[تنشر جدلية بالاشتراك مع مجموعة الـدكتافون ومؤسسة "آرت-ايست" نصوصاً تتناول الحق في الوصول إلى الشاطىء في العالم العربي تحت عنوان "من هنا البحر". نشرت هذه النصوص باللغة الانكليزية على موقع آرت-ايست. تنشر سلسلة "من هنا البحر" تباعاً على موقع جدلية خلال الأسبوع القادم. ]
لطالما ارتبط الإنسان بالأرض والبحر معاً فأمسى الإثنان حقاً مكتسباً ولا سيما في جزيرة صغيرة كالبحرين حيث اعتمد فيها الناس على البحر منذ قديم الأزل. عمل سكان الجزيرة في الزراعة والصيد أو التجارة من خيرات الأثنين إلى حين إكتشاف النفط في عام 1932.
قبلها اعتمد تكون القرى والمدن على موقع المياه (الماء الملح والعذب)، فاستقرت القبائل والعوائل حول العيون والآبار وقرب البحر لبدائية المواصلات ولتمكين سهولة الوصول إليها. مع إكتشاف النفط تطورت أنواع المواصلات وتغير تخطيط المدن والقرى تأثراً بالمستعمر الأوروبي الذي أشرف على خلق مدن غربية ذات شوارع مستقيمة، عوضاً عن فوضى المدن العربية التي اتسمت بإعوجاجها وضيق حاراتها التي ما عادت تتسع لعربيات المستعمر ومن أول هذه المدن في البحرين كانت عوالي ومدينة عيسى.
تبدلت صلة الناس بالبحر بتبدل المهن وتبدل التجارة ومع دخول البحرين في الرأسمالية وتحوّلها لاحقا لمركز مالي في الشرق الأوسط بعد أن خسرته لبنان بسبب الحرب الأهلية التي ألمت بها في منتصف السبعينيات. اختلف أسلوب المعيشة وانقسمت العوائل الكبيرة إلى عوائل أصغر بمهن مختلفة وبيوت مستقلة. تبدلت متطلبات الحياة وأصبح للأرض قيمة أكبر بسبب الطلب المستمر عليها فارتفعت أسعار الأراضي وأكثر منها أراضي البحر. لضحالة مياه الخليج كان من السهل والرخص ردم البحر للحصول على المزيد من الأراضي. وفرة الأراضي على الحدود البحرية أدت لخلق سوق عقارية كبيرة قائمة في الأساس على ردم البحر وخلق مدن من سراب مع كل عملية ردم جديدة، هذه المدن التي أسماها عبدالرحمن منيف في رائعته "مدن الملح". ويتزامن وجود هذه المدن الجديدة مع العجز المحلي في توفير سكن إجتماعي يلبي حاجة السكان من الناحية الإجتماعية والإقتصادية. وقد تناول الدكتور عمر الشهابي مشكلة المشاريع العقارية وتفاقم الخلل السكاني في دول الخليج العربي بالتفصيل في كتابه "اقتلاع الجذور" مبيناً عجز هذه المشاريع عن تلبية حاجات السكان رغم وفرتها، ناهيك عن خلق ظواهر جديدة ما هي إلّا نتيجة لهذه المشاريع التي شُيدت في ظل غياب التخطيط الإستراتيجي المتكامل. ظهرت "مدن الملح" لتحريك رؤوس أموال فائض النفط وإدخال مدن الخليج في سباق المدنية والتطور العالمي الذي بات يُقاس بالتطور العمراني. فأصبحت كل المدن تشبه بعضها دون مراعاة للمناطق المأهولة ومراكز العواصم القديمة مما أدى لخلق صدع بين النسيج العمراني القديم والجديد. هذا الصدع تمثل في وفرة المشاريع العقارية وتضادها المتمثل في قلة توافر مساكن إجتماعية تتماشى وحاجة الناس. كما وتمثل في بروز جيلين، جيل البحر وجيل الـ showcase (المظاهر) وحدة الإختلاف الطبقي بينهما.
[النسيج القديم في مقابل الوجه الجديد للمنامة (المصدر: الكاتب)]
جيل البحر
هو هذا الجيل الذي عاش كل أو جزء من حياته قرب البحر، تعايش وتفاعل معه، يحن له ويراه كجزء لا يتجزأ من حياته. هو صاحب حق في البحر كما في الأرض التي يعيش عليها.
رغم قلة البحرينيين الممارسين لمهنة الصيد اليوم، إلا أنه لا زالت هناك فئة تمارسها لقوت يومها وفئة أخرى تتخذها كتجارة فتوظف الأجانب (في الغالب آسيويين) لممارستها عنهم وبيع صيدها لاحقا في السوق، فيصلهم ربحها آخر النهار على مقاعدهم المعتادة في المقاهي الشعبية. ورغم إندثار مهن النهام (الذي يصوغ الأغاني الشعبية لمتعة البحارة وتسهيل طريق السفر)، الطواش (تاجر اللؤلؤ)، القلاف (صانع السفن)، الجزاف (الذي يشتري السمك من الصيادين ليبيعه على الناس)، السيب (الذي يسحب غواصي اللؤلؤ) والمحاري (نسبة إلى محار اللؤلؤ)، إلا أن ألقاب العوائل بقيت لتشهد عليها.
رافق التحضر والمدنية خسارة مواقع الصيد الوفيرة، فمع كل مدينة جديدة وكل مشروع عقاري جديد رُقعة من البحر تُدفن فتقل معها فرص ومواقع الصيد. من مواقع الصيد التي تم ردمها وتهجير الصيادين منها قرية الجفير، البديع، جزيرة النبي صالح، الدير، الحد، سماهيج و قلالي. واجه إغلاق البحر وتحوّله الى ملكيات خاصة إحتجاجات شعبية كثيرة ورغم صدور مرسوم ملكي لسنة 2008 باعتماد المخطط الهيكلي الإستراتيجي 2030 الذي يشترط على جميع القائمين على مشاريع البناء الجديدة تخصيص 50% من واجهاتهم البحرية لإستخدام العامة، إلا أنه لا يوجد اليوم مشروع استثماري واحد إلتزم بتطبيق نص القانون. فكل هذه المشاريع هدفها الأول والأخير الربح المثمر السريع. فتحولت بذلك إلى أملاك خاصة مائة بالمائة ناهيك عن خلوها من أي سواحل بحرية لاستخدام العامة. وعلى غرار كل شيء آخر هو نتاج الأنظمة الرأسمالية، تحوّل البحر لمجرد سلعة تدفع لتراه وتكون قربه مؤثرا بذلك على علاقة الناس بالبحر وارتباطهم التاريخي به كما وأصبح القرب للبحر مقياس لتحديد المستوى الإجتماعي، نشأ على أثره إختلاف طبقي واضح بين مستخدمي البحر ومُلاكه.
"جيل البحر" هو الذي لا زال يزور البحر رغم المعوقات ورغم ان نسبة إجمالي السواحل العامة المتبقية هي فقط 3%، إلا انه لا زال يُوجد الطرق للتفاعل معه والإحساس به حتى في أيام القيظ الشديدة. فهناك من يمارس الأنشطة البسيطة كالعوم والجلوس والتمتع بالمنظر أو اللعب بالرمال. وهناك من يبني الأكواخ البسيطة على ضفافه على طريقة "الباراستي" (بيوت العامة المصنوعة قديما من سعف النخيل) حتى أن بعض هذه الأكواخ مُجهز بكامل الأدوات المنزلية التي تسمح لمستخدميها بالعيش هناك لفترات زمنية قصيرة.
أي فسحة جديدة مطلة على البحر ولم يتم استخدامها بعد هي فسحة أمل لجيل البحر ومحل إقامة مؤقت إلى أن يأتي سكانها الجدد، فتتحوّل إلى ملك خاص.
[كوخ على شاطئ أبو صبح في منطقة الدراز (المصدر: الكاتب)]
[جيل البحر (المصدر: الكاتب)]
[اليمين: صيادي سمك في منطقة الدراز و تظهر عمارات المدينة الشمالية (عبارة عن 11 جزيرة صناعية) في الخلفية] (المصدر: الكاتب)]
[اليسار: صياد سمك عائد من الصيد في منطقة الدراز (المصدر: الكاتب)]
[جيل البحر على شاطئ منطقة المالكية (المصدر: الكاتب)] [جيل البحر يصلي بقرب البحر (المصدر: الكاتب)]
جيل الـ showcase(المظاهر)
هو هذا الجيل الذي لا يعرف البحر إلا من خلال زجاج النوافذ، نوافذ بيوتهم الصيفية المطلة على البحر ونوافذ سياراتهم العديدة ويخوتهم. هم فاقدي القدرة على التواصل مع البحر إلا من خلال مركبة أو لعبة تسليهم فالبحر في حد ذاته لا يُعتبر تسلية. البحر عند هذا الجيل مرتبط بالمدن الجديدة المشيدة على أراض بحر بِكر ترى البحر فيها على بعد عدة أمتار فهو معد فقط للرؤية والكلمة الإنجليزية المرادفة هنا هي Staged أي "مجهز للنظر" لا للتفاعل معه أو الإستخدام.
مشروع جُزر أمواج الواقع شمال شرق مدينة المحرق والبالغة مساحته 3,3 كلم² كان من أوائل المشاريع العقارية الكبيرة التي روجت للمدينة المتكاملة وأول مدينة تُبنى بالكامل على رقعة من البحر. تملك جزر أمواج 27,18 كلم من الواجهات البحرية وجميعها مخصصة للإستخدام الخاص، حتى أن مُلاك بعض هذه العقارات هناك ليس لديهم صلاحية استخدام واجهات ملكياتهم الخاصة ويتم إلزامهم بإستخدام الأماكن المخصصة فقط من الجزيرة. كما وأنه تتم مخالفتهم في حال ركن المراكب واليخوت أمام واجهاتهم البحرية ويتم إجبارهم على إستخدام مرفأ "المارينا" على الجزيرة الذي بدوره يأخذ أُجرة نقدية ليست بقليلة مقابل استقبال وتوفير مساحات لركن المراكب واليخوت.
[مدينة مرسى بجزر أمواج (المصدر: المصور Andrew Weaver)]
أما مشروع جزيرة الريف فقد كانت له رؤية مبدئية مختلفة كل الإختلاف عن ما آلت إليه، حيث خُطط ليوفر 5,597 كلم من الشواطىء البحرية لإستخدام العامة إلى أن اشترته شركة اللؤلؤ السياحية (في الأول مناصفة مع حكومة البحرين في 2002 وبعدها بالكامل في 2009) ليتحول إلى مُلك خاص بالكامل لرجل الأعمال اللبناني روبير معوض. رغم الواجهة البحرية التي يتمتع بها المشروع وموقعه المميز في قلب العاصمة، إلا أن مستخدمي الجزيرة لا يستطيعون الوصول إلى البحر أو التفاعل المباشر معه لعدم توفر منافذ بحرية مما يثبت بأن الجزيرة لم تُصمم للإستخدام و إنما صُممت على مبدأ الـ Showcase أو المظاهر التي تصرخ "أنا سلعة!".
[جزيرة الريف المُعدة للنظر (المصدر: الكاتب)]
مشروع دُرة البحرين يُعد من أحدث المشاريع العقارية وأنضجها، في حين أمواج بُنيت كأول تجربة والريف وُجدت محض صدفة إلا أن دُرة البحرين هو مشروع قد أُعد له متعلما من أخطاء من سبقوه. صُممت جزر درة البحرين التي تبلغ مساحتها 10,8 كلم² على شكل أهِلّة وسمك موفرة بذلك مساحات كبيرة من الواجهات البحرية يبلغ طولها 63,79 كلم، جميعها للإستخدام الخاص. على غير جزر أمواج أو الريف فإن درة البحرين توفر منافذ بحرية لمستخدميها كما توفر خاصية ركن المراكب واليخوت خارج العقارات مباشرة.
جزر درة البحرين التي توفر واجهات بحرية خاصة في مقابل شاطىء المحرق مع مراكب الصيادين وقد دفن جزء كبير منه الآن (المصدر: المصور] [Andrew Weaver)
"مدن الملح" الجديدة كلها تشترك في مبدأ الـ Showcase أو إستعراض المستوى الإجتماعي الذي تبيعه لسكانها، ناهيك عن إجبارهم على التعامل مع مستوى معيشي معيّن يتماشى والمبدأ الذي أُسست عليه. فبمجرد التملك هناك يرى الساكن نفسه مُلزم بمصاريف أخرى وسلع أخرى تُصور له كحاجات أساسية للعيش رغم ثانويتها. ومن هنا يربى "جيل المظاهر" غير مدرك الفرق بين ما يحتاجه ليعيش وما يظن بأنه غير قادر على العيش دونه، وهذان التضاد توضحهما اللغة الإنجليزية في المصطلحين (necessity & amenity) أي ما تحتاجه لضرورة العيش وما تحتاجه للعيش براحة ورفاهية في إطار رسمه لك المجتمع المنتسب له. وبسبب أن هذا الجيل نشأ على مبدأ التملك ، هُيأ له بأن البحر سلعة قابلة للبيع والشراء، وبذلك أصبح تواصله مع البحر على أساس مادي بحت مجرد من أي تواصل معنوي. البحر بالنسبة له هو هذا الإطار الذي يُزين خلفيته بينما يستعرض اليخوت الجديدة واللعب المائية المتطورة، فتُقام مختلف السباقات المائية وتُنظم مختلف الأسواق فيما يبقى البحر في خلفية الصورة. جيل الـ Showcase هم المُلاك الجُدد للبحر، قريبين جداً منه وبعيدين كل البعد عنه.
اليمين: إعلان لمشروع خليج البحرين Bahrain Bay حيث الرفاهية هي الحلم (المصدر: الموقع الإلكتروني ل Bahrain Bay)] ]
[اليسار: مبنى بنك أركابيتا بطرازه الحديث يُصور للناظر كأنه سلعة معروضة للبيع Staged (المصدر:الموقع الإلكتروني ل Bahrain Bay)]
لِمَن هذه المدينة؟
في فرنسا في القرن التاسع عشر، خرج الفقراء إلى قلب العاصمة الباريسية في محاولة منهم لإحتلال ما سُرِق منهم واسترجاع حقهم المهضوم في المدينة التي نُفوا منها إلى الحدود. البارون هوزمان كان وراء تخطيط مدينة باريس التي يعرفها العالم اليوم بشوارعها العريضة ومبانيها الفارهة حيث لا مكان فيها للفقر أو الفقراء. هوزمان كان رجل أعمال وصاحب رؤية لعالم رأسمالي حيث النقود فيه هي ما يُشيد المدن ويفنيها. وعندما أُعطي الفرصة لحل مشكلة تزايد التعداد السكاني في العاصمة وتدهور الأوضاع الإجتماعية، قام بهدم المدينة بالكامل وأعاد بناءها من الصفر، دافعاً بالآلاف من الناس بمشاكلهم الإجتماعية إلى حدود المدينة ومشيداً حاجز مادي ومعنوي بينهم وبين المدينة الجديدة وسكانها الجدد. خلق هوزمان مدينة مظاهر من دون باطن، سالباً حقوق الفقراء في المدينة التي عرفوها وتعايشوا معها. قدّم المدينة الجديدة للأغنياء في صورة جميلة كحل لكل المشاكل التي عانتها المدينة القديمة، فسميّت الثورة الفرنسية بـ "ثورة الفقراء"، نسبة إلى محاولتهم الأخيرة لاسترجاع ما سُلب منهم بالقوة.
يقول الخبير الإقتصادي ديفيد هارفي بأن النظام الرأسمالي لا يقوم بحل المشاكل الإجتماعية أو المادية، فقط ينقلها من موضع لآخر. فلكي يعيش هذا النظام، هو ينقل رأس المال من مكان إلى آخر، ليضمن إستمرار وجوده وتطوره. وعندما ينهار النظام في مكان ما، يبحث عن مكان آخر ليزدهر فيه. فعندما نقل البارون هوزمان مشاكل المدينة إلى أطرافها، فإن ذلك لم يُلغي وجودها وإنما عززه في مكان آخر، الى أن ساءت وتكاثرت، فعادت بصورة أكبر لتطيح بالنظام الرأسمالي الذي اقتات وازدهر على حسابها في المدينة لسنين.
يتكلم هارفي في كتابه Rebel Cities (المدن المتمردة) عن حق الناس في المدينة وحق صنعها بما يتلاءم مع احتياجاتهم وكيف أنه لا يجوز لحق الملكية الخاصة أن يطغى على حق الفرد، فالمدينة هي نتاج حق جماعي وليس حق فردي. إن المدن لا تصنعنا بل نحن من نصنعها. لكن هذا المفهوم تغيّر اليوم في "مدن الملح" فباتت المدن تصنع لنا المستوى المعيشي والإجتماعي وتفرض علينا ما نحتاجه، متى نحتاجه وكيف نحتاجه.
عندما شهدت البحرين احتجاجات الرابع عشر من فبراير، أُثيرت أسئلة مشابهة لكل تلك المشاريع العقارية: "لمن هي؟ و لِمَ؟ أين بحرنا و أين نحن من كل هذا التطور؟" حيث لا يمكن أن يطغى حق جماعة صغيرة في التمتع بموارد المدينة على حساب حقوق الأفراد العديدة التي لا تعرف مدينة غيرها. فشلت هذه المشاريع الجديدة (جزر أمواج، جزيرة الريف، درة البحرين) في توثيق علاقة الناس بالبحر وأبعدت من لا يستطيعون العيش دونه داخل المدينة. فجيل البحر هم انحدار لتاريخ علاقة قديمة بين الإنسان والبحر. بينما جيل الـ Showcase هم نتاج مدن اصطناعية جديدة، حيث البحر فيها عامل مؤقت، قبل أن يتحوّل لأرض جديدة تضم مدينة جديدة لا تربطهم به إلا صيغة الحاضر، والكثير من المظاهر.