لا يغيب الناشر السوري عن سوق الكتب العربية في معظم معارضها؛ لكنه غائبٌ بشكلٍ شبه تام عن بلاده؛ مرغماً لا بطل؛ فالكتب في دمشق وحلب وحمص واللاذقية وسواها من المدن تعوم على الأرصفة والأكشاك والشاحنات؛ كتبٌ لبشرٍ ماتوا أو هُجِّروا أو نزحوا عن مدنهم؛ تاركين وراءهم بيوتهم ومكتباتهم ودور نشرهم وأحلامهم؛ ومن قال أن الكتب ليس لها استخداماتٌ أخرى في زمن الحرب؛ هكذا على الأقل صنعت منها الممثلة الفرنسية جولييت بينوش درجاً بدل الأدراج المهترئة في فيلم " المريض الإنكليزي" الذي لعبت بطولته عن رواية مايكل أونداتجي الشهيرة.
أما في المدن السورية؛ فقد تحوّلت مخازن بعض دور النشر إلى مستودعات ذخيرة وأسلحة ومخطوفين وخنادق للنزاع الدائر منذ أربع سنوات تقريباً؛ داخلةً بذلك سِفر خروجها الأقسى من خارطة النشر العربية. من بقي اليوم فهو ما زال يقاوم حقيقة مريرة للغاية؛ حيث استعاض هؤلاء عن الدمغة السورية على كتبهم؛ ليحصلوا على تراخيص لبنانية أو مصرية أو إماراتية أو حتى مكسيكية؛ وذلك ليتمكنوا من المشاركة في معارض الشارقة وأربيل والرياض وأبو ظبي والقاهرة وسواها؛ لا سيما في ظل صمت تام لأي دور متوقع من اتحاد الناشرين السوريين؛ هذه المؤسسة التي لم يكن لها دور قبل الحرب؛ ولا بعد وقوعها؟.
النشاط الأخير لهذا الاتحاد كان منذ أكثر من ثلاث سنوات في معرضه الثالث الذي كان مقرراً إقامته في منتصف نيسان - 2011؛ لتؤجله الحرب إلى أجل غير مسمى؛ وقتذاك، دفع أصحاب الدور المشاركة ما يترتب عليهم من أجور الحجوزات في حديقة الجلاء في قلب العاصمة السورية؛ لإقامة الدورة الثالثة من ملتقاهم الذي أسموه "ربيع الكتاب" دون أن يضمن لهم أحد حق استرجاعها؛ فيما قاطع بعض المثقفين الدورة الأخيرة لمعرض دمشق للكتاب في نسخة 2011 الذي حمل شعار: "سورية بخير" فبعد سبعةٍ وعشرين عاماً من تاريخ انطلاق هذه الفعالية التي كانت قبلة الناشرين العرب؛ توقف معرض دمشق عن استقبال زواره؛ خاصةً أن أرض المعارض على طريق مطار دمشق الدولي؛ مكان إقامة هذه الفعالية تحولت إلى أكبر ساحة حرب في ريف دمشق؛ مخلفةً وراءها عشرات الضحايا والكتب المؤجلة عن روايات سيكتبها السوريون في قادم أيامهم.
الهيئة العامة للكتاب
اتحاد الناشرين التابع لوزارة الإعلام لطالما طالب أصحاب دور النشر بأن يكون تحت إدارة وزارة الثقافة؛ لكن الاتحاد بقي بعيداً عن أي تأثير يمكن له أن يحدثه في إستراتيجية نشر وطنية؛ في حين ما زالت وزارة الثقافة تنظّم معرضاً دائماً للكتاب في معظم الجامعات السورية، لا سيما جامعة دمشق؛ حيث يضم هذا المعرض أعداداً كبيرة من العناوين التي تطبعها الهيئة العامة السورية؛ دار النشر الرسمي الذي ما زال صامداً حتى الآن؛ رغم غلاء سعر الورق -"سعر الملزمة الواحدة يصل إلى عشرة آلاف ليرة - 50 $" وضعف التوزيع؛ لتحتكر الهيئة معظم الجهات المعنية بالتأليف والترجمة والنشر والطباعة عبر مديريات التأليف والترجمة والمطبوعات وإحياء التراث العربي، ومديرية منشورات الطفل والتخطيط والمعلوماتية وغيرها من المديريات التابعة لها؛ إضافة إلى المجلات والدوريات التي توزعها الهيئة مجاناً على المكتبات العامة؛ لكن آلية التوزيع في الهيئة العامة للكتاب ما زالت تعاني من نقطة ضعف قديمة ومزمنة في مجال التوزيع.
فليس لدى وزارة الثقافة ولا لدى الهيئة شبكات توزيع واسعة على نطاق المناطق السورية كافة، خصوصاً في ظل خطورة التنقل وشحن الكتب بين المدن؛ فالهيئة توزع إصداراتها على كوى البيع في المراكز الثقافية؛ أضف إلى أنه لا توجد مؤسسة توزيع خاصة بتوزيع الكتب. صحيح أن الشركة السورية لتوزيع المطبوعات بدأت حديثاً بالعمل في هذا المجال؛ لكن شركة المطبوعات تظل شركة حديثة العهد بتوزيع الكتب، ولو أن لها تجربة عريقة في مجال توزيع الجرائد والمجلات، ومرسوم إحداث هذه الشركة يُلزم الجهات العامة الناشرة للكتب بالتعامل معها حصرياً في مجال التوزيع، وهذا ما أوقع الكتاب السوري في مطب جديد؛ فبعد توقيع هيئة الكتاب عقداً مع مؤسسة المطبوعات على أمل أن تصل الكتب إلى جميع المكتبات السورية المتاحة، تم توزيع إصدارات الهيئة على أكشاك بيع الصحف والمجلات! لتأتي النتائج كارثية، فمشتري الكتب غير مشتري الصحف والمجلات.
هذا بالإضافة إلى أن الحسم على الكتب الذي تدعمه هيئة الكتاب تقلّص من أربعين في المائة إلى خمس عشرة بالمائة وأقل، مما فاقم أزمة الكتاب أضعافاً مضاعفة؛ تاركاً مساحة المنافسة من جديد بين كتلتي نشر رئيستين في البلاد: الأولى هي كتلة دور النشر ذات التوجه العلماني في عناوينها؛ وأبرز هذه الدور التي انقطعت أخبار أصحابها بعد نزوح معظمهم إلى الخارج هي " كنعان، ورد، بدايات، التكوين، أطلس، قدمس، رفوف، ممدوح عدوان، الحوار، الجندي، الفرقد؛ أرواد" فيما يترأس "دار فكر" في قلب العاصمة الكتلة الثانية من دور النشر التي يغلب على منشوراتها طابع الكتب الإسلامية؛ وتقع معظمها في حي الحلبوني بدمشق. مفارقة تركت أثرها في حركة النشر السورية؛ فدور النشر التي كانت تطبع قبل الحرب ما يقارب الخمسة وثلاثين عنواناً صارت تطبع اليوم من خمسة إلى عشرة عناوين. حركة الترجمة التي كانت آخذة بالنمو قبل الحرب مثلها مثل حركة التأليف؛ تراجعت هي الأخرى، حتى وصلت الأزمة ببعض الكتّاب والمترجمين إلى الاقتصار في طباعة مؤلفاتهم على إنجاز نسخة رقمية يوزعونها على أصدقائهم في انتظار نسخ ورقية منها؛ لا سيما الشعراء والروائيين الذين وجد بعضهم في طباعة كتبهم ضربا من المجازفة، فاقتصرت أعداد النسخ التي طبعوها على نفقتهم الخاصة من مؤلفاتهم على مئتين وخمسين نسخة فقط؛ توزع أغلبها كإهداءات على المعارف والأصدقاء. من هنا تعطي الإطلالة على عالم النشر في سوريا صورة قاتمة ومحزنة؛ بل إن المطابع الكبرى للكتب تمت سرقتها من معظم المدن السورية، لا سيما مدينة حلب؛ ناهيك عن تحول معظم جمهور القراء إلى معتقلين ومخطوفين ومهجرين وموتى، أما من تبقى من هؤلاء فما زال يعتمد على بسطات الكتب المستعملة التي تنتشر بكثافة على أسوار الجامعات والأسواق العامة كشريطٍ طويل من حزن ورقي مبلل بالدماء والدموع.