[هذا هو الفصل الثالث من كتابي الجديد: اللغز والمفتاح في النقوش السينائية المبكرة ورقم دير علا. وهو يغامر بتقديم قراءة مختلفة جدا لنقشي وادي الهول في مصر، اللذين هما من أقدم نموذج من الأبجدية السامية الأولى، أم أبجديات المنطقة والعالم. النقشان يعودان إلى حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وقد عثرعليهما في الصحراء الغربية في مصر، وكتبهما في ما يفترض عمال أو جنود ساميون في الجيش المصري. أعلن عن اكتشاف النقسين عام 1999. لكنهما اكتشفا في الواقع عام 1994. ومنذ اكتشافهما تحولا إلى أشهر نقشين من نقوش هذه الأبجدية التي تدعى بالنقوس السينائية المبكرة.الكتاب سيصدر قريبا جدا عن دار الناشر في رام الله، الكاتب].
وفي العام 1999 نشرت نيويورك تايمز تقريرا عن ما يعتقد أنه أقدم نموذج لما يسمى بالنقوش السينائية المبكرة، أي نقوش الأبجدية الأولى، يعثر عليه حتى حينه. وقد عثر على هذا النموذج، المكون من نقشين اثنين على حائط صخري، في الصحراء الغربية، في منطقة تدعى (وادي الهول)، وتقع على الطريق القديمة بين طيبة (الأقصر) وأبيدوس في مصر القديمة، عند منحنى النيل في منطقة (قنا). أما الذي اكتشف النقشين فهو المصرولوجي جون كوليمان دارنل وزوجته ديبورا.
ومع اكتشاف هذين النقشين فقد بدا أنه تم الدفع بالمسرح الذي ولدت عليه الكتابة الأبجدية إلى أعماق مصر. كما تم دفع زمن ميلادها بمقدار قرنين إلى الوراء على الأقل، أي إلى حدود 1850 قبل الميلاد، أو حتى قبل من ذلك. فقبلهما كان التقدير الغالب أن نقوش الأبجدية الأولى، أي السينائية، كتبت في فترة ما بين القرن الرابع عشر والسابع عشر قبل الميلاد. كما أن المسرح الذي ظهرت عليه يقع بين فلسطين ومصر، أو قل على خط التماس المصري- الفلسطيني. أما الآن فيبدو أن خشبة المسرح التي شهدت مولد هذه الأبجدية هذه كانت قد نصبت في أعماق مصر، أي على الضفة الغربية لنهر النيل، وأن الحدث التاريخي الكبير، الذي أجرى تحولا هائلا في مجرى الثقافة البشرية، قد حدث على أيدي ساميين مقيمين في أعماق مصر، يتكونون من عمال وجنود في الجيش المصري، وعبر التفاعل الشديد مع الكتاب المصريين، في ما يفترض.
وبسبب القدم البالغ للنقشين فإنهما يعطياننا لمحة أشد وضوحا عن لحظة ميلاد الكتابة الألفبائية، أي عندما كانت ما تزال بعد تصويرية: فحرف الألف رأس ثور بقرنيه - اسم الثور في عدد من اللغات السامية هو: ألف- وحرف الراء هو صورة رأس بشري، أما حرف العين فهو رسم للعين، وحرف الفاء رسم لفم بشفتين، في حين أن حرف الهاء يأخذ صورة رجل رافع يديه مهللا مبتهجا يصيح: هيي.
[رسم النقشين من دارنل]
وبناء على هذين النقشين بنى دارنل فرضيته حول الألفباء السامية الأولى، التي يلخص لنا بنجامين ساس تداعياتها كالتالي:
1- أن النقوش السينائية ونقشي وادي الهول يمثلان فرعين من أقدم ألفباء سامية.
2- أن الألفباء السامية ابتدعت في مصر.
3- الأصل العسكري: أن الألفباء السامية محصول التفاعل بين الجنود الساميين في الجيش المصري، الذين كانوا ينشرون على الحدود مع بعثات التنقيب عن المعادن، وبين الكتبة المصريين الذين كانوا مع هذه المجموعات.
4- النموذج الصخري: أن أقدم الكتابات السامية كانت صخرية، أي نقوشا على الصخر، بشكل محدد.
5- وفي الحقيقة فإن الكتابات التي كتبها العسكريون والبعثات، سواء كانت بالهيروغليفية أو الهيراطيقية، تحوي النماذج الممكنة لكل الحروف السامية.
5- الكتابة الألفبائية لوادي الهول تعود للممكلة المتوسطة، أي ل 1800 ق.م.
6- مع ذلك، فإن حروفها تجد أصولها في الوثائق المصرية الأقدم، ومن المحتمل ان يكون ذلك في 2000 ق.م.
6- أن النقوش التي عثر عليها في سيناء تمثل مرحلة متأخرة من الألفباء ذاتها.
7- من ناحيتها، فإن حروف الجزيرة العربية تبدي علامات شبيهة بنقوش وادي الهول. وهذا يعني وجود كتابة من (طراز ودي الهول) هي أصل ما قبل السينائية وحروف الجزيرة العربية (1).
وكما نرى، فهذه استخلاصات شديدة الثورية. وهي بالتأكيد قابلة للجدل. غير أن ما يهمنا نحن هنا هو أن هذه الاستخلاصات تشير إلى وجود صلة عميقة لنقشي وادي الهول مع الجزيرة العربية. وهي صلة تعكس الصلة جغرافية مع الجزيرة العربية، ومع شمالها على وجه الخصوص (وبما يشمل جنوب فلسطين هنا)، الأقرب جغرافيا لمصر، ومع لغات هذه البقعة الجغرافية. وهذا ما سيكون مبررا لنا إذ نقرر الاستناد إلى اللغة العربية، ولغات شمال الجزيرة العربية عموما، لفهم نقشي وادي الهول وترجمتهما.
اللغز يتجدد
على كل حال، ومع اكتشاف نقشي وادي الهول، فقد بدا وكأن اللغز الذي شهدناه مع النصوص السينائية يتجدد مرة أخرى. فمنذ العام 1999 لم يجر إحراز أي تقدم في محاولات فك ألغازهما. جرت محاولات كثيرة لقراءتهما، لكن، ومن جديد، ما من محاولة واحدة حظيت بتأييد كتلة رئيسية من العاملين في الحقل. هذا رغم أن النقشين هما الأشد وضوحا من بين كل النقوش السينائية. فهما مكتملان لا نقص فيهما، ولم يتعرضا لأي تلف يصعب من قراءتهما.
إذن، نعود لطرح السؤال مرة أخرى: ما الذي حصل حتى نفشل من جديد في فك لغزهما؟ ومن جديد نعتقد أن الاتجاه المسيطر هو السبب. أي الافتراض القديم نفسه، القائل بأننا أمام نصوص من لغة كنعانية ما. لكن ينضاف إلى هذا السبب الجوهري عدد من الأسباب الموضعية الأخرى:
أولا: أن النقشين وجدا منقطعين تماما. فلم يعثر قربهما على أي نقوش من الطراز ذاته. وقد كان الأمر مختلفا في سيناء. فقد حظينا في موقع سرابيط الخادم بنقوش متعددة ساعدت بتضامنها ربما على فتح الطريق أمام غاردنر للحصول على المفتاح.
ثانيا- أن نقوش سرابيط الخادم كانت على علاقة بمعبد الإلهة هاتور. ومع وجود المعبد، فقد افترض بسهولة أن النقوش التي عثر عليها لا بد أن تكون نقوشا نذرية قربانية قدمت في المعبد لآلهة ما شبيهة بهاتور. وهذا ما مكن غاردنر من قراءة شبه جملة (لبعلت) التي تفترض أن الأمر يتعلق بتقدمة وقربان لإلهة سامية. أما نقشا وادي الهول فليس هناك من معبد قربهما. لذا فهما في أغلب الظن نقشان غير نذريين. أي أنهما ليسا نقشين دينيين. وهذا يعني أننا فقدنا الخلفية العامة التي ساعدت غاردنر في سرابيط الخادم على قطع الخطوة الأولى في فك الطلسم.
ثالثا: أن بعض حروف النقشين كان جديدا، ويظهر لأول مرة في نقوش سينائية. بالتالي، فما زال هناك خلاف حول القيم الصوتية لهذه الحروف. وهو ما يصعب أمر قراءتهما.
رابعا: فوق ذلك، نعتقد أن تعرّف دارنل على أحد هذه الحروف كان خاطئا. فقد افترض أن الحرف الخامس في النقش الأفقي- وهو يتكرر مرتين أخريين في النقش ذاته- هو حرف الميم. وهناك إجماع على فرضية دارنل هذه. أما نحن فنرى أنه ليس حرف ميم، بل حرف سين. وحين يكون هناك تشوش بشأن حرف يتكرر ثلاث مرات في نقش مكون من 16 حرفا، فلا بد أن يؤدي هذا إلى زيادة غموض النقش. وسوف نناقش أمر هذا الحرف لاحقا.
بالطبع هناك، إضافة إلى كل هذا، صعوبة نابعة من الكتابة السامية الأقدم. فليس هناك فواصل بين الكلمة والتي تليها. بذا فنحن أمام صف متواصل من الحروف كأنه كلمة واحدة. وعلى من يحاول قراءته أن يقطعه إلى كلمات، ثم أن يفترض الحركات القصيرة والطويلة (حروف العلة)، لأن الكتابة السامية تهمل الحركات، ثم أن يكون لتقطيعه وقراءته معنى معقول ما. وعلى حد قول أحدهم فإن: (علينا ان نذكر أنفسنا أن من كتب نقشا ما قبل- ألفبائي [يقصد سينائيا] هو وحده من كان يعرف ما يقصد) (2). وكل هذا جعل من النقشين لغزا.
ونحن سنذهب لمحاولة فك لغز هذين النقشين، وانطلاقا من ثلاثة مبادئ:
أولا: أن النقشين يمثلان لغة سامية غربية- جنوبية، أي لغة من لغات الجزيرة العربية، وبشكل أكثر تحديدا لغة لغات شمال الجزيرة العربية، قريبة على الأخص من اللغات اللحيانية والثمودية والصفائية، إضافة إلى العربية بالطبع. وسوف نحاول أن نحل ألغازهما استنادا إلى هذه اللغات، وإلى اللغة العربية.
ثانيا: أنهما نقشان غير نذريين، أي غير دينيين.
ثالثا: أن بعض علامات النقشين جرى التعرف عليها خطأ. لذا فلا بد من إعادة تحديد القيم الصوتية لبعض الحروف- العلامات في هذين النقشين.
على هذه الأسس سنخوض مع الخائضين في محاولة لترجمة النقشين. وهذا يعني أننا سنعكس الاتجاه الذي مضى أولبرايت، والغالبية التي تبعته. فنحن سنذهب إلى الجزيرة العربية لا إلى بلاد الشام لفهم النقشين وترجمتهما.
حروف مختلف عليها
وفي البدء علينا أن نعرض لأمر الحروف المختلف عليها في النقشين. فلا يمكن الحديث عن ترجمة ما لم يتم البت في شأن الحروف المختلف على قيمها الصوتية. ولدينا في الحقيقة ثلاثة أحرف مختلف على قيمتها الصوتية بين المختصين. لكننا سنضيف حرفا آخر إلى قائمة الاختلاف ليصير لدينا أربعة أحرف غير محددة القيمة الصوتية في النقشين. وسوف نبدأ بهذا الحرف على وجه الخصوص.
1- الحرف الخامس في النقش الأفقي:
يتكرر هذا الحرف في النقش آخذا ثلاث مرات: آخذا الموقع الخامس والعاشر والرابع عشر في صف الحروف. وهذه صورته في المواقع الثلاث كما رسمها دارنل:
وقد رأى دارنل، مؤيدا من الغالبية، أن هذا الحرف هو حرف الميم . أي أنه هو ذاته الحرف الثاني من النقش العمودي، كما تظهر صورته أدناه:
وهذا الحرف هو علامة الماء الجاري في المصرية القديمة. وهي علامة تكتب أفقيا في العادة عند المصريين ، لكنها مكتوبة عموديا في النقش الأفقي. يقول دارنيل:"هناك ثلاث من علامات الماء في النقش الأفقي... وواحدة في النقش العمودي. الثلاثة التي في النقش الأفقي كلها رسمت عموديا، بينما رسمت علامة الماء الوحيدة في النقش العمودي أفقيا.. في حين أن كل علامات الماء في سرابيط [الخادم] أفقية)" (3).
إذن، فعلامة الماء في النقش الأفقي، أي حرف الميم، كتبت في المرات الثلاث عموديا، في حين أنها كتب عموديا في النقش العمودي. كما أنها كتبت أفقيا في كل مرة وردت فيها في نقوش (سرابيط الخادم) بسيناء. أي أنها مطروحة أفقيا دوما، باستثناء النقش الأفقي في وادي الهول، حيث طرحت عموديا، ليس مرة واحدة، بل لثلاث مرات متتالية في نقش مكون من 16 حرفا فقط. أي أنها مطروحة عموديا بإصرار تام. فلماذا يحصل ذلك؟ ولما جرى مخالفة تقاليد النقوش السينائة في سرابيط الخادم بشأن حرف الميم هنا؟
نعتقد أنه يجب التوقف عند هذا الإصرار. فهو قد يشير إلى أننا أمام حرفين مختلفين تماما، حتى وإن كان هناك شبه بينهما. بل لعل رسم هذا الحرف بشكل عمودي يهدف إلى إقناعنا بتجاوز هذا الشبه المبدئي، وعدم التركيز عليه. ونحن نعتقد، بالفعل، أن الحرف المرسوم عموديا في النقش ليس حرف الميم، بل حرف السين. وسوف نقرأ النقش الأفقي بناء على ذلك. أي على افتراض أن الحرف في النقش الأفقي ليس هو ذاته الحرف الأول النقش العمودي.
ونحن نعتقد أن الشبه بين الحرفين نابع من الأصل التصويري للحرفين. فحرف السين أخذ شكله البدئي من صورة الأسنان البشرية، في ما يبدو. عليه، فتسنيناته، أي تموجاته، هي تموجات صف من الأسنان وتدرجاتها. ولهذا فاسم هذا الحرف (سين) مرتبط بالأسنان (سن)، كما افترض بعض الباحثين. وهي فرضية معقولة تستطيع ان تفسر التشابه بين (تموجات) الماء في حرف الميم، و(تموجات) الأسنان في حرف السين. وهو شبه جرى التغلب على نتائجه عن طريق رسم أحد الحرفين عموديا، والثاني أفقيا.
ونعتقد أن الخلط بين الحرفين (س) و (ميم) أدى إلى تأخير قراءة النقش الأفقي، وفك مغاليقه. فلا يمكن فهم نفش مكون من 16 حرفا إذا كانت 3 من حروفه قد قرئت خطأ.
2- الحرف التاسع في النقش الأفقي:
وقد اعتبر دارنيل أن هذا الحرف، الذي يأخذ شكل زاوية، هو حرف الفاء البائية p وربطه بالحرف التاسع من النقش العمودي، على اعتبار أنهما معا يمثلان الفاء البائية.
لكن ليس هناك إجماع على فرضية دارنيل بشأن هذا الحرف. فهو ينقل رأيا يشكك في تقديره: " ظل ساس متشككا، وكتب أن pe(ما زال التعرف عليه غير مؤكد)" (4). والحق أن الدلائل تشير إلى أننا مع حرفين مختلفين. فزاوية الحرف في النقش الأفقي أكثر حدة، في حين أنها أكثر انفراجا في النقش العمودي. كما أن اتجاهي الزاويتين متخالفان، كما يتضح من صورتيهما. وفوق ذلك، وهذا هو الأهم، فإن الشحطتين على يمين ذراع الحرف من النقش الأفقي يعتبران دليلا قويا على التغاير والاختلاف. فنحن لا نجد مثلهما في الحرف من النقش العمودي. فكأن كاتب النقش الأفقي راقب صورة الحرف في النقش العمودي، وأراد أن يبعد فكرة تشابه الحرفين فوضع الشحطتين الزائدتين. ولو صحت ملاحظتنا هذه فمن المفترض أن يكون النقش الأفقي قد كتب بعد النقش العمودي، وأن يكون كاتباهما شخصين مختلفين. هذا في أغلب الظن. إذ يمكن أن يكون قد جرى العكس. إذ لا يمكن استبعاد أن كاتب النقش العمودي هو الذي راقب النقش الأفقي فرأة أن عليه أن يجعل صورة الحرف مختلفة كي لا يجري الافتراض أنهما حرف واحد. وفي كل حال، يبدو لنا أن النقشين لم يكتبا في الوقت نفسه، وأن كاتبيهما مختلفان.
إذن، فنحن نرى أننا مع حرفين مختلفين، بقيمتين صوتيتين مختلفتين. وهناك من قرأ الحرف على أنه حرف جيم في الحالين. ونحن في الحقيقة نتفق معه جزئيا. فالحرف في النقش الأفقي هو فعلا حرف الجيم، كما نقدر، في حين أن حرف النقش العمودي هو حرف الفاء البائية فعلا. وفي الواقع يتقارب رمزا الحرفين g و p في الكتابة السامية القديمة في مرات كثيرة، وهذا هو سبب الخلط بينهما.
3- الحرف الثالث عشر من النقش الأفقي:
وقد رأى فيه دارنيل حرف شين، لكنه لم يحسم الأمر تماما بشأنه. في حين رآه آخرون كحرف فاء بائية، بسبب قرب شكله من شكل الفم. وقد اقترح هاملتون أن هذا الحرف ربما يكون حرف عين: "قراءة الحرف 1:13 [أي الحرف رقم 13 في النقش 1 الأفقي] على أنه عين ربما تكون القراءة الأفضل"(5).
ويدعم هاملتون رأيه بملاحظة محددة، وهي أن الحرف الرابع في النقش العمودي، وهو حرف مختلف عليه- وسوف سنتحدث عنه أدناه- ربما يكون هو المرشح لأن يأخذ مقعد حرف الشين. عليه، يصبح لدينا مرشحان لحرف الشين: حرف الشين.
والحق أن صورة هذا الحرف بها شبها ما مع صورة حرف العين في نقوش سرابيط الخادم. مع ذلك، فنحن نعتقد أن هذا الحرف هو حرف الواو (و). والحق أن دارنل ترك مجالا لمثل هذا الاحتمال الذي نفترضه. فقد صرح بأن هناك احتمالين آخرين للتعرف على هذا الحرف، أحدهما أنه: "سلف للعلامة التي صارت تمثل حرف الواو في التقاليد السامية الجنوبية"(6).والحق أن هذا الاحتمال هو الاحتمال الأفضل والأقوى. فحرف الواو في اللغات العربية الشمالية (لحيانية، ثمودية، صفائية) يأخذ شكلا مشابها لهذا الحرف في نقش أبي الهول، غضافة على قرب شكله من الواو فيالعربية الجنوبية. لكن ما يمنع من السير وراء هذا الاحتمال بسهولة هو وجود حرف الواو في النقش العمودي بناء على دارنل. وهو يأخذ صورة مختلفة عن صورة الحرف الذي نناقشه. وهو يأخذ الموقع السابع في النقش، وبهذه الصورة:
وكما نرى، فثمة خلاف كبير بين الحرفين. فالثاني بذيل طويل، أما الأول فمقطوع الذيل تماما. وهذا هو سبب الابتعاد عن فرضية أن الحرف الذي نناقشه في النقش الأفقي هو حرف الواو. لكن إذا تجاهلنا الذيل للحظة، وأخذنا رأس هذا الحرف من دون ذيله، فإنه يمكن تلمس شبه جدي بين الحرفين، كما نرى في الصورة أدناه:
[صورة رأس الحرف في النقش العمودي بعد أن دورناه، وإلى جانبه صورة الحرف في النقش الأفقي]
وكما نرى من الصورة فالتشابه شديد جدا، من دون وجود الذيل. وكي نوضح الأمر، فإنه يعتقد أن الأصل التصويري لحرف الواو هو العصا الملكية mace أو الوتد. ونحن نرى أن فرضية الوتد معقولة جدا. وفي هذه الحال، يكون الشكل الذي بلا ذيل قد أخذ الرأس المدبب المضلع للوتد، أي القسم الذي ينغرز في الأرض، في حين أن الشكل الثاني قد أخذ الوتد كله مطروحا أفقيا. أما الخط الذي يقسم رأس الوتد المدبب، فهو تصوير لتضليع رأس الوتد. ذلك أن الوتد يضلع ويدبب كي ينغرز في الأرض بسهولة. بالطبع يصلح هذا الكلام حتى لو كنا مع عصا (الميس). فهي في الواقع وتد كبير.
بالتالي، يمكن لنا أن نكون مع الحرف ذاته في الحالين، وفيالنقشين. وهذا يعني أنه كان ثمة تقليدان بشأن كتابة هذا الحرف منذ أيام نقش أبي الهول. ومن التقليد الأول، الذي يحذف الذيل، انبثق حرف الواو في الكتابة العربية الشمالية والجنوبية.
[حرف الواو في التقليد الأول، والحرف هنا مأخوذ من الأبجدية اللحيانية]
ومن التقليد الثاني، الذي يبقي الذيل، ويمثله الحرف إياه في النقش العمودي، انبثق اشكل الحرف في عدد من الأبجديات السامية الأخرى:
[حرف الواو في التقليد الثاني، تقليد النقش العمودي]
وفي كل حال، فإنه، وكما يقول هاملتون: (ليس من غير العادي أن يستعمل شكلان مختلفان، أو أكثر، لتمثيل الصوت نفسه، إما عن طريق استعارة أكثر من شكل... أو عن طريق الإبقاء على الشكل القديم بعد أن جرى تطوير شكل جديد" (هاملتون ص 3، هامش 1) (7).
4- الحرف الثاني في النقش العمودي:
وهو يتكرر مرتين في النقش نفسه آخذا الموقع الثاني والعاشر. وهو علامة تظهر لأول مرة في النقوش السينائية (السينائية المبكرة). بالتالي، فقيمته الصوتية غير مؤكدة بعد. أي أننا لا نعرف أي حرف من الأبجدية يمثل.
وقد اقترح دارنل أنه يمكن ان يكون حرف الثاء: "يمكن للمرء أن يقترح أن علامة العقال تمثل الصوت السامي الأسناني الأقل احتكاكية، والذي يمثله الصوت ث، بناء على التشابه القوي مع الحرف ث في الخطوط السامية الجنوبية" (8). لكن دارنيل لم يحسم الأمر نهائيا بشأن هذا الحرف، وترك الخيارات الأخرى مفتوحة.
والحق أن ثمة شبه ما بين الحرف ثاء اليمني وهذا الحرف. لكنه شبه ليس متينا. فالحرف اليمني يعطينا حلقتين متساويتين. كما أن الرابط بين الحلقتين مستقيم تماما.
بالطبع يمكن العثور على شبه أقوى مع شكل الثاء في المخربشات الصخرية في شمال الجزيرة أعلى، لكن هذانابع عن انحرافات الكتابة اليدوية. أما في كتابة المسند الهندسية المنتظمة، فإن الشبه ليس كبيرا جدا. وقد اقترح دارنيل أن الأصل المصري لهذا الحرف هو العلامة V13 التي تمثل الشكل، أي عقال الدواب:
غير أن هاملتون اقترح علامة مصرية أخرى كأصل لهذا الحرف، هي العلامة D 28.
لكن هذه الاقتراحات لا تفيد في تحديد القيمة الصوتية للحرف. ذلك أن الاستعارات السامية للأشكال من الكتابة المصرية القديمة لم تكن استعارة لقيمها الصوتية في العادة.
وقد بدا لهاملتون أن هذا الحرف قد يكون حرف الغاء. فنحن لم نعثر حتى الآن بشكل مؤكد على الحرف (غ) في الكتابة السينائية. بالتالي قد يكون هذا الحرف هو المرشح للحصول على مقعد الحرف الناقص.
أما نحن فنعتقد أن هذا الحرف هو الصاد وليس الثاء أو الغاء. ولإثبات صحة تحديد حرف ما يلزم أمران:
الأول: العثور على دليل شكلي من تاريخ تطور الكتابة يؤيد صحة هذا التحديد. فالحروف لا تنبثق هكذا من دون تاريخ، بل هي تمثل أشكالا لها رحلة تاريخية. لذا يجب العثور على أصل ما للحرف المفترض في سياق تطوره.
الثاني: أن يتم إثبات صحة تحديد الحرف بالملموس داخل نص ما. أي أن تؤدي قراءة النص بناء على هذا التحديد إلى نتيجة معقولة. بالنسبة للأمر الثاني فسيحين موعده حين نقرأ النقش ونترجمه. أما في ما يخص الأمر الأول، فيمكن لنا ان نقترح وجود علاقة بين هذا الحرف وبين العلامة 0077 في الهيروغليفية المينوية، كما تظهر صورتها أدناه:
[9]
وهي ترسم أحيانا من دون النقاط في داخلها، كما في هذا النموذج من آرنست دوبلهوفر:
[10]
ولو قلبنا صور هذه العلامة ووضعناها قرب حرف نقش أبي الهول لاتضح الشبه الكبير بينهما:
ويبدو لنا أن هذه العلامة هي في الأصل تمثيل لثمرتي صنوبر. دليل ذلك أنها تظهر منقطة، وهو ما يشير إلى محاولة لتمثيل فرزات ثمرة الصنوبر. وإذا صح فإنه يكون قد جرى تحديد سبب تسميتة حرف الصاد بهذا الاسم. فمن وضع رسوم الحروف استخدم صورة كوز الصنوبر لتمثيل الصوت (ص)، لأن اسم الصنوبر يبدأ بحرف الصاد. وهو ما مع الصوت (ن). فقد أخذ صورة (نحش)، أي الحية، كي تمثل الصوت نون، الذي هو الصوت الأول في كلمة (نحش). وحسب رأي أبي عبيد فإن الصنوبر اسم الثمرة في الأص وليس اسم الشجرة: إِنما الصنوبر ثمر الأَرْزِ فسمي الشجر صنوبراً من أَجل ثمره.
غير أن لدينا هنا مشكلة. إذ يفترض أنه جرى التعرف على حرف الصاد في النصوص التي عثر عليها في سيناء، وهو يأخذ، عموما، الشكل أدناه:
غير أنه يمكن إيجاد حل لهذه المشكلة. فهذا الشكل يمثل أيضا صورة كوز صنوبر منفردة. أما الذراعين اللتين تخرجان من الثمرات فهي رمز لفرزات الثمرة عندما تنفتح لتخرج البذور.
[ثمرة الصنوبر عندما تتفتح]
وقد أخذنا صورة الحرف صاد أعلاه من وفي النقش السينائي رقم 357 نجد تحت هذا الحرف علامة تبدو جزءا من الحرف. وهو ما يعني أن لهذا الحرف شكلين في الكتابة السينائية في سرابيط الخادم، واحد منهما مختصر. والنسخة غير المختصرة تعطي دفعا قويا لفرضيتنا. فهي في الواقع تشبه إلى حد لا بأس به صورة كوز الصنوبر الواقعية:
بناء على هذا، يفترض أن تكون هناك طريقتان لرسم هذا الحرف؛ الأولى عبر تصويره كثمرتي صنوبر شقيقتين، والثانية كثمرة منفردة. ويبدو أن التقليد الأول أقدم في الزمن.
وأدناه صورة تجمع حرف نقش وادي الهول مع العلامة الكريتية، وحرف الصاد في نقش سيناء 357، وحرف الصاد اللحياني. وقد قلبنا العلامات في العمود علي يسارنا، كي يمكن مقارنة العلامات مع الصاد اللحيانية التي تكتب (مقلوبة).
ولاحظ في الصورة أدناه التقارب بين الصاد الثمودية وبين العلامة الكريتية.
الفارق هو أن ثمرتي الصنوبر في الصاد الثمودية لم تكتملا تماما. وحين تكتملان نصير مع العلامة ذاتها تقريبا.
قراءة النقش الأفقي
بناء على كل ما سبق، نبدأ بقراءة النقش الأفقي المكون من 16 حرفا.
نعتقد أن هذا النقش يتكون من ثلاث كلمات فقط. لكن السؤال هو: كيف يتشكل نقش من 16 حرفا من ثلاث كلمات فقط؟ والجواب يكمن في أن الكلمتين الأولى والثالثة يتكونان من اسمين مركبين، أي أنهما كلمتان مزدوجتان. وهذا يعني أننا مع خمس كلمات في الواقع الفعي.
الكلمة الأولى: ربلن- سنه
والكلمة اسم مركب من كلمتين. وقد وضعنا من عندنا خطا بين الاسمين- الكلمتين كي تتضح حدودهما. الاسم الأول منهما مكون من أربعة أحرف هي: ر ب ل ن (ربلن):
ونعتقد أن هذا الاسم يجب أن يقرأ (رَبلان) من جذر (ربل) الذي يعطي معنى الضخامة والسمنة والكثرة وخفض العيش في العربية: "الرَّبَال: كثرة اللحم والشحم، وفي المحكم: الرَّبالَة كثرة اللحم. ورجل رَبِيل: كثير اللحم ... وامرأَة رَبِلة ومُتَرَبِّلة: كثيرة اللحم والشحم. والرَّبِيلة: السَّمَن والخَفْض والنَّعْمة... والرَّبِيلة: المرأَة السمينة... ورَبَل بنو فلان يَرْبُلُون: كثر عددهم) (11). بالتالي، يمكن أن يكون معنى الاسم: المنعّم، أي الخفيض العيش، او الضخم اللحيم بالمعنى ذاته.
أما الاسم الثاني فمكون من ثلاثة أحرف: س ن هـ: (سنه)، كما في الصورة أدناه.
ونعتقد أن هذه الاسم مصري، وليست ساميا. هذا يعني أن الاسم الذي نحن بصدده مركب من اسمين؛ الأول سامي والثاني مصري صميم. فـ (سنه) هذا هو نفسه الاسم سنوهيSinuhe ، اسم بطل القصة المصرية القديمة الشهيرة جدا (قصة سنوهي)، التي يعود تاريخا إلى حوالي 2000 ق.م. لكن لأن الكتابة السامية تهمل الحركات، فإننا نحتاج إلى إضافة الحركات إلى الاسم كي تتضح معالم الاسم فيكون أمامنا (سنوهي) بشحمه ولحمه.
وهذا الاسم، بتركيبته السامية- المصرية، يدعم فرضية أن الأبجدية كانت على علاقة بساميين مقيمين في مصر، سواء كانوا جنودا في الجيش المصري، او موظفين مع هذا الجيش، او عمالا في بعثات التنجيم. وبناء على قراءتنا، فقد كان هؤلاء في ما يبدو يعطون أنفسهم، أو يعطيهم المصريون القدماء، اسما مصريا إضافة إلى اسمهم السامي، الأمر الذي جعلنا نحصل على مثل هذا الاسم المزوج.
لكن من المحتمل أن مثل هؤلاء الناس ولدوا في مصر فأعطاهم آباؤهم اسما ساميا- مصريا. فبين المصرين يكون اسم كاتب النقش الأفقي (سنوهي)، وبين الساميين يكون (ربلان). بناء عليه، لا يستبعد ان يكون هذا الرجل، كاتب النقش، قد ولد في مصر. كما لا يستبعد أن أمثاله كانوا نتيجة زواج مختلط سامي- مصري.
الكلمة الثانية: نجس
وكلمة (نجس) في النص تعود إلى جذر شبيه بجذر (نجس) العربي الذي يعني: الرقي والتعويذ. بالتالي نعتقد أن كلمة (نجس) في النص تعني: المعَوِّذ. فالمنَجِّس في العربية هو المعوِّذ الراقي: "إذا جاءَ القدر لَم يُغن المُنَجّم ولا المُنَجِّس" (12). أما المنجًّس، بالفتح، فهو المريض الذي يتم تعويذه ورقيه. وتسمى عملية الرقي والتعويذ باسم التنجيس: "التَّنْجِيس: شيء كانت العرب تفعله كالعوذة تدفع بها العين؛ ومنه قول الشاعر: وعَلَّق أنْجاسا عليَّ المُنَجِّس" (13). وشطر البيت لأبي ذؤيب الهذلي:
فلو كان حولي حازيان وطارق
وعلّق أنجاسـا عـليّ الـمـنـجـس
الحازي والطارق طرازان من العرافين المتنبئين. أما الأنجاس هي العظام وخرق الحيض، وغيرها من المواد التي يعتقد أنها نجسه. ذلك أن عملية التعوذ كانت تجري عبر تعليق مثل هذا المواد، على الشخص المريض، أو الشخص المعرض لخطر العين. فالتنجيس بالأقذار يبعد الشر: "الليث: المُنَجَّس الذي يعلَّق عليه عظام أَو خرق. ويقال للمُعَوِّذ: منَجِّس، وكان أَهل الجاهلية يعلِّقون على الصبيّ ومن يخاف عليه عيون الجن الأَقذارَ من خِرَقِ المَحِيض ويقولون: الجن لا تقربها) (14). يضيف: (ابن الأَعرابي: من المَعاذات التَّمِيمة والجُلْبَة والمنَجِّسة) (15).
وثمة تشوش في المصادر العربية أحيانا بين المنجَّس، بكسر الجيم، والمنجِّس بفتحها. ومن الواضح أن الأول يعني الراقي، والثاني المرقي. ويجمع المنجس على منجسين. لكن هناك جمع آخر وصلنا وهو: نُجُس: "ثعلب عن ابن الأعرابي قال: النُّجُس: المعوذون"(16). ومفرد نجس، اشتقاقا، يجب أن يكون: ناجس، أو نِجاس، مثل كتب وكتاب. لكن لم يرد هذا المفرد سماعا. غير أنه من المحتمل أنه ورد، ولم يتم الانتباه لذلك. فقد ورد نَّجاس بكسر النون وتشديدها، وقد فهم على أنه يعني عملية التنجيس- التعويذ: "والنِّجَاس، بالكسر: التعويذ، عن ابنِ الأَعرابي، قال: كأنه الإسم من ذلك" (17). ونظن أن النجاس بالكسر أو بالفتح هو مفرد نُجُس، وليس اسم عملية التعويذ. ونعتقد أن هذه الصيغة (نجاس)، بالكسر أو بالفتح، هي التي وردت في النقش. عليه، فنجاس في النقش صفة لربلان- سنوهي، تعلمنا بمهنته. فهو طبيب منجّس يعوذ بالخرق والعظام. أي أنه طراز من شامان ما.
الكلمة الثالثة: هـ- أوس- خر
وهذه الكلمة أيضا في اعتقادنا مركبة أيضا من اسمين اثنين، إضافة إلى (هاء) التعريف التي هي مثل (أل) التعريف العربية. وقد قطعناها بشكل يوضح تركيبها. وقد اعتقد بعضهم أن الهاء هنا، وهي تمثل شخصا يحرك يديه، هي آيديوغرام، أي رمز يشير إلى كلمة تمثل معنى أو مفهوما محددا بالتالي، فعلينا أن نقرأ الهاء هنا على أنها تعني: تهليل، او فرح. لكننا نرى أن الرمز هو حرف الهاء، هاء التعريف السامية المعروفة. أما الاسم الذي يأتي بعدها الأولى فهو (أوس):
وأوس اسم سامي شهير جدا من الجزيرة العربية، ما زال شائعا بيننا حتى الآن. وهو كذلك جد لقبيلة، أو عدة قبائل عربية معروفة. كما أنه اسم إله معروف أيضا. فقد وردت في النقوش اللحيانية اسماء مثل: (أمت أس، عبد أس، هن أس) (18). و(أس) هي أوس لكن مع سقوط الحركة الطويلة، أي حرف العلة.
أما الاسم الثاني فمكون من حرفين، الحرف الثاني منهما الراء، كما رأينا سابقا. أما الأول فهو الخاء حسب من المختصين.
يقول دارنل:"القيمة الصوتية المقبولة عموما لهذه العلامة هي الخاء (وذلك على عكس استعمالها في المصرية كتمثيل للحاء)، وقد استخلصت [هذه القيمة] من اسم هذا العلامة في اللغة الأثيوبية (خارم: لفّات حبل، أو نسيج). وقد قرأ أولبرايت كلمة أرخت (بقرة وحشية) في نقوش سرابيط (333، 365 ب، 375)، مانحا ثقله لهذا التقدير" (19).
بالتالي، فالكلمة تقرأ هكذا: (خر). وهذا هو، في ما نعتقد، اسم الإله حورس المصري. فهو (حر) بالمصرية القديمة حسب ما يقول المختصون. لكنه منطوق هنا بالخاء. فلماذا؟
نحن هنا أمام أربعة احتمالات:
الأول: أن بعض الساميين المقيمين في مصر في ذلك الوقت، أو بشكل أدق بعض لهجاتهم، كانت، لسبب ما، تنطق اسم حورس بالخاء؟
الثاني: أن علينا أن نقرأ هذا الحرف حاء لا خاء، أي ان الكاتب استخدم هذه العلامة بقيمتها الصوتية المصرية في هذا النقش بالذات، وليسبقيمتها الصوتية السامية. أي أنه استعملها كحاء لا خاء. بذا، فعلينا أن نقرأ الاسم على أنه (حر) وليس (خر). ورغم أن هذا غريب نوعا ما، أو أننا لم نجد شواهد مثله، لكنه ليس مستحيلا. خاصة إذا صحت الفرضية التي تجعل من هذا النقش الأبعد في الزمن من النقوش السينائية. أي أنه الأقرب إلى ساعة مولد الألفباء، حيث القوانين لم ترسخ تماما بعد.
الثالث: أن هذا الحرف كان ينطق بين الحاء والخاء، بحيث يمكن أن ينحرف فيصير حاء أحيانا، وخاء أحيانا أخرى.
الرابع: أن هذا الحرف ليس حرف الخاء بل شكل آخر من حرف الحاء. وهذا أضعف الاحتمالات.
وعلى كل حال، فثمة في العربية ما قد ينبئ عن احتمال أن اسم حورس المصري ربما كان ينطق أحيانا بالخاء إضافة إلى الحاء. إذا لدينا طائر الحرّ: "الحُرُّ: الصقر، وقيل: هو طائر نحوه، وليس به، أَنْمَر أَصْقَع قصير الذنب عظيم المنكبين والرأْس؛ وقيل: إِنه يضرب إِلى الخضرة وهو يصيد" (لسان العرب). ومن الواضح أن هذا الصقر هو صقر حورس (حر). لكن لدينا أيضا طائر يدعى الخرار لعله هو أيضا على علاقة بحورس. ووصفة يوحي بأنه صقر ما أو قريب من الصقر: (الخرَّارة: طائر أَعظم من الصُّرَد وأغلظ، على التشبيه بذلك في الصوت، والجمع خرَّار؛ وقيل: الخرَّار واحد؛ وإِليه ذهب كراع" (20). بالتالي، فقد يكون لفظ اسم حورس بسامية ذلك الوقت البعيد شيئا ما بين الحاء والخاء. أو قد تكون هناك لهجة تنطق اسمه بطريقة أقرب إلى الخاء منها إلى الحاء.
عليه، يكون الأوس- خر الذي نناقشه هنا اسما مركبا من اسمي الإلهين: السامي (أوس) والمصري (خر، أو حر) مع أداة التعريف. و أوس- خر هذا ينبغي أن يكون اسما لمكان ما. وهو إما معبد، او معسكر دائم، او قرية ما من قرى السكان الساميين في مصر، كان ربلان- سنوهي يمارس فيها طبه الشاماني. دليل ذلك وجود هاء التعريف. فلو أن مقصود النقش أن يقول: (معوّذ الإلهين أوس- خر) لما كان في حاجة لأداه التعريف (الهاء).
على كل حال، فتسمية أوس- خر تشير إلى مماهاة الساميين الذين نحن بصددهم لإلههم الشهير أوس بالإله المصري حورس. أي أن أوس= حورس، وحورس= أوس عندهم. بناء عليه، ربما تكون هذه هي المعلومة الوحيدة المهمة التي نملكها عن الإله أوس. إنه إله يشبه حورس في طبيعته.
انطلاقا من هذا، يكون معنى النقش هكذا: "ربلان- سنوهي معوّذ [منطقة] أوس- حر"، سواء كانت هذه المنطقة معبدا، أو قرية، أو معسكرا. وهذا يعني أن النقش الذي نناقشه هو، في الواقع، توقيع شخصي، وإعلان تجاري، كتبه معوذ على صخرة يعلن فيه عن حرفته، وعن مكان ممارستها لمن يرغب. إنه (يافطة) طبيب- شامان، اسمه ربلان- سنوهي، فمن يحتاجه فسيجده في مكان عمله في: أوس- خر. هذا المعوذ جاء، أو جاء أهله من قبله، إما من شمال الجزيرة العربية. أو من منطقة ما في جنوب فلسطين مرتبطة مباشرة بشمال الجزيرة العربية. أي أننا مع شخص عربي، أو عربي مبكر، عاش قبل أربعة آلاف سنة على الضفة الغربية للنيل في مصر، وكتب لنا على الصخرة نقشا بالألفباء الأولى في التاريخ، وهي الألفباء التي أصبحت ألفباء غالبية لغات الأرض التي نعيش عليها.
أخيرا، لنفترض أن الحرف الذي قرأناه على أنه (واو) كان شينا كما يرى دارنيل. حينها سنكون مع (أشس) لا مع (أوس). وأشس ربما يكون على صلة مع الاسم العربي (شأس) أو (أشأس) بمعنى الشجاع. لكننا نميل بشدة إلى أن الاسم هو (أوس).
إذن، وفي كل حال، فلسنا في هذا النقش مع نقش نذري على علاقة بتقدمة للآلهة، كما هو الحال في اغلب نقوش سرابيط الخادم. بل مع نقش شخصي جدا. ومن هنا تنبع فرادته في الحقيقة.
النقش العمودي:
النقش العمودي مكون من 12 حرفا. ونحن نرى أنه مكون من ثلاث كلمات أيضا، نقطعها بالطريقة ادناه.
الكلمة الأولى: مصطر
الحرف الثالث هو التاء. لكننا نعتقد أن هذا الحرف كان ينطق تاء أو طاء حسب اللهجات. فحرف الطاء لم يتبلور كحرف منفصل إلا لاحقا. بذا فهذه الكلمة من جذر شبيه بجذر (سطر) العربي، الذي له صيغة أخرى هي (صطر)، وكلاهما يعطي المعنى ذاته. أي أن الكلمة يجب ان تكون: (مصطر).
إذا صح هذا، فنحن مع احتمالين من حيث معنى هذه الكلمة:
الأول: انها تعني مصيطر، أو مسيطر، وهما بالمعنى ذاته في العربية. والمسيطر هو المسؤول أو المشرف:
"المسيطر والمصيطر: المسلَّط على الشيء ليشرف عليه، ويتعهَّد أحواله، ويكتب عمله. وأصله من السطر، لأن الكتاب مُسطَّر والذي يفعله مُسَطِّر ومُسَيْطِر. يقال: سَيْطَرْتَ علينا. وفي القرآن: لست عليهم بِمسيطر؛ أَي مسلط" (21).
وكما نرى فلمصادر العربية تربط بين السيطرة والكتابة. فالمسيطر يحمل معنى من يشرف ومن يكتب ويسجل. بالتالي، لعل الكلمة في النقش أن تحمل في طياتها هذا المعنى أيضا. أي أنها تعني المسيطر- الكاتب.
الثاني: أن الكلمة على علاقة بكلمة (مسطار، مصطار) التي تعني النبيذ أو عصير العنب على اختلاف اللغويين:
"المُصطار من أَسماء الخمر التي اعتُصرت من أبكار العنب حديثا" (22).ونقلا عن الأزهري يضيف اللسان: "المُصْطار من أَسماء الخمر التي اعتُصرت من أبكار العنب حديثا، بلغة أَهل الشام) (23). وهو ما يؤيده وصف عدي بن زيد لخمرته بأنها: "عتيقّ غير مسطار". أي معتقة قديمة وليست حديثة. لكن هناك من يرى أنها تعني عصير العنب: "مسطار: سلافة العنب" (24).
في كل حال، وسواء كانت كلمة مسطار، أو مصطار، تعني النبيذ الجديد أو القديم، أو كانت تعني عصير العنب، فإن من المحتمل جدا أن لها علاقة بالكلمة التي نناقشها في نقش أبي الهول العمودي. لكن سوف نترك أمر المعنى الدقيق لها بعد التعرف على الكلمة التالية، المرتبطة بها.
الكلمة الثانية: هعوت
يبدو أن هذه الكلمة الغريبة من جذر شبيه بالجذر العربي (هاع) الذي يعني: ذاب وسال. وهي على ارتباط بذوبان الرصاص وانصهاره خاصة، كما يقول بعضهم:
"هاعَ الرصاص هَيَعانا: ذاب. ويقال: رصاص هائع في المِذْوَب" (25). وفي اللسان: "الهَيْعة: سيلان الشيء المصبوب على وجه الأَرض... وخص بعضهم به ذوبان الرصاصِ، والرصاص يَهِيعُ في المذْوب" (26).بالتالي، ربما كان علينا قراءة الكلمة هكذا: (هيعوت). وهذا ما يجعلها مثيلا للكلمة العربية (هيعة)، التي تعني التذويب والصهر والإسالة. والاختلاف فقط هو تحول الكسرة الطويلة، أي الياء، إلى ضمة طويلة، أي إلى واو. لكن من المحتمل أن (هيعوت) صيغة مبالغة ما من (هاع) على وزن (فعلوت)، بمعنى المكان الذي يجري فيه (تهييع) الأعناب، أي عصرها من أجل النبيذ، أو (تهييع) الرصاص، أي تذويبه وصهره. أي أنها كلمة بمعنى المعصرة، او مصهر الرصاص ومذوبه.
وإذا كان الكلمة الأولى عديل (مصطر)، بمعنى مسؤول أو رئيس، فنحن مع (مسؤول مصهر الرصاص)، أو (مسؤول المعصرة). وإذا كانت الكلمة (مصطار) بمعني نبيذ، فنحن مع جملة (معصرة نبيذ) أو (معصرة عنب النبيذ)، أي أن الأمر لا يتعلق بالرصاص، بل بالعنب وعصيره.
ولا نستطيع أن نحسم أي الأمرين أراد النقش. لكننا أميل قليلا إلى الاحتمال الأول (مسؤول مصهر الرصاص)، بمعنى رئيس ورشة الصهر. وهذا يعني أننا مع نقش خاص، أي مع توقيع خاص لرجل محدد، كما في النقش الأفقي. ولو كنا مع (معصرة النبيذ) فإن الكتابة تكون كتابة عامة. فالمعصرة هي التي تعلن عن نفسها، وتدل القادمين إليها، سواء كانوا عمالا يجلبون العنب، أو مشترين، أو طالبي عمل، على مكان وجود المعصرة.
الكلمة الثالثة: فص- إل
وهي كلمة مركبة من كلمتين. وقد رأينا كيف أن دارنل قرأ الحرف الأول منها على أنه باء فائية p. ونحن نوافق على ذلك. بالتالي فنحن مع: كلمة مركبة هي: (فص- إل) أي (فصئيل). وهذا اسم سامي معروف تماما. فقد ورد مثلا أكثر من مرة في النقوش النبطية: "ووجد نقش آخر في مدينة عبده ونشره أ. نجف ويذكر "عبادة وفصئيل وسعودة أبناء الحارثة) (27). ويعتقد أن هؤلاء، ومن بينهم فصئيل، هم أبناء الحارثة الرابع ملك الأنباط. وفي نقش آخر "من النقوش الموجودة في مدينة البتراء والمؤرخة لسنة 29 لحكم الحارثة، يحتوي: "وشقيلة شقيقته، ملكةالأنباط، ومالك وعبادة ورابيل وفصئيل وسعودة وهجرو أبناؤه، والحارثة بن هجر وحفيده" (28). والاسم رابيل يذكر أيضا بربلان في النقش الأفقي. ونعتقد أن الاسم فصئيل يضعنا أمام احتمالين:
وكلمة (فص) من جذر (فصص)، الذي يعطي عدة معاني: الأصل والجوهر، المخرج، حدقة العين، حبب الماء أو الخمر، وفص الخاتم: (فَصُّ الشيءِ: حقيقته وكنهه... يقال: أَنا آتيك بالأَمر من فَصِّه يعني من مخرجه الذي قد خرج منه... وفَصُّ العينِ: حدقتها. وفصُّ الماء: حَبَبُه. وفَصُّ الخمرِ: ما يُرى منها" (29). بالتالي، قد يكون الاسم في الأصل عني: عين الله، أو شيئا من هذا القبيل.
في كل حال، فنحن مع (مصهر رصاص فصئيل)، او (معصرة نبيذ فصئيل). وفصئيل تكون هناك منطقة ما؛ بلدة، أو معمل، أو شيء من هذا القبيل. لكن إذا كانت كلمة (مصطار) تعني: الرئيس المسؤول، فمن المحتمل أن يكون فصئيل هو اسم هذاالرئيس، الذي هو صاحب النقش: (مسؤول المصهر، او المعصرة، فصئيل). وفي الجملة تقديم وتأخير. أي أنها في هذه الحالة يجب أن تقرأ هكذا: (فصئيل رئيس المصهر)، أو (فصئيل رئيس المعصرة).
لكن لو فرضنا أن الحرف الثاني هو حرف جيم وليس حرف فاء، فسنكون مع: جص- إل. والجذر جصص يعطي معنى: التجصيص والتطيين، أو معنى الحمل في الحرب، أو تفتيح الأعين، والخروج والنبوز: "جَصَّصَ الحائطَ وغَيره: طلاه بالجِصّ.... وجصّصَ الجِرْو وفَقَح إِذا فتحَ عينيه. وجَصّصَ العُنْقودُ: هَمَّ بالخروج. وجَصّصَ على القوم: حَمَلَ. وجَصّصَ عليه بالسيف" (30). بالتالي، فالكلمة تعني ربما في الأصل شيئا قريبا من جندي الله. لكنها هنا اسم. وهي اسم لمصهر الرصاص اومعصرة العنب- الخمر: رئيس مصهر (أو معصرة) جش- إل. أو: "جش- إل رئيس المصهر أو المعصرة.
بالتالي، فالنقش يدعم الفرضية القديمة عن عمال ساميين في المناجم المصرية، لكن ليس في سيناء بل في الصحراء وراء الضفة الغربية لنهر النيل.
وفي النهاية، فإن ترجمتنا، إن صحت، تؤكد بشدة اقتراح دارنيل بوجود علاقة ما بين الأبجدية (ما قبل السينائية) وأبجديات الجزيرة العربية. بل إنها تذهب إلى أبعد من ذلك، أي إلى أن ثمة صلة رحم بين اللغة العربية ولغة نقوش وادي الهول. وإذا اردنا أن نحكم حكما سريعا فإنه يمكننا ان نفترض أن لغة النقشين ربما كانت على علاقة وطيدة جدا بلغات شمال الجزيرة العربية، أي اللغات اللحيانية، الديدانية، الثمودية، الصفائية- الحسمانية. أي أنها لغة شبه عربية، أو ما قبل عربية. بالتالي، فأجداد اللغة العربية كانوا في قلب مصر قبل اربعة آلاف عام على أقل تقدير.