Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

هل يمكن إنقاذ العراق؟

$
0
0

صارع صانعو السياسة والصحفيون والخبراء كي يفهموا احتلال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام للموصل في العاشر من حزيران\يونيو ٢٠١٤، واندفاع المجموعة جنوباً نحو بغداد وانهيار الجيش العراقي أمام تقدمها. إن الطريقة التي فُهمتْ بها هذه الأزمة المتسارعة ستحدد استجابة القادة في العراق، والشرق الأوسط، وفي النظام الدولي. وهي لن تصوغ الرد العسكري الأولي على تنظيم الدولة فحسب، بل أيضاً، وبصورة أكثر أهمية، سياسات على المدى الطويل تهدف إلى معالجة الأسباب الكامنة لنشوء التنظيم واحتلاله لأراض في كلّ من العراق وسوريا.

يتضمّنُ شَرْحٌ شائعٌ (ولو أنه مفاجئ) لنجاح تنظيم الدولة الإسلامية العسكري المدهش، العودةَ إلى اتفاقية   سايكس بيكو، وهي صفقة سرية رتبها الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس ونظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو في أيار\مايو ١٩١٦. وصارت قصة الاتفاقية في أنحاء الشرق الأوسط سرداً يصوّر التأثير الغادر لسلطة الاستعمار البريطاني والفرنسي أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. وتشير “سايكس ـ بيكو” في الخطاب السياسي العربي، إلى  كلٍّ من اجتياح الشرق الأوسط من قِبل بريطانيا أثناء الحرب، والمحاولات السرية لإبقاء السيطرة على الأراضي العربية في أعقاب الصراع عبر تقسيم المنطقة إلى دول منفصلة. وبعد الاستيلاء على الموصل نشر تنظيم الدولة على الفور صوراً لمقاتليه وهم يقومون بإزالة الحدود بين سوريا والعراق. وهدف إعلان التنظيم بأنه “يدمر حدود سايكس ـ بيكو”  إلى حشد الدعم العربي الواسع له زاعماً بأنه يقضي على ظلم تاريخي.(١)

وإذا ما وضعنا في الحسبان السمعة السيئة لاتفاقية سايكس ـ بيكو، لم يكن مفاجئاً أن السياسي الدرزي اللبناني وليد جنبلاط أعلن في حزيران\يونيو نهايتها، وقد ذهب بعيداً وقدّم لحسن نصر الله، زميله وزعيم حزب الله، كتاباً يشرح تفاصيل الصفقة.(٢)لكن ما يخيف هو أن كلاً من الأكاديميين ورجال الدولة الكبار استخدموا أيضاً سرد “سايكس ـ بيكو” في مقارباتهم للأزمة في سوريا والعراق.(٣)إن تصوير الاتفاقية كمحفّز على قرن من من التاريخ الشرق أوسطي لا يصمد تحليلياً أو تجريبياً. ذلك أن هذا يشكّل استقراء من لحظة وجيزة في الزمن، عبر استخدام لقطة لا تمثل الدينامية الاجتماعية ـ السياسية الأوسع التي تكشفت في أنحاء المنطقة أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. إن سوء استخدام التاريخ بهذه الطريقة يمكن أن يقود إلى وصفات سياسية ضعيفة.

كما هو ملخّص في الكتاب الذي قدّمه جنبلاط لنصر الله، توصّل سايكس وجورج ـ بيكو إلى اتفاق سري يسمح للفرنسيين والبريطانيين بتقسيم الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ منفصلة في أعقاب الحرب.(٤)حدث هذا في أوج الطموح الإمبراطوري الأنجلو ـ فرنسي، وتفاؤل الطرفين حيال كيفية انتهاء الصراع. على أي حال، شُكك بالثقة التي ارتكزت إليها الصفقة في ذلك الوقت، وشبّه رئيس الاستخبارات العسكرية البريطانية  مرتبيها بـ “صيادين تقاسموا جلد الدب قبل أن يقتلوه”.(٥)

حاصرت أحداث على الأرض وداخل النظام الدولي الفرضيات التي استندت إليها الاتفاقية بسرعة. فقد غيرت الحكومة البريطانية جذرياً سياستها إزاء الشرق الأوسط مرتين، أولاً في ١٩١٧ وثانياً في ١٩١٨.(٦)

وحين اندلعت الثورة الروسية ودخلت أميركا الحرب، صرح سايكس أن “الاستعمار والضمّ والنصر العسكري والهيبة (أعباء الرجل الأبيض) شُطبوا من القاموس السياسي الشعبي، وبالتالي يجب نقل المحميات  ومجالات المصلحة أو النفوذ وعمليات الضم والقواعد، إلخ، إلى الغرفة الدبلوماسية”.(٧)

كان لاتفاقيات ما بعد الحرب، التي صنعتْ غالبية الدول في الشرق الأوسط، صلة قليلة باتفاقية سايكس ـ   بيكو. فقد تم التوصل إلى تلك الاتفاقيات في سلسلة من مؤتمرات السلام متعددة الأطراف والاجتماعات التي أنتجتها منطقة ونظام عالمي حوّلتْه الحرب. وكانت هذه النقلة وليدة تصاعد القومية العربية وبزوغ دولة تركية متماسكة من حطام الإمبراطورية العثمانية ودخول الولايات المتحدة إلى الصراع والثورة الروسية والتراجع الدرامي في قوة الدولة البريطانية والفرنسية.

إن الاستخدام المضلِّل لاتفاقية سايكس بيكو لشرح صعود تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق يبرز الأخطار المتضمنة في توظيف التماثلات التاريخية في تحليلات الأحداث المعاصرة.(٨)يمكن أن يقدم استخدام سرد اتفاقية سايكس ـ بيكو للمعلقين مظهراً خادعاً من المعرفة التاريخية، بل يشجعهم أيضاً على رؤية الأزمة الحالية بطريقة محددة وغير صحيحة. وتقود محاولات كهذه لفهم سياسة الشرق الأوسط الحديث، بشكل طبيعي، إلى رؤية ثابتة للمجتمعات في المنطقة في القرن الأخير. أولاً، تنظر إلى الدول التي جاءت إلى الوجود بعد الحرب العالمية الأولى ككيانات مزيفة، أنتجتها مكائد خارجية كان مقدراً عليها الفشل. إن وصفات السياسة التي نشأت من مقاربة كهذه واضحة: لم تحصل هذه الدول الفاشلة على أي ولاء من سكانها وهي بالتالي مصدر المشكلة؛ يجب أن تُستبدل بوحدات أصغر أكثر تماسكاً يمكن أن تحظى  بولاء مواطنيها. إن فحصاً سريعاً لخريطة العالم يبيّن خطأ هذه الحجة. فمعظم الدول التي تشكل النظام الدولي نجمت عن الاجتياح الاستعماري، وصراع لاحق لتقرير المصير. إزاء هذه الخلفية، إن الأصول ما بعد الاستعمارية لدولة لا تلغي بأية طريقة قدرتها على العمل حالما يُطْرَد المُسْتَعْمِر.                

إن النتيجة التحليلية الثانية لسرد سايكس ـ بيكو مؤذية أكثر. ففي نفيها لصلاحية وشرعية وتأثير دول الشرق الأوسط، تنشد ديناميةً تنظيميةً بديلة أو مبدأ، وبشكل رئيسي الهويةَ الدينية للسكان الذين يعيشون في هذه الدول. وبتحديدهم للإيمان كعامل رئيسي في الشرق الأوسط، “كجوهر” ثابت يعود قروناً إلى الوراء، يقع مناصرو سرد سايكس ـ بيكو في خطأ مفهوم بدائية الدولة. إن هذا التحليل يرفض أن يرى التحول المتواصل تقريباً الذي مرت فيه المنطقة منذ ١٩١٦، ويقود إلى الزعم بأن جماعات الدولة الفرعية هناك هي في معظمهما متماثلة جغرافياً، ومتنازعة وعالقة في دول مصطنعة تهيمن عليها الأقليات. يعزز هذا أيضاً وجهة النظر القائلة بأن الحروب الأهلية في العراق وسوريا كانت مآسي غير قابلة للتجنب نجمت عن سياسة إقليمية حفزتها دوماً كراهيات طائفية عميقة.(٩)يسمح السرد بالتالي للدين (بدلاً من الدولة) بأن يصبح بؤرة التحليل وبالتالي صياغة السياسة. وهكذا فإن الشرق الأوسط اليوم يمكن أن يُقارن عندئذ بالحرب الدينية التي استمرت ثلاثين عاماً في أوربا في القرن السابع عشر، وتُشرح الأزمة الحالية بـ “النزاع بين القبائل والطوائف الدينية”.(١٠)

إن فحصاً مستمراً ومفصلاً لدول الشرق الأوسط، وخاصة العراق وسوريا، يظهر أن تطورها كان أكثر تعقيداً مما يوحي به سرد سايكس ـ بيكو، وأن المواقف الاجتماعية من الدولة تطورت عبر عدة مراحل. إن الهويات السياسية في المنطقة حُوّلتْ؛ وأكيد أن الدين موضوع رئيسي، لكنه امتزج مع قومية حيوية مرتبطة بالحدود الجغرافية للدول ومُحدَّدَة من قِبَلِها.    

الدولة العراقية بعد تغيير النظام

حين يُطبّق سرد سايكس ـ بيكو على العراق فإنه يقود إلى تحليل جامد لمشكلات البلاد، وبالتالي إلى مجموعة من وصفات السياسة المضلّلة لحلها. وبدلاً من إلقاء اللوم على الإنشاء الخارجي للدولة وهيمنة الهويات الدينية لما قبل الدولة، يجب أن تركز وصفات كهذه على الطرق التي أُضْعِفَ بها العراق منذ تغيير النظام في ٢٠٠٣، وعلى طرق لإصلاح الدولة العراقية يمكن أن تقوي البلاد في المستقبل.

إن دراسة مقارنة للدول الحديثة توحي بأن استمراريتها لا تستند إلى إنشائها المحلي أو الخارجي، بل إلى قدرتها على تأدية ثلاث وظائف، أوّلها القدرة على ممارسة الإكراه والسيطرة على أنشطة رعاياها. خارجياً، يتضمن هذا قدرة الدولة على الدفاع عن حدودها ونشر قواتها المسلحة لردع الدول الأخرى عن الاعتداء على أراضيها أو احتلالها.

في عالم ما بعد ١٩٤٥، والذي تضمن فيه الأمم المتحدة والقانون الدولي الشرعية (القانون)، هذا إذا لم يكن واقع الحال، والاعتراف بالحدود المرسمة سابقاً، صار أكثر أهمية بالنسبة لدولة استخدام الإكراه للسيطرة على سكانها، وللمحافظة على احتكار الاستخدام الجماعي للعنف داخل أراضيها.

إن الركيزة الثانية لاستمرارية الدولة هو قوة بنيتها التحتية، والتي تتجلى في تأمين الخدمات الحكومية  والسلطة التي تفرض عبر مجموعة من المؤسسات التي تشع من العاصمة على السكان ككل.(١١)إن قياس القدرة الإكراهية والمؤسساتية واضح إلى حد ما، كما ينعكس هذا في الدرجة التي تجرب فيها البلاد العنف الذي لا تثيره الدولة، وفي قدرة الحكومة على تزويد السكان بالخدمات كفرض القانون وتأمين الكهرباء والماء الجاري.

على أي حال، من الأصعب قياس الركيزة الأخيرة لاستمرارية الدولة: قوتها الإيديولوجية، أو قدرتها على أن تجعل نفسها تُدرك كشرعية من قِبَل السكان. إن شرعية كهذه يمكن أن تُربط أيضاً بالقدرة على تقديم الخدمات، إلى حد ما، وبما أن حياة المواطنين اليومية صارت أكثر اعتماداً على مؤسسات الدولة، فإنهم يعدّون حضورها داخل المجتمع ضرورياً. يشمل أحد مظاهر هذه العملية تسجيل الطلاب في مدارس الدولة، حيث يمكن أن يخضعوا للدعاية الحكومية. إن مظهراً آخر هو انتشار أجهزة التلفاز، التي يمكن أن تُستخدم كأداة لتعزيز شرعية الدولة.(١٢)    

إن هذه الشرعية وثيقة الصلة بقدرة الدولة على استخدام وتغذية أو تأسيس قومية وحدوية داخل حدودها،   تربط السكان معاً وبالنخبة الحاكمة. وبطرق تمكن مقارنتها باستخدام المدارس والتلفزيون، إن وجود دولةٍ يمكن أن يتجلى أو يسود في الحيوات اليومية للمواطنين عبر حضورها المؤسساتي أو الإشارات إليها في وسائل الإعلام.(١٣)أخيراً، إن التشديد على القوة الإيديولوجية في مركز كلٍّ من شرعية الدولة والقومية يركز الانتباه على دور الدولة في إنتاج “مجموعة من الأساطير المؤسِّسة التي تعرّف وتُمؤسس مخيالاً قومياً خاصاً”، والتحكم بها.(١٤)

يمكن أن يُفهم فشل بغداد في صدّ تقدم تنظيم الدولة الإسلامية بشكل أفضل عبر فحص الطرق التي قامت بها الحكومات التي حكمت العراق منذ ٢٠٠٣ بتقويض منهجي لجميع ركائز استمرارية الدولة.

من الواضح أن ما سبب أزمة الدولة العراقية، في المقام الأول، هو انهيار الجيش العراقي. كانت الفرقة الثانية في الجيش العراقي أول من استسلم أثناء هجوم تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل. وكانت الفرقة الأولى قد فقدت لوائين حين حاولت أن تصد المجموعة قبل الهجوم على الموصل في الفلوجة والرمادي في كانون الأول\ديسمبر 2013. وقد فقدت لوائين في حزيران\يونيو وتموز\يوليو. وهربت كتيبتان من الفرقة الثالثة من وجه تنظيم الدولة الإسلامية، واختفى نصف الفرقة الرابعة، ويُعْتَقد أن التنظيم قضى على هذا النصف في مجزرة.(15)

يقودنا سبب الانهيار السريع للجيش العراقي إلى لبّ المشكلة التي واجهتْها الدولة ككل. أولاً، لقد أضعف الفساد واسع الانتشار في العراق القوات المسلحة. ويشكو صغار الضباط من أن مسؤولي وزارة الدفاع يطلبون رشاوى تبلغ ثلاثة آلاف دولار من أجل القبول في الأكاديمية العسكرية، ويبلغ سعر الترفيع إلى لواء ثلاثين ألف دولار. إن تسديد كلف تأمين الترفيع أدى إلى وجود “جداول رواتب بأسماء وهمية”، تُقدَّم إلى وزارة الدفاع مما سلبها بالاحتيال ما يُقدَّر بـ 25٪ من ميزانية أجورها السنوية، فضلاً عن اختلاس الأموال المخصصة لطعام ووقود الجنود.(١٦)وتفيد التقارير أن الجنود في الموصل يضطرون إلى شراء تموينهم الخاص من الأسواق المحلية وطبخ طعامهم بأنفسهم.(١٧) وكان هذا المستوى من الفساد واضحاً لجنود الخطوط الأولى، وقوّض قدرتهم على القتال بفعالية وأضعف روحهم المعنوية ورغبتهم بالدفاع عن الدولة.

بعيداً عن الفساد، تفكك انسجام الجيش العراقي بسبب تدخل نوري المالكي أثناء فترة رئاسته للحكومة.  فبعد تعيينه في ٢٠٠٦، عمل المالكي بنجاح كي يمنع الجيش من القيام بانقلاب رابطاً القادة الرئيسيين والوحدات شبه العسكرية به شخصياً مخرباً بهذا التسلسل الرسمي للقيادة. فقد بُني الجيش العراقي الجديد بسرعة بحيث أن مَأْسَسَة الإشراف السياسي عليه كانت هشة. واضعاً ضعفه السياسي في حسبانه، استغلَّ المالكي هذا واستخدم منصب رئيس الوزراء كي يحكم سيطرته على الجيش، والقوات الخاصة وأجهزة الأمن.

أمّن المالكي السيطرة على قوات الأمن عبر إنشاء تنظيمين بشكل مخالف للدستور. كان الأول هو مكتب القائد العام للقوات المسلحة، وقد تصوره في البداية مستشارون أميركيون كمنتدى تنسيقي يرأسه رئيس الوزراء. لكن المالكي، الذي أدرك بسرعة أهميته المحتملة، زاد من طاقمه ونفوذه ونطاقه. ونقل التنظيم إلى مكتب رئيس الوزراء وعين حليفاً وثيقاً كي يديره.(١٨)ثم بدأ مكتب القائد العام يصدر الأوامر إلى قادة الكتائب بشكل مباشر، متجاوزاً تسلسل القيادة في الجيش ومدمراً له.(١٩)كان المكتب منخرطاً أيضاً في تعيين وترقية كبار ضباط الجيش.(٢٠)

استلزم الابتكار الثاني المخالف للدستور، الذي وظفه المالكي للسيطرة على قوى الأمن، انتشار مراكز القيادة في الأقاليم. فبعد تبني خطة بغداد الأمنية في ٢٠٠٧، أُنْشِئتْ قيادة عمليات بغداد كي تنسق بين جميع القوات العراقية في المدينة، بما فيه الشرطة والجيش.(٢١)أنشئت بعد ذلك مراكز القيادة في الأقاليم في مناطق غير مستقرة في جنوب ووسط العراق. ووضعت هذه التسهيلات قيادة الشرطة والجيش تحت قيادة لواء واحد في كل إقليم. واختير أولئك الألوية ووُجِّهوا من مكتب بغداد تحت سيطرة المالكي. هكذا تجاوزت مراكز قيادة الأقاليم قيادة وسيطرة وزارة الدفاع على الجيش، ومنحت المالكي السلطة كي يعين ويدير القادة الأهم في مناطق حساسة استراتيجياً في البلاد. ولم يكن مفاجئياً أن الألوية الذين عُيّنوا كي يديروا المراكز كانوا متحالفين سياسياً مع رئيس الوزراء أو تجمعهم به صلة شخصية.

كان لتسييس القيادات العليا للجيش العراقي تأثيرات سلبية تجلت بوضوح أثناء انهيار الفرقة الثانية في الموصل. ففي السابع من حزيران\يونيو ٢٠١٤ ذهب الفريق الأول الركن علي غيدان والفريق الأول الركن عبود قنبر بالطائرة إلى المدينة كي يشرفا شخصياً على القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (٢٢)وكقائدي القوات البرية العراقية والعمليات المشتركة، استفادا من علاقتهما الوثيقة مع المالكي. على أي حال، حين تقدم تنظيم الدولة نحو قاعدة الجيش الرئيسية في الموصل فرّ غيدان وقنبر بسرعة من المدينة إلى إربيل ثم طارا عائدين إلى بغداد. وبدأت التقارير تنتشر بأنهما تنكرا كمدنيين أثناء هربهما، مما قوض أكثر التزام العناصر بالدفاع عن المدينة.

كشف استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق على الموصل حقيقة أن الضعف دبّ في الجيش العراقي. في غضون ذلك، قُوضت الركيزتان الأخريان لاستمرارية الدولة بشكل متواصل في السنوات الست الأخيرة، إن لم يكن أكثر. وكان الأذى الذي ألحقه الفساد بالمؤسسات العراقية ناجماً جزئياً عن نظام المحاصصة، الذي اقتضى أن تُشكل حكومات الوحدة الوطنية التي تشكلت في ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ و٢٠١٠  على أساس الحصص الطائفية. وكانت المناصب الوزارية ومنصب رئيس الوزراء والرئيس تُوزّع بحسب صيغة طائفية تأخذ بالحسبان أيضاً عدداً من المقاعد يفوز بها كل حزب في الانتخابات. وصارت جداول الرواتب وميزانيات الوزارات الإقطاعيات الخاصة للأحزاب التي تحظى بمكافأتها، مما سبّب فساداً سياسياً وشخصياً، وكذلك مقاربة غير متماسكة للحكم.

إن مؤشر الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية العالمية في ٢٠١٣، وهو مسح لمائة وسبع وسبعين دولة ومنطقة، وضع العراق في المرتبة ١٧١.(٢٣)وقد أنتج البنك الدولي أرقاماً مشابهة في مؤشراته حول إدارة الحكم في العالم، مانحاً العراق ٥ نقاط فقط من حد أعلى من ١٠٠ نقطة بسبب قصور مؤسسات البلاد المضادة للفساد.(٢٤)

إن كسباً غير مشروع بهذا المستوى يعرقل بشكل مباشر جهود الدولة في إعادة البناء وقدرتها على إيصال الخدمات. وقد عرّف القاضي رحيم العكيلي، الشخصية الحكومية الرئيسية المسؤولة عن معالجة الفساد في ٢٠٠٨ - ٢٠١١، عملية التعاقد في بغداد بأنها “أب مسائل الفساد في العراق”. (٢٥)وكانت العقود تُمنح غالباً لشركات يديرها سياسيون عراقيون كبار، أو أشخاص وثيقو الصلة بهم. وتُمْنح هذه الشركات بالعادة مبالغ مالية كبيرة علنية، ويتم تجاهل الشكاوى حول عملها بسبب الحماية التي تتمتع بها من الرعاة في الحكومة.

كانت نتيجة هذا الفساد خدمات حكومية في غاية السوء، رغم حقيقة أن العراق غنيٌّ بالنفط. ففي ٢٠١١   قدرت الأمم المتحدة أن ٢٦٪ فقط من السكان يستفيدون من شبكة الصرف الصحي العامة. وهذا يعني أن ٨٣٪  من مياه الصرف الصحي في البلاد غير معالجة. ورغم أن ثلثي الأسر العراقية يعتمد على إمدادات المياه العامة من أجل الشرب، فقد بيّنت المسوح التي أُجْريَتْ في ٢٠١٢ أن ٢٥٪ منهم لم يتلقوا إلا ساعتين من الماء كل يوم. في المجمل، توحي أرقام الأمم المتحدة أن ٧،٦، مليون، أو حوالى ربع السكان، لا يحصلون على مياه شرب آمنة. (٢٦)

صارت الكهرباء المحك الرئيسي للعراقيين الذين ينشدون الحكم على قدرة دولتهم وقضيتها. ففي آب  ٢٠١١، حين وصلت درجة الحرارة إلى خمسين مئوية أُجبر وزير الكهرباء رعد شلال العاني على الاستقالة حين تبين أنه وقع عقوداً لتطوير صناعة الكهرباء في العراق بقيمة ١،٧ بليون دولار مع شركتين مشبوهتين من كندا وألمانيا.(٢٧)واكتشفت مسوح شملت البلاد أجرتْها شبكة المعرفة العراقية في العام نفسه أن الأسر العادية كان تتلقى يومياً ٧،٦ ساعات من الكهرباء من الشبكة الوطنية، وقيّم ٧٩٪ من الذين شملهم البحث إيصال الكهرباء بأنه “سيء” أو “في غاية السوء”.(٢٨)

إن ضعف البنية التحتية للطاقة عنى أن الدولة تملك الحد الأدنى من الحضور المؤسساتي داخل المجتمع العراقي، وهذا موقف عُدَّ الفساد مسؤولاً عنه على نطاق واسع. قاد هذا إلى انفصال الدولة الحاد عن   الإدراك واسع الانتشار بأنها تُدار وفق المصالح الضيقة لحكومة فاسدة.

إن الركيزة الأخير لاستمرارية الدولة، قوتها الإيديولوجية، غائبة أيضاً في العراق. فاستطلاعات الرأي التي أُجْريَتْ في السنوات التي تلت تغيير النظام في ٢٠٠٣ بينت أن سكان العراق أبدوا التزاماً قويٌّاً بدولة موحدة، وكانوا مرتبطين بها عبر قومية حيوية. وكشفتْ المسوح التي أُجريت في شباط\فبراير وأيار\مايو ٢٠٠٤، الدعم لدولة قوية مركزية عاصمتها بغداد. واكتشف مركز العراق للأبحاث والدراسات الاستراتيجية أن ٦٤،٧٪ من العراقيين يفضلون “دولة موحدة ذات مركزية سياسية على الفدرالية”، فيما قال ٦٧٪ إنهم يريدون مركزية مالية وإدارية.

كان لاستطلاعات الرأي العالمية التي قام بها مركز أبحاث أوكسفورد، والتي تمت في شباط\فبراير وآذار\مارس وحزيران\يونيو من ذلك العام، نتائج مشابهة بشكل كبير. رداً على سؤال “أية بنية  يجب أن يمتلكها العراق في المستقبل؟”، اختار ٧٩٪ من المشاركين “بنية موحدة بحكومة مركزية في بغداد”. ورغم أن الردود اختلفت بحسب الخلفيات الإثنية والمناطقية للذين خضعوا للمسوح، فإن ١٢٪ من الأكراد و٣،٨٪ من العراقيين كلهم فحسب دعوا إلى تفكيك الدولة إلى دويلات منفصلة. (٢٩)

ولكن بعد تشكيل مجلس الحكم في ٢٠٠٣، بُنيت السياسة العراقية حول نظام محاصصة، وبدأت معظم   الأحزاب بتقوية الدعم الذي تتلقاه عبر الرجوع إلى الهويات الإثنية والدينية داخل مناطقها. وحين دخل العراق في الحرب الأهلية كانت اللغة المستخدمة لتبرير الارتفاع في عدد القتلى المدنيين وترحيل السكان والهجمات التي نجم عنها عدد كبير من الضحايا مُطعّمةً بالطائفية.(٣٠)وفي ٢٠٠٦ عُبِّر عن الصراع بمصطلحات طائفية تقسيمية على نحو عدائي. وما تزال هذه اللغة مستخدمة، بدرجات متفاوتة، من قبل غالبية النخبة الحاكمة في العراق. نتيجة لهذا، عُبِّئ السكان سياسياً، واختيرت الحكومات العراقية وفُهمت الحرب الأهلية، واستُخدمت إيديولوجيات قوضت بشكل متعمد القومية الوحدوية لصالح هويات مناطقية. ليست هذه عودة إلى التحالفات الدينية التي من المفترض أنها مهيمنة، والتي حفّزت، بحسب الذين يفضلون سرد سايكس ـ بيكو، السياسة العراقية دائماً. بدلاً من ذلك، كان التطوير المتعمد للهويات الطائفية وإعادة ابتكارها على يد نخبة حاكمة هما اللذان حكما بأن هذه أفضل طريقة لحشد ناخبين مبعدين.

إزاء هذه الخلفية، إن استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل في حزيران وتقدمه السريع عبر رقعة واسعة من الأراضي العراقية لم ينتج عن إرث عمره قرن من الاستعمار الأنجلوـ فرنسي. بل كان هذا النتيجة المباشرة لنقاط الضعف المعاصرة داخل النظام السياسي الذي أُنشئ بعد تغيير النظام في ٢٠٠٣. 

إصلاح الدولة العراقية

إن الخطوة الأولى في التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية يجب أن تشمل بوضوح هزيمته عسكرياً. لكنّ استقرار العراق طويل الأمد يقتضي حل المشكلات السياسية التي أنتجت البيئة التي ازدهرت فيها الحركة. ورغم أن سلفها، تنظيم القاعدة في العراق، هُزم عسكرياً عبر تطبيق تكتيكات مضادة للتمرد بقيادة أميركية منذ ٢٠٠٧ فصاعداً، فإن هذا الاندفاع لم يعالج الديناميات السياسية الكامنة التي سببت الحرب الأهلية العراقية، مما سمح لتنظيم الدولة الإسلامية بأن يعاود بناء وتوسيع منطقة عملياته ويتابع كي يصبح أكثر قوة من سلفه.

ينطوي تعيين رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي مكان المالكي على احتمال تحفيز الإصلاح الذي هناك حاجة ماسة إليه بالنسبة للدولة العراقية. على أي حال، سيقتضي الأمر من العبادي أن يفعل أكثر بكثير من تشكيل حكومة وحدة وطنية أخرى تتضمن عدداً أكبر من السياسيين السنّة. سيحتاج إلى الانفصال عن مقاربة حكم العراق التي انتشرت منذ ٢٠٠٦، إن لم يكن أبكر من هذا، وستكون المهمة الأولى الملقاة على عاتقه هي إصلاح الأذى الذي ألحقه المالكي بالدولة أثناء أعوامه الثمانية في الحكم، ويجب أن يشمل هذا بالتأكيد إزالة المكتب السياسي للمالكي، ومجموعة مستشاريه الأقوياء، والمالكيين، أتباعه الذين عُيّنوا في مناصب ذات نفوذ في المؤسسات العراقية. (٣١)

لكن أن نرجع صعود تنظيم الدولة إلى الأخطاء التي ارتُكبت في فترة المالكي فحسب فإن هذا يعني التقليل جداً من حجم المشكلة التي يواجهها العراق. إن الفساد الذي يحت الدولة العراقية من الداخل جزء لا يتجزأ من نظام المحاصصة الذي خصخص بالنتيجة الدولة العراقية. وقد سمح النظام للنخبة السياسية العراقية بالاستيلاء على أرصدة الدولة من أجل الربح الشخصي ولتمويل الأحزاب التي تمثلها. وقاد هذا أيضاً إلى لغة عنيفة وتقسيمية صارت العملة الرئيسية للسياسة العراقية. وتتحمل مسؤولية نموّ الطائفية والفساد النخبة التي حافظت على سلطتها منذ ٢٠٠٣. ومن أجل القضاء على تهديد تنظيم الدولة، وجعل العراق مستقراً وتأمين مستقبل دائم للبلاد، لن يكون على العبادي أن يصلح الدولة فقط بل أن يقنع النخبة بالتغير أيضاً. سيتطلب هذا منها العمل من أجل توحيد مجتمع لعبت دوراً رئيسياً في تقسيمه، وأن تبدل مقاربتها الفاسدة السرية للحكم بأسلوب في القيادة منفتح وعرضة للمساءلة. وكعضو مركزي في تلك المجموعة، يجب أن يعترف العبادي بصعوبة المهمة التي وضعها على عاتقه، وبالعوائق التي تقف في طريقه.

[نشر هذا المقال لأول مرة على موقع 'سرفايفل'بللغة الانجليزية]

 [ترجمةأسامة اسبر]


Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

Trending Articles