قامت منظمة "نساء ضد الحرب" الأميركية بتنظيم ندوة في مدينة شيكاغو في 23 نيسان\إبريل (2014)، دُعي إليها رئيس تحرير "جدلية"، ورئيس قسم دراسات الشرق الاوسط في جامعة جورج ميسون بفرجينيا، الباحث والمفكر بسام حداد، والباحثة وطالبة الدكتوراه في جامعة نورث ويسترن (شيكاغو) رنا خوري. ونُظِّمت الندوة تحت عنوان رفض عسكرة الصراع والتدخل العسكري الأميركي في سوريا. ذلك أن منظمة "نساء ضد الحرب" ترى أن أي تدخّل عسكري أميركي في سوريا لن يساعد السوريين أو شعوب الشرق الأوسط. فالعسكرة المستمرة للصراع، والاستخدام المتواصل للعنف ضد النساء والأطفال لن يقودا إلا إلى مزيد من القتل والدمار كما حدث في العراق، وفي جميع البلدان التي تدخلت فيها أميركا عسكرياً. ودعت المنظمة إلى وقف فوريّ لإطلاق النار، وإلى حلّ سياسي للصراع يحترم الحقوق الإنسانية والديمقراطية للشعب السوري، ويتضمن المشاركة الحقيقية للنساء السوريات، موجّهة نداء إلى المجتمع الدولي كي يعمل الآن ويستجيب إلى الاحتياجات الإنسانية الملحّة للشعب السوري.
في بداية زيارته إلى شيكاغو ألقى البروفسور حداد محاضرة في جامعة إلينوي في 22 نيسان\إبريل (2014) بعنوان "الثورة السورية بعد ثلاث سنوات: النظام، المعارضة والأجانب"، تحدث فيها عن الوضع الحالي في سوريا، وكيف أن الانتفاضة انحرفت عن مسارها وتحوّلت إلى صراع داخليّ تغذّيه أطراف عالمية وإقليمية له أهداف كثيرة من بينها تصفية الحسابات والقضاء على كلّ ما يشكّل خطراً على إسرائيل.
تناول النقاش موضوع الأقليات في سوريا، والخطر الذي يتهددها، إذ رأى حداد أن الموقف من الانتفاضة في سوريا أحدث انقساماً لدى الجميع بدءاً من العائلة والأصدقاء، وصار التنابذ لا الحوار هو المهيمن، وتبيّن أن إحدى مشكلاتنا الخطيرة هي رفض الآخر المختلف، وعدم القبول بمبدأ التعايش مع من يخالفني الرأي. وهذا ينعكس في بنية المعارضة نفسها حيث يسود التمزق والتشرذم وتهيمن الأجندات المختلفة. أما فيما يتعلق بالموقف من الانتفاضة السورية التي حرفتْها العسكرة عن مساراتها، فقد قال حداد إن عدم الوقوف مع المعارضة لا يعني الوقوف مع النظام وإنما الخوف من المستقبل المعتم الذي تتطور إليه الأمور، والبحث عن شيء ما أفضل بما فيه معارضة أكثر فاعلية ومبدئية، وكذلك الخوف ومن احتمال الانتقام والإبادة الطائفية. ويرى حداد أن الطائفة العلوية هي المهددة في الصراع الدائر في سوريا، ووقوفها مع النظام لا يعني إيماناً به بقدر ما يعني أن خطابات المعارضة غير مطمئنة للأقليات في سوريا وخاصة بعد هيمنة عقلية القاعدة عليها، ولكن يجب ألا نغفل أن النظام تمكّن من اختطاف الطائفة العلوية وتوظيفها لخدمة مآربه في الاستمرار في السلطة بصرف النظر عن دعمها وعدم دعمها له.
أُلقيتْ المحاضرة الثانية في مطعم "قصر الحمراء"، الذي استضاف الندوة الخاصة بجمع التبرعات للاجئين السوريين، والتي رعتْها منظمات مدنية أميركية من قوى اليسار والدفاع عن حقوق السود والسلام منها "لجنة خدمات الأصدقاء الأميركيين"، و"مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية في شيكاغو"، و"منظمة سياسة خارجية عادلة"، و"مبادرة العدالة الاجتماعية في جامعة إلينوي"، و"منظمة طلاب من أجل العدالة في جامعة إلينوي"، و"مركز اليوم الثامن للعدالة"، و"متطوعون عراقيون ضد الحرب"، وغيرها. وكان الهدف من الندوة التي أدارتْها الناشطة الأميركية المعروفة برناردين دورن والباحثة النسوية نادين نيبر هو نقد التدخل الخارجي الأجنبي والتعويل عليه في الوصول إلى حلّ في سوريا. وقد ألقت الباحثة وطالبة الدكتوراه في جامعة نورث ويسترن رنا خوري محاضرة انتقدت فيها التدخل الأجنبي قائلة إن الرئيس الأميركي باراك أوباما يتبع سياسة عسكرية قائمة على عدم التدخل المباشر وأن أميركا والغرب عموماً لا يريدون تدخلاً عسكرياً مباشراً في سوريا.
طرح البروفسور حداد وجهة نظر مضادة للخطابات السائدة، وخاصة خطاب المعارضة والأصوات الثقافية والسياسية المؤيدة لها في المحافل الدولية، واعتبر أن النظام يتحمل المسؤولية الرئيسية في ما آلت إليه الأمور في سوريا لرفضه للإصلاح ولجوئه إلى القمع العسكري للقضاء على الانتفاضة. وأشار حداد إلى سطحية الأصوات التي تُعَبِّئ من أجل تدخل خارجيّ في سوريا، معتقدة أن الولايات المتحدة تملك نزعة خيرية إنسانية، وأنها بتدخلها ستنقل سوريا إلى واحة الديمقراطية، موضحاً أن هذا الخطاب يهدف، على المستوى العميق، إلى الإطاحة بالسلطة من أجل استلامها، وبالتالي فإن هذا الفعل يضحي بالمضمون المدني للانتفاضة السورية، وبأحلام مفجريها، ويختزلها إلى مجرد فخ، فخ الإطاحة بالسلطة الذي يتوهمه هؤلاء، فيما يقوم الغرب وبعض الدول الإقليمية بتصفية حساباتهم مع سوريا، والهدف من ذلك كله تدمير البلد عبر حجزه في حالة من التوازن بين الأطراف المتحاربة، حيث تصبح الحرب كرّاً وفرّاً ولا تُحسم في أية منطقة إلى أن يُقتل من السوريين المزيد ويُهْدم من بيوتهم ما لم يُهدم بعد، وإلى أن يُقْضى على قوة الجيش السوري في حرب داخلية انتحارية فيما جنرالات تل أبيب يتبادلون الأنخاب في مجالسهم منتشين من العنف المتصاعد الذي يحرق الأخضر واليابس في سوريا.
لا يمكن النظر إلى مقاربة حداد على نحو سطحي بحيث يمكن تصنيفها في هذا الجانب أو ذاك، كما لا يمكن أن تُفسَّر على أي مستوى بأنها مهادنة للنظام أو مجاملة للمعارضة. إنها مقاربة نقدية تفكيكية قائمة على إطلاع عميق، وعلى مفهوم للتغيير أكثر إيماناً بالمستقبل المشرق لسوريا، إنها تتبنى ما يمكن أن نسميه، معتمدين على المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، "النقد المزدوج"، نقد النظام ونقد المعارضة، من أجل هدف كشف الحقائق والخلفيات وجوهر الخطابات للتوصل إلى فهم أكثر دقة لطبيعة الصراع في سوريا وعليها. وهي مقاربة تبتعد عن النظرة الإلغائية، التي تعكس عقلية مذهبية إيديولوجية قائمة على الإقصاء لا ترى إلا ما تريده، وتنظر إلى الظواهر كما لو أنها كتلة صمّاء أحاديّة لا مجال للاختلافات والمستويات المتعددة فيها. إذ يرى حداد أنّ المعارضة المفتتة والمتطرفة والنظام المتوحش كلاهما يوغل في أخطائه، فيما الحلّ الأنسب لسوريا، في هذا المنظور، هو معارضة مستقلة مدنية وموحّدة تمتلك رؤية تعددية ديمقراطية يشارك في صياغتها جميع السوريين، أما النظام فإنه ينتعش ويزداد قوة على الأرض نظراً لتفتت المعارضة، وراديكالية خطابها وصعود الإسلام القاعدي المتطرف في أوساطها وهيمنته عليها والصراع بين أجنحتها، والأنكى من هذا كلّه أن هذه المعارضة لا يهمّها سوى أن تقوم بالمزيد من القتال واضعة نصب أعينها هدف إسقاط النظام حتى لو كانت النتيجة تدمير سوريا. وأضاف حداد أن الأمر نفسه ينطبق على النظام الذي يبدو كأنه راغب في البقاء في السلطة ولو كان الثمن تدمير سوريا كلها على رؤوس سكانها. وانتقد حداد أيضاً التدخل على طريقة الناتو على أرضيات سياسية وتاريخية.
وفيما تحدثت رنا خوري عن الفصائل المختلفة المنضوية تحت اسم المعارضة وانخراط العنصر الأجنبي الذي سيطيل من أمد الحرب قال حداد إن الحديث عن نصر طرف من الأطراف في سوريا لا معنى له، ذلك أن مفهوم النصر لم يعد يحمل دلالات مهمة على صعيد ما يجري في سوريا، وسبب ذلك هو أن المعارضة جعلت من أولوياتها الأساسية إسقاط النظام وليس التوحّد والاستقلالية فيما أن إصرارها على طلب التدخل العسكري الخارجي يعكس قصوراً في الرؤية السياسية. ذلك أن الغرب يهدف إلى إطالة أمد الصراع وإلى إنهاء أية ذرة مقاومة ضد إسرائيل وهذا في حد ذاته كاف للتنبيه بأن لا طريق سوى الحل السياسي وإستعادة الزخم المدني للانتفاضة وبناء معارضة ديمقراطية مدنية تعترف بالآخر وتسلّم بحقوق الجميع دون شروط، وذلك في إطار من الجدل والتشاور الخلاق.
أما التعويل على تدخل عسكري خارجي، كالذي تعمل من أجله أطراف في المعارضة باستماتة، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من القتل والدمار كما قال حداد مضيفاً أن الشرق الأوسط سيكون في وضع أفضل دون تدخل أميركي، ذلك أن ما حدث في العراق وأفغانستان خير مثال على ذلك.
اختتم حداد زيارته لشيكاغو بمحاضرة ولقاء مع طلاب العلوم السياسية في جامعة شيكاغو حيث تحدث عن كتابه الصادر عن جامعة ستانفورد بعنوان "شبكات الأعمال في سوريا" (2012)، وأجاب على أسئلة الطلاب حوله قائلاً إن الشبكات الاقتصادية اللارسمية في سوريا، المؤلفة من مسؤولي الدولة ورجال الأعمال الكبار، خطفت عملية التحرير الاقتصادي في الثمانينيات والتسعينيات، وانطلقت كي تغني نفسها عبر فوائد الأنشطة الريعية على حساب المستهلك السوري العادي، وعلى حساب صحة الاقتصاد والإمكانية التنموية متوسطة المدى في سوريا. كان السياق البنيوي الذي حدث فيه هذا مشروطاً بعاملين: أولاً، إرث غياب الثقة الاجتماعي بين النظام وبين جماعة الأعمال (ذلك أن النظام يتألف على نحو كبير من أقليات ريفية فيما جماعة الأعمال سنية مدينية ومحافظة). العامل الثاني هو التدفق المستمر للريع الخارجي من النفط والمساعدات (الريع هو نوع من الدخل غير المستمد من نشاط إنتاجي). ثمة عامل ثالث مميز بغيابه: كان هناك القليل من التأثير في صناعة السياسة الاقتصادية من مؤسسات خارجية ومحلية وقوى اجتماعية مثل المؤسسات المالية العالمية، والمعارضة السياسية، والقضاء المستقل، والإعلام، الذي كانا بوقاً لا يتمتع بأية استقلالية.
أضاف حداد أنّ إرث غياب الثقة منع الدولة من أن تدمج رسمياً جماعة الأعمال، فيما سمح لها دخل الأنشطة الريعية بتعويض فشلها الاقتصادي الذريع وتأجيل الانهيارات. بتعبير آخر، إن نموذج "الاستقلالية الضمنية" لشرق آسيا لم يكن خياراً لأن هذا المنطق الاقتصادي ناقض العقلانية السياسية للنظام. إن الاستقلالية الضمنية شكل من التواطؤ بين الدولة وقطاع الأعمال يقدم الحوافز لجماعة الأعمال بدون تقويض وحدة وتماسك المظاهر العقلانية القانونية للبيروقراطية الاقتصادية للدولة.
أوضح حداد أن كتابه يناقش موضوعات من بينها الركود الاقتصادي الطويل في سوريا الذي اتّسم بنتائج تنموية مكلفة في واحد من أكثر الأنظمة الاستبدادية استمرارية في الشرق الأوسط والعالم النامي. إن "الرابح" في سوريا، وفي كثير من بلدان الشرق الأوسط، هو مجموعة من شبكات الأعمال الخاصة بالدولة الإقصائية التي كانت قادرة على توجيه فوائد التغيير الاقتصادي لصالحها. وكان "الخاسر" هو المستهلك العادي (خاصة العمال في القطاعين العام واللارسمي) وكان الخاسر أيضاَ صحة الاقتصاد الكلية، بما أن مسؤولي الدولة ورفاق قطاع الأعمال التابعين لهم أساءوا تخصيص الموارد وأساءوا في إدارة السياسة عبر إخضاع مظهر من العقلانية السياسية للمنطق السياسي لأمن النظام.
أضاف حداد أن الموضوع الذي يتناوله كتابه جديد وغير مطروق ذلك أن معظم الدراسات في هذا الحقل الفرعي تعتمد على حالات من أميركا اللاتينية وشرق آسيا. إن ما هو أقل تمثيلاً في الأدبيات الاقتصادية السياسية حول البلدان النامية هو البلدان النامية مؤخراً مثل سوريا، التي تمثل ظاهرياً حالات من التواطؤ بين الدولة وقطاع الأعمال يتسم بنتائج مكلفة على المستوى الجماعي.
تحدث حداد عن مكتشفاته البحثية التحليلية قائلاً إن بحثه توصل إلى اكتشافات تجريبية ومفهومية عديدة أهمها أنه تعقيد مفهوم القطاع الخاص، حيث الأرصدة الخاصة المتعددة ممتلكة أو مسيطر عليها، ليس من قبل الدولة (لأن هذا سيكون اشتراكية) بل من قبل مسؤولي الدولة. إن هذه الحقيقة لوحدها تجعل جزءاً جوهرياً من الأدبيات حول الإصلاحات الاقتصادية غير ذات صلة بالموضوع.
إن الاكتشاف التجريبي الآخر هو ميراث انعدام الثقة الذي تواصل وصاغ استراتيجيات كل من النظام وقطاع الأعمال، حتى حين كان الطرفان شريكين. وهو ما يزال مستمراً بسبب نماذج التطويع والترقية التي دعمت التقسيم الاجتماعي بين النظام وقطاع الأعمال. أخيراً إن هذا البحث يبيّن أن التحرير الاقتصادي في سوريا أعاد على نحو جوهري إنتاج الرابحين من ترتيبات سابقة كإستراتيجية للحفاظ على الغلبة من زاوية رأس المال إزاء معارضة محتملة.
أما على الصعيد المنهجي والمفهومي فإن الكتاب يسهم في ثلاثة مجالات للبحث حديثة ومهمة. المجال الأول هو أهمية تحليل الشبكة، وخاصة في ما يتعلق بمسألة الفعل والاستقلالية. وثانياً المعاني الضمنية للثقة من أجل التنمية المؤسساتية والاقتصادية. وثالثاً، إن مزج هذين المجالين يفتح الباب بشكل طبيعي نحو بحث يجمع بين علم الاجتماع الاقتصادي والمؤسساتية المختارة أو التاريخية العقلانية.
واختتم حداد محاضرته قائلاً إن التواطؤ بين جماعات الأعمال والسلطة يمكن أن يقود إلى إجراء أمني بالنسبة لأولئك الذين في السلطة، ولكنّ هذا النوع من التفاعل غالباً ما يحدّ من التنمية الجديدة. ذلك أن هذا التواطؤ بين السلطة وقطاع الأعمال قاد إلى اقتصاد غير مستقر أو منظّم في سوريا وكان هذا التوجه ناجماً عن التدهور في فوائد الأنشطة الريعية وتراجع المساعدات الخارجية مما اضطر النظام إلى البحث عن بدائل ليعزز معادلته الأمنية.