت نفي لتملك الذات ولهذا فهو إهانة لا تُحتمل. وبينما يستطيع المحرومون أن يموتوا بإحساس أقل بالأسف، بما أنهم لا يملكون سوى القليل كي يخسروه؛ فإن الذين يرتبطون بالحياة من خلال القوة والملكية يتصورون الموت مستحيلاً تقريباً. أما بركن، بالمقابل، فهو يرحّب بالموت، والذي يعني مجازياً محو الذات الجذري. فهو لا يؤمن أن بالإمكان إصلاح النفس أو المجتمع: ولكنه يؤمن بدلاً من ذلك، وبنوع من المتعة بأن من الضروري جعل كل شيء يضمحل: "امحقه كلياً، تخلّ عن استثماراتك الدنيوية إضافة إلى هويتك". وعبر هذا التحوّل الجذري فحسب يمكن أن تظهر حياة جديدة ما بعد إنسانوية تتقدم بحذر على حافة الهاوية. يقول بركن: "عليك أن تتعلم ألا تكون قبل أن تأتي إلى الوجود" (الفصل 3). وهذا ينطوي على ما يسميه هو نوعاً من "الخلق التدميري". وإذا كان جيرالد يمثل الحياة في عبودية الموت، فإن بركن يأمل أن يطوّع الموت لخدمة الأحياء.وهكذا فإن الذين يبدون أحياء لكنهم موتى في الحياة يقابلهم أولئك الذين يدعون إلى الموت كوسيلة للحياة على نحو أكثر امتلاء.

وهكذا فإن هناك نوعاً جيداً من العدم وآخر سيئاً. وليس هذا في النهاية خياراً بين الوجود واللاوجود، كما عبر عن ذلك النموذج الأفضل في الأدب الإنكليزي، ولكنه خيار بين نوع واحد من اللاوجود وبين نوع آخر. هناك نمط الوجود السلبي الذي يجسده بركن، وهناك نمط اللاوجود الذي يجسده جيرالد: أي نمط أولئك الذين يظهرون أحياء بنحو دينامي ولكنهم في الحقيقة عدميو الروح. فهم يستطيعون فرض إرادتهم على العالم لأنهم يرونه مجرداً من القيمة. وهكذا يلتقي مذهب الإرادة ومذهب العدمية في صورة جيرالد كريتش. فكلما طوّع العالم لإرادته كلما أفرغه من مضمونه، وضعفت بالتالي قدرته على الدخول في حوار معه.  وهذا يعني بأنه ينتهي إلى اللاشيء كي يؤكد وجوده. فلا يمكن أن يوجد حاكم قوي دون سكان مذعنين.وهكذا فإن القوة المطلقة هي إلغاء للذات: ففي ذروة هيمنتها تصبح عاجزة. حيث ينعدم أي وجود في جوهرها يمكن أن يستخدمه خصومها للحط منها. وهذا ما يحدث لعطيل، الذي يغرس فيه إياجو نوعاً مقيتاً من العدم (شبهات لا أسس لها حول الخيانة الجنسية) يقضي عليه في النهاية. واليوم، فإن الإرهاب الإسلامي يرمي إلى تقويض الخصم الغربي من خلال التواطؤ مع دافع تدمير الذات داخل هذا الخصم. وهو يستطيع الاعتماد على مساعدة طابور خامس: ألا وهو الإرادة المتجاوزة للحدود في هذا الغرب. فكلما لوّثت الحضارة الغربية الكوكب ونشرت البؤس واللامساواة على نطاق عالمي، كلما قدمت المصداقية لمعارضيها.

إن جيرالد وبركن هما على الأقل أخوان في الدم بقدر ما هما بديلان إيديولوجيان. وهذا يفسر صراعهما العلني والمضحك بنحو رصين على سجادة المنزل. يمكن أن يكون بركن مستعداً لترك العالم يمضي، ولكن زوال هذا العالم سيكون أمراً جيداً: إذ ليس هناك تضحية كبيرة في إنكار إنسانية يشعر المرء إزاءها باحتقار وبغض شديدين. إن رغبته باللاشخصي والمجهول هي طريقة خيالية لإبقاء أرسولا في مدى ذراعه، وعقلنة  أيضاً لكراهيته للنساء بعامة. ليس من السهل أن نميز بين استعداده لإلغاء ذاته وبين قرفه من ذاته. تصفه أرسولا بالنتن والمنحرف وملتهم الموت. وحين تكون حبيبته هي التي تقول ذلك يتساءل المرء ما الذي يمكن لأعدائه أن يقولوه عنه. ليس صحيحاً أيضاً أن الموت بالنسبة له هو ببساطة تحول جوهري: بل على العكس، فإن توقه إلى عالم جديد يخالطه ابتهاج سادي بتحطم القديم.

وهكذا فإن هناك فرقاً واضحاً بين حب مرضي للموت من أجل الموت، وبين عناق للتضحية بالذات كوسيلة لحياة جديدة. لأن غريزة الموت خادم لا يُوثق به ولا يمكن تسخيره بسهولة من أجل أهداف استراتيجية. أما المفجرون الانتحاريون فيعتبرون موتهم استراتيجياً: ليس هناك سبب لافتراض أنهم في كل مكان في قبضة حب مهلك. ولكن الاستراتيجي هنا لا يمكن فصله بوضوح عن الرمزي، الذي يمكن أن يُكتشف كملحق في داخله. وقد حذّر بيان حديث للقاعدة بأنكم "إذا لم توقفوا مظالمكم، فإن المزيد من الدم سيُسفك"، وأضاف:" أنتم تحبون الحياة، ونحن نحب الموت". يزاوج البيان بين غريزة الموت وبرنامج سياسي. فالإرهاب يوظف الصدمة والرعب من أجل غايات سياسية، رابطاً بين التعبيري والأدائي. فهو يمزج بين اللاهادف والهادف على غرار العمل الفني كما يراه كنْت. والتشدد الصرف هو الذي ينبهنا إلى دافع الموت "كملحق" في داخله. ويصح الأمر نفسه على إرهاب الدولة الذي يرى أن القوة هي وظيفة وغاية في آن. وما ندعوه بغرور القوة إنما هو حساسيتها وشعورها بأهميتها الذاتية، وخيلاؤها ونرجسيتها، وغضبها من كونها قد أسيئ إليها أو بأنها أُذلَّتْ حتى حين لا يعيق هذا أي هدف مهم لها. والواقع أن معظم الذين يملكون قوة جوهرية يشعرون على هذا النحو لأنهم يبتهجون بذلك تحديداً، وليس لتحقيق غايات يعتبرونها ذات شأن. ولأن القوة مقيدة بالهوية فمن المرجح دوماً أن تتجاوز غاياتها المحددة. فالقوة الأدائية الصرفة غير موجودة.

ينبغي أن يكون الشهداء الحقيقيون حريصين على ألا يصنعوا وثناً من موتهم؛ ولكن ينبغي أيضاً أن يكونوا حذرين من التعامل مع الموت كوسيلة لتحقيق غاية، وإلا فإنهم يسقطون بنحو أبله في العقلانية الأدائية نفسها التي يرمي فعلهم إلى التشكيك بها. وإذا نظرنا إلى موت إنسان بنحو استراتيجي فلن نكون بعيدين عن محاولة التلاعب بالمستقبل، لأن هذا يساعد منطقياً في منع ذلك المستقبل من الظهور. فلا الشهيدة ولا الانتحارية تستطيع تحديد عواقب أفعالها، بما أنها لن تكون موجودة كي تحددها.أما إذا نظرنا إلى الموت بنحو غير استراتيجي، بالمقابل، فإننا نجازف بالوقوع في حبه بنحو مرضي. وهذا ما يجعل موت المرء فعلاً مجانياً غرائبياً. من المضني التفكير بعواقب أفعال المرء، ومن نقص الحكمة  عدم التفكير بذلك. 

[المصدر كتاب "Holy Terror" لتيري ايجلتون. ترجمه إلى العربية أسامة أسبر ]


Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

Trending Articles