Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

حوار موسّع مع فواز طرابلسي عن الثورة السورية

$
0
0

اتخذ فواز طرابلسي المفكر والكاتب اللبناني والمناضل اليساري العتيد، مواقف واضحة في دعم الثورات العربية، فواكبها مُتابعاً وكاتباً ومُحللاً، توج هذا في كتابه "الديمقراطية ثورة" (2012). وقد شغل طرابلسي، الأستاذ الجامعي والمؤرخ، موقع المثقف الفاعل لا المراقب فحسب في لحظات مفصلية في تاريخ المنطقة المعاصر من لبنان إلى اليمن. من مؤلفاته: "عن أمل لا شفاء منه، دفاتر حصار بيروت" 1982. "الماركسية وبعض قضايانا العربية" 1985. "وعود عدن – رحلات يمنية" 2000. "تاريخ لبنان الحديث" 2008. وله عدد من الترجمات القيّمة لجون ريد وأنطونيو غرامشي وجون برجر وإدوارد سعيد. الشأن السوري يشغل الحيز الأكبر من هذه المقابلة، بما في ذلك الأدوار الدولية والإقليمية المتداخلة في الملف السوري، وعلى رأسها طبيعة الدور الأميركي. إضافة إلى أداء المعارضة السياسية. الحوار يتطرق أيضاً للعلاقة الشائكة التي تربط أطرافاً لبنانية مختلفة بالثورة السورية. إضافة إلى رصد موقع اليسار من الثورات العربية والثورة السورية على وجه الخصوص، وكذلك دور المثقفين وموقعهم.أُجري الحوار في بيروت.

محمد العطار: مع اقتراب الثورة السورية من إتمام عامها الثاني، في ظل تصعيد العنف بشكل غير مسبوق من قبل آلة النظام العسكرية المنفلتة من كل عقال، وفي المقابل هناك اشتداد لذراع المقاومة العسكرية للمعارضة، لكن دون أن يلوح في الأفق القريب أي قدرة على حسم عسكري. أما المشهد السياسي، فلم يبدو يوماً أشد تعقيداً مما يبدو عليه اليوم. كيف تقرأ الوضع السوري الراهن وتطوراته المُحتملة؟

فواز طرابلسي: من البداهة القول أن الأزمة السورية الدموية شديدة التعقيد. لكن التعقيد لا يعني استحالة التفكير فيها وتفكيكها إلى عناصرها الأولية ومحاولة رصد اتجاهات تطورها. في العام المنصرم، الذي لم يختلف كثيراً عن العام الذي سبقه، وتحديداً منذ اندلاع الاحتجاجات السلمية التي طالبت بإصلاحات محدودة، أبرزها إلغاء حالة الطوارىء، كانت إجابة النظام ومنذ البدء هي نفسها. بدايةً رفض النظام الاعتراف بوجود قضايا داخلية يجب علاجها. جاءت المقاربة الأمنية الأولى صريحة ومباشرة. استُبدلت حالة الطوارىء بقانون مكافحة الإرهاب، قبل أن تُتوج المقاربة الأمنية بمجزرة ساحة الساعة في حمص، في نية واضحة لمنع تكرار ما حصل في تونس ومصر وحتى اليمن من احتلال حركات الاحتجاج للساحات العامة.

وهنا يجب التأكيد على أن قانون الإرهاب كان موجها للولايات المتحدة أولاً، في استمرار النهج نفسه الذي اعتمده الطغاة العرب والقائم على التودد للأميركيين عبر رسالة مُكررة فحواها أنهم مساهمون في الحرب العالمية ضد الإرهاب، على أمل ترسيخ شرعيتهم الخارجية ضد شعوبهم. وليس من قبيل المصادفة أن يلقى هذا التوجه ترحيباً عظيما أيضاً لدى الاتحاد الروسي بهواجسه تجاه جمهوريات آسيا الوسطى وحروبه  الدموية في الشيشان. تلا ذلك النظر إلى حركات الاحتجاج الجماهيرية بما هي حرباً تتطلب ردوداً عسكرية، وليس مجرد عمليات أمنية.لم يتغير هذا الخيار إلى الآن. هي حرب وما زالت حرباً، وإن تحولت مؤخراً إلى حرب ضد «تنظيم القاعدة»، بعد أن كانت حرباً ضد «المجموعات التخريبية». والملاحظ أن هذه الحرب المُعلنة ترافقت مع وعود الحسم والانتصار. لم يحدث ذلك بالطبع، بالرغم من الارتقاء النوعي بالعمل العسكري عن طريق الاعتماد المتزايد على سلاح الطيران. وهو رغم كل شيء سلاح ذو حدين. فإن كان يعلن أن النظام لن يتورع عن أي شيء لإحداث أفدح الخسائر البشرية وأوسع الدمار وموجات النزوح، إلا أن اللجوء إلى الطيران الحربي يعلن إفلاس سياسة الحسم. فلا يمكنك كسب المعارك فقط بسلاح الجو. قد تدمّر قدر ما يحلو لك ولكن لن تسيطر على البشر إلا إذا سيطرت على الأرض أولاً. وهذا بات في حكم المستحيل اليوم، وقد خسر جيش النظام السيطرة على القسم الأكبر من أطراف وضواحي المدن. وفي ظل تعذر ذلك، لن يتحقق "الحسم الموعود". ذلك أن المعارضة المسلحة تستطيع أن تخسر معارك دون أن تكون أي معركة منها هي المعركة الفاصلة بالنسبة إليها.

الوجه الأول لهذه الأزمة إذاً هو رفض النظام الاعتراف بوجود أزمة داخلية مركبة، مترافقة مع أزمة في موقع النظام من صراعات المنطقة، تتراكم منذ أربعة عقود من الزمن قبل أن تؤدي إلى الانفجار. والوجه الثاني هو إمعان النظام في ممارسة ما أسميته سابقاً «خورجة الأزمة»، أي تحميلها سلفاً لأطراف خارجية. أكان ذلك بإدعاء أنها مُحرّكة من أطراف خارجية أو باللجوء إلى توسيط أطراف خارجية في النزاع بينه وبين أجزاء أساسية من شعبه. دعنا نتذكر أن أول خورجة هي تعريف الصراع على انه في امتداد «الحرب العالمية ضد الإرهاب». من جهة أخرى، تمثلت الخورجة بتسليم تركيا الوساطة في الحل، قبل أن يكتشف الأتراك لاحقاً أنهم استُخدِموا فقط لشراء الوقت على أمل تحقيق حسم عسكري لم يتحقق. حدث هذا التوسيط مع القطريين أيضاً الذين نقلوها مع السعوديين إلى جامعة الدول العربية. قبِل النظام مبادرة الجامعة العربية، واستخدمها للغرض ذاته، منحه المزيد من المهل على أمل الحسم العسكري. وأخيراً نُقلت الأزمة السورية إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حيث نجح النظام في الحصول على غطاء روسي وصيني. وتولدت في نفس الوقت شراكة تنافسية أميركية / روسية حول الأزمة السورية عبّرت عنها مهمتا كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي. في مقابل ذلك، تم إلغاء غير مسبوق لشعب كامل مع مطالبه، وما ترافق مع تعليل العالم بإصلاح وعد به النظام شهوراً، قبل أن يتفتق عن دستور يعزّز من السلطات الاستبدادية الدكتاتورية لرئيس الدولة.  

م.ع: أذكر أنك كتبت في حينه مقالاً تفصيلياً تتناول فيه الدستور الجديد

ف.ط: نعم هناك شيء مذهل لدى قراءته. ذكرتُ حينها أن صلاحيات الرئيس السوري المنصوص عليها في الدستور الجديد لا تقل استبدادية عن صلاحيات أمير قطر. عودة إلى موضوع العامل الخارجي في الثورة السورية. أريد أن أتوقف عند الموقف الأميركي. المعلوم أن المعارضة السورية قد انقسمت حول التدخل الخارجي. فهناك طرف قد رحب بالتدخل الخارجي أو حتى طالب به صراحةً، وطرف آخر رفضه. إلا أن الطرفين يتحملان المسؤولية اليوم لتقديم تفسير حول هذا الخلاف، على اعتبار أن الخيار الليبي لم يكن للحظة مطروحاً. حقيقة الأمر أن الأمريكيين امتلكوا موقفاً واضحاً وواحداً منذ بداية الثورات في العالم العربي، في مصر دعموا تنحي مبارك لصالح نائبه، فافشل الشعب الثائر ذلك وقطع الطريق على عمر سليمان. في تونس تُرك الموضوع للفرنسيين. في الحالتين رفض الجيش التدخل الدموي ضد الشعب، وجرى التضحية بالرئيس على أمل إنقاذ النظام. في اليمن، السفير الأميركي قاد الحل الذي صاغته المبادرة الخليجية، عبر تنصيب نائب علي عبد الله صالح بالبيعة، وبقاء قطاعات أساسية من القوات المسلحة بقيادة أبناء صالح أو أقاربه بحجة أنها تحارب تنظيم القاعدة. باعتقادي أن القراءة المتسرّعة لتكرار السيناريو الليبي أغفلت الفارق بين الحالة الليبية وسائر الحالات. إن قوام سياسة الولايات المتحدة في المنطقة هي الأمن: امن إسرائيل ثم أمن النفط ثم تغليب الأمن على كل اعتبار آخر من خلال فرض «الحرب العالمية ضد الإرهاب» أولوية مطلقة على العالم أجمع، وأخيراً وليس آخراً: استكمال فرض التعديلات الهيكلية النيوليبرالية على المنطقة حسب إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

هذه الأقانيم الأربعة هي التي تحكمت بالسياسات الأميركية تجاه سوريا.  وكانت ولا تزال تلك السياسات تتأرجح بين الرغبة في إضعاف وتفكيك الحلف الإيراني-السوري وبين الحفاظ على الأوضاع القائمة على الحدود الشمالية لدولة إسرائيل.  فالنظام السوري لا زال يعتبر مسؤولاً عن بلدين (سوريا ولبنان)  وهو مسؤول أيضاً عن الأمن والاستقرار على الحدود الشمالية لفلسطين المُحتلة. فليس صدفة أن تكرر السياسة الأميركية تطبيق الترسيمة إياها التي جرت محاولات تطبيقها في تونس ومصر واليمن: دعوة الرئيس إلى التنحي لنائبه لإنقاذ النظام بتعديلات طفيفة. في حده الأدنى، كان على البديل لذلك النظام أن يستطيع الإمساك بالجيش لغرض المهمة الجيواستراتيجية إياها: حفظ الأمن والاستقرار على الحدود الشمالية لإسرائيل وان يستطيع في الوقت ذاته ضبط حزب الله، الذي يتم التعامل معه في الدوائر الغربية بما هو قوة عسكرية غير نظامية، تحتاج إلى دولة مسؤولة عنها، وهذه الدولة كانت ولا تزال الدولة السورية. من هنا إن أردنا تفسير الاستنكاف الأميركي عن التدخل العسكري في سوريا، فهو عدم وجود بديل جاهز لتلك المهمات. أضف إلى هذا أن الإدارة الأميركية أفادت من تجربة العراق من حيث سلبيات حل الجيش فباتت حريصة على بقاء الجيش السوري متماسكا، كما عبّر عن ذلك وزير الدفاع بانيتا غير مرة.
من جهة ثانية، لو افترضنا أن المخططات الأميركية والغربية ترمي إلى تدمير سوريا برمتها وتجزئتها، شعباً إن لم يكن كياناً، كما يقول أصحاب نظرية «المشروع الأميركي الإسرائيلي » و«الشرق الأوسط الجديد»، فقد تولى النظام بذاته هذه المهمة وقد فاقت مخيلته في القتل والتدمير أكثر العقول الشريرة في واشنطن. السؤال: لماذا لم يتصالح النظام مع شعبه بدلاً من أن يعتبر معارضيه عملاء للخارج؟ لماذا لم يقطع الطريق على الخارج؟ لماذا يؤثر أن يفاوض أسياد شعبه المنتفض في الخارج؟ لسائل أن يسأل: وكيف تفسّر والحالة هذه الضربة الإسرائيلية؟ إنها بداية التدخل في الصراع السوري بأهداف واضحة: إضعاف القدرة القتالية السورية، والسعي للقضاء على ما تمتلكه سوريا من سلاح كيميائي وأسلحة صاروخية متطورة، وهذه قوة ردع لا يستهان بها، وطبعاً وقف إمداد حزب الله بالسلاح. ويمكن أن يضاف إلى ذلك من قبيل الاستباق، مجابهة نمو القوى الجهادية داخل المعارضة المسلّحة (بناء شريط مكهرب على الحدود).

باختصار، أعتقد أن وهم الحسم قد انتهى مع أفول العام وفشل سياسة التدمير المنتظمة بواسطة الطيران. في المقابل تسهم المعارضة المسلحة بثبات في تقويض القوة العسكرية للنظام، ولكنها لا تملك الأسلحة الكافية لقلب موازين القوى لصالحها. وواضح أن السياسات الغربية لا تزال ترفض تزويد المعارضة المسلحة بالأسلحة النوعية لتحقيق ذلك الغرض. هنا أرغب بالتحذير من منطق تقديم التنازلات وبيع المواقف، وقد طغى على مواقف بعض قيادات المعارضة على أمل اقتناص شرعية أميركية بواسطة تنازلات ذات وجهين. هناك الحديث عن استعادة الجولان المحتل والمضموم بالطرق السياسية بمساعدة «أصدقائنا الأميركان والفرنسيين» وكأن النظام سعى لاستعادتها بالوسائل العسكرية! يجري بذلك التخلي عن حق الشعب السوري في استرداد أرضه المحتلة والمضمومة بواسطة السلاح وهو حق تكفله كل المواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن. ويجري توهيم النفس والآخرين بأن إسرائيل نتنياهو وليبرمان والمستوطنين سوف تتنازل عن الجولان إذا ما أزيح نظام البعث والحكم الفردي. وثمة نسخة معكوسة للرواية ذاتها هي النصائح التي يسديها المحافظون العرب الجدد، واللبنانيون منهم خصوصاً، إلى المعارضة السورية بأن تقدّم المزيد من التنازلات بالنسبة للجولان على اعتبار أن هذا من شأنه تشجيع الإدارة الأميركية على التدخل عسكريا إلى جانبها.

م.ع: ولكن ألا تعتقد أن عموم السوريين ممن طالبوا بالتدخل الخارجي، بحكم أنهم كانوا مدفوعين بتأثير التجربة الليبية، قد وعوا لاحقاً أن هذا الخارج لا يحمل عموماً نوايا صادقة، وبالتحديد الولايات المتحدة، التي بدأت الأصوات تعلو لانتقاد دورها الضبابي؟

ف.ط: أولاً دعنا نتفاهم. لا يوجد شيء اسمه «عموم السوريين». ثم إني أساجل أعلاه ضد فكرة النوايا الصادقة لدى «الخارج». لا يوجد نوايا. توجد مصالح. تفهمها وتعمل بموجبها، وليس يعني ذلك أن تماشيها أو ترضخ لها، أو تفشل في التقاطها. أما اعتبار النوايا الصادقة هي التدخل العسكري في ثورة أجزاء كبيرة من الشعب السوري ضد نظامه، فأجد أنها اقرب إلى الكارثة لا إلى الصدق. مع ذلك فأنا أتفهم تماماً معاناة الشعب السوري والثوار أمام الأهوال. وأتفهم الاستنجاد بالعالم الخارجي للإنقاذ ولو بوجهه العسكري، وأفهم التبسيط الذي يفهم الأمر بناء على القياس بالتجربة الليبية، ولكني أفكر بالقيادة السياسية، التي أظنها قادرة على طرح السؤال الأصلي عن الفارق بين الحالتين الليبية والسورية قياساً إلى قراءة صحيحة لمصالح وسياسيات الإدارة الأميركية. وفي ظني أيضا أنها تلقت أجوبة واضحة أو على الأقل مؤشرات واضحة بصدد عدم وجود نية للتدخل العسكري، فكان عليها بالتالي أن تبني على حسابات أوضح.

م.ع: منذ فترة ومصطلح "الثورة السورية" لم يعد هو الرائج في أدبيات الصحافة العالمية، ولا حتى مصطلح "الأزمة السورية"، هناك استخدام واسع لمصطلح "الحرب الأهلية". ومؤخراً يترافق هذا الاستخدام مع التركيز على البعد الطائفي للصراع. ذكرت الأمم المتحدة ذلك في تقرير أخير. في المقابل هناك شعور بالمرارة لدى قسم كبير من السوريين وهم يشهدون كيف يختزل مخاضهم في هذه التوصيفات. كيف تنظر إلى هذا الأمر؟

ف.ط: الأكيد عندي أن ما يجري في سوريا وسواها من الأقطار العربية هو ثورة. ثورة تُعبر عن أزمة عميقة في المجتمعات المعنية اقتضت نزول ملايين إلى الشارع للمطالبة بالتغيير واستدعت استعدادات ضخمة للتضحية من أجل هذا التغيير وصولاً إلى تحمّل مسؤولية "إسقاط الأنظمة". وهي ثورة لأنها تعبر عن استحالتين: هناك حكام لم يعد بإمكانهم الاستمرار في الحكم. وهناك شعوب لم تعد تطيق حكمهم. ولسنا نتكلم هنا عن أفراد بل عن منظومة سلطة. ناهيك عن أنها ثورات لا تخفي أسبابها: البطالة، الاستبداد، الفوارق الاجتماعية، الامتهان لكرامة المواطن والإنسان. وهي تجهر بأهدافها في المقابل: "عمل، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية". والثورات رد على مأزق أنظمة الاستبداد العربية كلها - ملكية سلالية أو جمهورية - لأن شرعيتها الخارجية مهتزة وشرعيتها الداخلية مفقودة. لم تعد تؤمّن لجمهورها الحد الأدنى من الخدمات وأنماط التوزيع الاجتماعي التي كانت تؤمنها سابقا، وقد فقدت إلى ذلك شرعياتها المستمدة من أدوارها في التحرر الوطني والنزاع العربي الإسرائيلي. قلتُ سابقا وأكرر أن عظمة الشعب السوري تكمن في أنه لم يخطئ وطنياً. فهو لم يثر ضد نظامه حين كان النظام والبلد مهددين أثناء الغزو الأميركي على العراق. ثار بعدما انسحبت جيوش أميركا وحلفائها من العراق. ترافق الانسحاب الأميركي من العراق مع فشل النظام السوري في أن يكون له موطىء قدم داخل النظام الجديد بالتعاون مع السعودية وتركيا عن طريق ترئيس إياد علاوي وكتلته على مجلس الوزراء. قضت تسوية أميركية إيرانية بالتجديد لنوري المالكي وتحالف أحزاب الشيعية السياسية التي يمثل. ومن معالم اهتراء شرعية النظام السوري أيضا انتهاء دور سوريا بما هي زعيمة جبهة الرفض العربية، ولم يكن صدفة أن يجدد النظام اعترافه بحل الدولتين لفلسطين قبل أن يفك الارتباط بحركة حماس، وتنظيمات جبهة الرفض الفلسطينية. إن مأزق النظام السوري هنا هو المأزق الذي انتهت إليه مرحلة كاملة من النزاع العربي الإسرائيلي، وهي مرحلة الحلول الثنائية. لا أريد الاستخفاف باستمرار التناقض حول التحالف الإيراني السوري والدعم لحزب الله. ولكن ألفت إلى أن التناقض الغربي مع هذا الحلف يعلو ويهبط حسب وتيرة التفاوض بين الجمهورية الإسلامية والقوى الغربية حول ملفها النووي.

هذه أنظمة استبدادية زاد منسوب قمعها مع سطوة العولمة وفرض النيوليبرالية تدريجياً على المنطقة وتقلّص ما تقدمه لشعوبها في المجال الاجتماعي. لذلك أسمي  الثورات "الموجة الثالثة من المقاومة العربية للنيوليبرالية". هبّت الموجة الأولى في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وابرز معالمها انتفاضة الخبز في مصر وانتفاضة «الحيطيين»، الشباب العاطل عن العمل، في الجزائر. والثانية في التسعينات ومنها الانتفاضات المغربية والأردنية والتونسية والمصرية وانتفاضات الخبز في المدن اليمنية، الخ. في هذه الموجة الثالثة، الآن، لا يوجد بلد عربي واحد تحرك في إطار الثورات الجارية إلا وانطلق من معارضة رفع الدعم على المحروقات والسلع الغذائية، أو ضد ارتفاع كلفة المعيشة إلى أن وصل الحراك، نظراً لردود فعل السلطات القائمة، إلى طرح التغيير السياسي الجذري بواسطة إسقاط النظام. لعلنا نستثني الحالة السورية، حيث الحضور الأمني الكاسح لم يسمح بالتعبير الواضح عن الاحتجاج الاجتماعي بل بدأ بأبسط الحقوق والحريات الديمقراطية: إلغاء حالة الطوارىء. لم يمنع ذلك من أن تكون الثورة السورية، عميقة المحتوى الطبقي والاجتماعي بوصفها ثورة سكان الأطراف والريفيين والفقراء والمهَمشين وأبناء الضواحي الفقيرة حول المدن الرئيسة. منها انطلقت الثورة وانتقلت إلى المدن والعاصمة. دون شك فإن فئات واسعة من الطبقة الوسطى ومن الشباب عموماً، ومن البرجوازية المهاجرة، شاركت بأشكال مختلفة في الحراك. إلا أن الطابع الشعبي العميق هو ما يزال يسم الثورة السورية.

م.ع: لكن هناك فئات واسعة من جمهور الثورة السورية، يرفض تصنيفها بكونها ثورة أطراف، وبشكل خاص يرفض إخضاعها لقراءة تستند إلى الصراع الطبقي، أو كونها ثورة محركها بالأساس اقتصادي. ودعنا نتذكر أن عموم السوريين يفضلون ذكر ثورتهم على أنها "ثورة الكرامة"، لا بل أن هناك شعارات عدة تم رفعها في الأيام الأولى، وفي ضواحي المدن والأرياف تحديداً، تذكر بأنها ليست ثورة جياع، أو ليست انتفاضة قائمة على متطلبات اقتصادية. كان هناك رفض مبكر لأي ترضيات اقتصادية. أذكر هذا ليس فقط تعقيباً على توصيفك الأخير، ولكن لأنك أسهبت في شرح هذا في تحليل سابق لك عن مناهضة النيوليبرالية بوصفها المحرك الأساس في الحراك الشعبي.

ف.ط: لن أجادل في موضوع الأولويات. قلتُ في البدء أن هناك اهتراء في الشرعيتين الداخلية والخارجية للأنظمة، وهذا عامل سياسي بالمقام الأول. وقلتُ أيضاً أن هذه أنظمة ارتفع منسوب الاستبداد فيها تعويضاً عن اهتراء شرعيتها الوطنية والاجتماعية. حصل ذلك لاضطرارها إلى أن ترضخ أو تقبل املاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كان عهد بشار الأسد عهد إعادة الهيكلة النيوليبرالية وتفكيك رأسمالية الدولة (عهد أبيه) وتقديم تنازلات أساسية في تركيب الاقتصاد السوري بناء على توجيهات صندوق النقد الدولي. وفي ظله، انتقل الاقتصاد السوري من قاعدته الزراعية الصناعية إلى الخدماتية المالية والعقارية والاستيرادية والمافوية تتربع على رأسها طغمة من الأقارب والمحسوبين. أعتقد أن هذا كاف لتفسير بروز البطالة وانهيار الزراعة ونمو الفوارق الطبقية وانتشار أنماط من الاستهلاك المرئي في المدن، وبالتالي أعتقد أن ما حدث في سورية لا يختلف بهذا المعنى عما حصل في مصر وتونس واليمن.

 دعني أعلّق على ثورة الكرامة. أفهم كليا أن يعلو هذا المصطلح بعد أربعة عقود من الامتهان اليومي للكرامة الإنسانية في تعاطي نظام مع شعبه. لا تزال عبارات: «وله»، و«كرّ»، و«حمار» ترنّ في أذن شعب بأكمله وقد عانى منها جمهور من اللبنانيين هم أيضاً خلال عهد الانتداب السوري على لبنان. ولكن أريد أن أتصور أن ثورة الكرامة انتصرت، فما هو برنامج  المعارضة لحل مشكلات الشعب السوري بناء على وحدانية الكرامة؟ أليست البطالة امتهاناً لكرامة الأفراد والجماعات أيضا؟ وماذا عن الفقر والإفقار، هل يتعايشان مع  الكرامة؟ ثم أليس انسداد الأفق أمام الشباب ذروة التحقير للقيمة الإنسانية للإنسان؟ ولنتفاهم. هل شعار «الحرية» يعني أيضاً الحرية الاقتصادية؟ حينها نستطيع أن نطمئن إلى أن النخب البديلة سوف تكرر أسباب الثورات لا غير. وهذا ما بدأ يطل في سياسات جبهة الإنقاذ المصرية مثلاً عندما يدعو عمرو موسى إلى الاتفاق مع الرئيس محمد مرسي على منع الإضرابات العمالية وتقييد الحقوق العمالية والنقابية. واسمح لنفسي هنا بهذا الاستطراد عن حقوق الإنسان. لماذا تترجم تلك الحقوق في بلادنا فقط بما هي حقوق فردية وشخصية؟ أقول ذلك وكلي إعجاب بهذا القطاع من الجمعيات غير الحكومية الذي حقق انجازات فعلية خلال ربع القرن الأخير. لكن يبقى السؤال: من منطق الكرامة الإنسانية، طالما هذا هو الموضوع، أليس العمل والسكن والماء النظيفة والصحة والبيئة السليمة من حقوق الإنسان أيضا؟ أم أن هذه القطاعات ليست ترد في ترنيمة معظم ورشات وبيانات ومؤتمرات وندوات وتدريبات حقوق الإنسان، لأن المنطق النيوليبرالي يشاء أن تكون هذه القطاعات، وقد كانت من مهمات الدولة، معروضة للخصخصة والتسليع وإخضاعها لرأس المال ومبدأ الربح. أعلم أن الصراع الطبقي ليس موضوعاً على الموضة هذه الأيام. واعرف أن كثير من المثقفين، وخصوصاً القسم الأكبر من مثقفي اليسار، يهملون العامل الاقتصادي، هكذا ترفعاً عن المصالح كما يُقال. وأكاد أقول أن الشطارة الفكرية عندهم تكمن في إثبات أن كل ما يحدث إما أنه سياسي وإما انه ثقافي. ناهيك بالجيوستراتيجي والجيوبوليتيكي. لهذا السبب تنتصر الامبريالية وحكامها المحليين والطبقات المرتبطة بها بالاقتصاد أولاً وأخيراً.  ألا يوجد صراع طبقي في الثورة السورية؟ قل لي: أبناء أرياف حلب المسلحين في الجيش الحر والتنظيمات الجهادية الذين اجتاحوا المدينة ألا يمارسون مقادير علنية وخفية من انتقام الفلاحين والمزارعين من المدينة، وهي موطن ملاك الأراضي والتجار والمرابين؟ أليس هذا من وجوه الصراع بين الريف والمدينة وبين الفقراء والميسورين؟ وعندما يقول رئيس الدولة السورية لمرافقيه وزواره انه لا بأس من تدمير ضواحي دمشق فسوف يبني لهم مدنا حديثة مكانها، ألا يمارس الاستعلاء الطبقي بل الاستئصالية الطبقية ضد الفقر والفقراء باسم الحداثة والنظافة؟ في كل الأحوال أنا وضعتُ العوامل الاقتصادية والاجتماعية في موقعها وفي علاقتها من السياسة والمسألة الوطنية بل والأدوار الإقليمية. أعتقد أن اهتراء شرعية هذه الأنظمة في الشأن الوطني وفيما كانت تقدمه من خدمات اجتماعية (وهذا يبدأ من السعودية، حيث ٤٠٪ من السكان مصنفون في عداد الفقراء،  ولا ينتهي في  سوريا!) دفع إلى الواجهة مأساة جيل الشباب، في منطقة تحمل رقمين قياسيين عالميين: أعلى نسبة بطالة، وأعلى نسبة من الشباب بالنسبة إلى السكان، وما يستتبعه ذلك من أعلى نسبة من البطالة بين الشباب. هذا الموضوع يفسر برأيي الحضور الوازن للشباب في الثورات. ولا أعني فقط الشباب المتعلم، وإن كانت نسب البطالة بين الخريجين عالية جداً. إذن يدور البحث على مستوى عشرات الملايين من فرص العمل المتوقعة وغير المتوفرة حالياً. والسؤال الكبير هنا هو: أي اقتصاد من شأنه تأمين ذلك؟ قطعاً ليس الاقتصاديات الحالية. والسؤال الأكبر: أي ثورة سوف تفتح الآفاق للشباب؟

المعارضة السورية، تقف على أعتاب مرحلة جديدة قد تضعها أو فئات منها في السلطة. فحري بها أن تنظر حولها جيداً وتراقب ما هو معد لها وما طُبق أو يُطبق في بلدان أخرى. والأهم من ذلك أن أي فريق يستلم السلطة في مرحلة جديدة، سرعان ما ستقوم الناس ضده وتعاود الاحتجاج عليه تحديداً بسبب الموضوع الاقتصادي. أنظرْ كيف استقبل الناس الرئيس المرزوقي في سيدي بوزيد. بالأحذية!! أما في ما يخص أولوية الديمقراطية، فأنا لا أجد معنى للديمقراطية السياسية إن هي لم تنه احتكار قبضة صغيرة للقرار وتعطي القرار السياسي ومن خلاله القرار الاجتماعي والاقتصادي لأوسع شريحة من الجماهير معبراً عنها بمبدأ اختيار الناس لحكامهم ومحاسبتهم لهم واستبدالهم عند الحاجة. فالرد على شعار "خبز وحرية"، بالقول أننا نحتاج حرية وليس خبزاً، سذاجة استثنائية. حتى لا أقول انه تعبير عن موقع طبقي يريد تمويه الحاجات المادية والحقوق الاجتماعية للمواطنين. أما أن تكون الجماهير الفقيرة في الأرياف والمدن تريد الحرية، وقد أثبتت ذلك بالدماء والتضحيات الغالية، على عكس النظريات القائلة بارتباط الديمقراطية بالطبقات الوسطى المدينية، فلأنها هي المدخل الرئيس لكي تتدخل تلك الجماهير في الحياة العامة ولتقرير مصيرها بنفسها وفرض مطالبها الاقتصادية والاجتماعية. التحدي الأكبر للثورات ولقواها البشرية الآن هي الجهود المبذولة إقليمياً ودولياً لاستبدال نخب عسكرية-ليبرالية بنخب عسكرية متحالفة مع «رأسمالية مؤمنة» وليبرالية. وواضح أن قطاعات واسعة من الناس تقاوم تلك المحاولات.

م.ع: أعود لسؤالي عن الثورة السورية، وصراع المصطلحات حول توصيفها. كيف تراها أنت؟

ف.ط: أكرر: هي ثورة لأنها تطمح إلى تغيير جذري في السلطة وفي المجتمع، لأنها تعبّر عن مآزق شاملة في هذين المجالين وعن تفويت كل فرص الإصلاح. وهي تقول بوضوح: إن المدخل إلى أي تغيير يبدأ بتغيير النظام السياسي بالقوة والعنف إن لم ينجح الضغط السلمي. وهي ثورة تقدم أسبابها وأهدافها في ذات الوقت، فهي تنادي بالعمل والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهذه هي المرة الأولى التي تواجه فيه المعارضات العربية مسألة العمل والبطالة على النحو الشامل والحاد، وقد أهملتها طويلا إلى أن انفجرت في وجوه الجميع. لكن البحث في التعريفات يتعقد بسبب النقاش حول موضوع سلمية/عسكرية. تعسكرت الثورة الشعبية السلمية في سوريا لسبب رئيس هو لجوء النظام إلى القمع الأمني ثم الحرب العسكرية ضدها. أتفهم الخشية من الاعتراف بأنها تتحول إلى حرب أهلية. هذا ناجم عن رفضٍ مشروعٍ لاعتبار الطرفين المتقاتلين عسكرياً متساويين في المسؤولية عن العنف ما يعني تناسي الحرب التي يشنها النظام على شعبه ورفضه أي تنازل أو إصلاح أو حوار، وبالتالي طمس الأسباب الفعلية للاحتجاج الشعبي والثورة. لكن الحقيقة أن هناك سوريون يقتلون بعضهم البعض. وهي حقيقة مؤسفة بل فاجعة لا يمكن نكرانها. والاعتراف بأن ما يجري في سوريا هو حرب أهلية يصطدم بعقبة ثانية. فالاعتراف بوجود حرب أهلية يعني القبول بأن الطابع الغالب عليها هو الطابع الطائفي.

م.ع: من متابعتك للواقع العياني، هل كان بالإمكان أصلاً تجنب اللجوء إلى المقاومة المسلحة، مع العلم المسبق ببعض نتائجها السلبية؟

ف.ط: لم يكن الخيار العسكري خياراً، كان رداً على الحرب التي شنّها النظام على الشعب المنتفض سلمياً. لكن دعني أتوقف قليلاً عند مفهوم السلمية. في سوريا، كما في سواها من البلدان الثائرة، نزلت أعداد غفيرة من السوريين إلى الشوارع وفي عموم البلد، تستخدم قوتها، أي قوة العدد، لتفرض مطالبها. في حالات نادرة إلى الآن، استجاب الحاكم أو النظام لمثل تلك الضغوط. المغرب مثال على ذلك، بغض النظر عن رأينا بحدود تلك الإصلاحات. ولنتذكر أن ممارسة ضغط الجماهير بالقوة العددية قد يستدعي الاعتقالات والصدامات مع قوى الأمن، قد تتطور ليحاول النظام الزج بالجيش، كما حدث في مصر، ولكن الجيش في مصر توقف عند حدود واضحة، لها علاقة بمصالحه أولاً، فالنظام نظام عسكري في نهاية المطاف، وكانت قيادته أصلاً على خلاف شديد مع الرئيس حول موضوع التوريث، فاختار الجيش التضحية بالرئيس في محاولة لإنقاذ مكانة الجيش ودوره في الاقتصاد والسياسية، وإنقاذ النظام عموماً.

في سوريا حضرتْ قوة جماهيرية هائلة لم يحتشد مثلها في تاريخها الحديث، تمت مواجهتها بحل أمني ثم عسكري، فانتقلت قطاعات واسعة من قوى الاحتجاج السلمي إلى الضغط بواسطة السلاح. جندي رفض إطلاق النار على متظاهرين، تم إعدامه ميدانياً، انشق رفاقٌ له وفرّوا وكونوا مجموعات مسلحة مقاومة وهم المهددون بموت حتمي. وفي الحراك المدني، بعد أربع أو خمس أفواج من كوادر التنسيقيات قد اعتقلت وزجت في السجون وتعرّضت للتعذيب، بعضهم حد الموت، يقول أحدهم ممن لم يعتقل أو يقتل بعد: خيرٌ لي أن أموت وأنا أقاتل على الموت تحت التعذيب. إذن العسكرة هي وليدة قرار النظام الرد على الضغط الشعبي بالعنف السلطوي، ما استدرج العنف الأهلي المقابل. ليس على الثوار السوريين الإعتذار من أحد ولا تضييع الوقت بالتبرير حول إهمال السبل الأخرى. علماً أن هذا الشعب العظيم لا يزال يتظاهر كلما سنحت له الفرصة ليؤكد حضوره واستعداده السلمي. الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى تفسير هو الموقف من التمويل والدعم الخارجي. من عاش الظروف التي عاشها المواطن والمواطنة السورية، وشهد كل هذا القهر والقتل فاضطر إلى حمل السلاح، سيبحث عن السلاح في كل الاتجاهات. والنظام الذي دفع السوريين إلى حمل السلاح هو من دفعهم إلى القبول بتمويل العمل المسلّح. وليس سراً أن الثورات المسلحة تلزمها كلفة مالية لا علاقة لها بالإمكانات الداخلية للشعب المعني.

السؤال الحيوي في وجه المعارضة السورية هو كيف يمكن تلقي الدعم من المصادر التي تمدّ الثورة ومحاولة الإبقاء على القرار الوطني السوري المستقل في آن معاً؟ هي معادلة صعبة ولكنها ليست مستحيلة. إذ يجب النظر إلى تلك الأموال بما هي ديون للتأثير لاحقاً بالسلطة السورية الجديدة حتى لا نقول لاسترهانها. لا شك أن الوضع في سوريا أصعب من حيث تدخل القوى الخارجية. لكن هذا مُبرر أكبر لأن تتشدد المعارضة وطنياً، وأن لا تعتبر نفسها مديونة، فالحقيقة أنها هي الدائنة لأن الحكام الذين يساندونها يفعلون ذلك لمنع الثورات في بلادهم، ومنع انتقال العدوى الثورية إلى جماهير بلادهم، ولن يمنعونها. والحاكم الذي يموّل الاحتجاجات أو الثورات المسلحة إنما يفعل ليحول دون قيام ديمقراطيات وطنية فعلية فيها، ومن اجل تعميم نموذج أوحد للحكم في المنطقة وهو النموذج الرأسمالي الريعي الإسلامي التبعي بجناحيه السلفي والإخواني.

م. ع: هل تنته الثورة تماماً حين تتحول في أحد أوجهها إلى صراع أهلي؟ وبرأيك توصيف الحرب الأهلية الذي بات شائعاً في أدبيات الميديا وتحديداً الغربية منها، وكذلك المؤسسات ومراكز البحث الغربية، هل هو توصيف موضوعي لواقع الحال؟ وبخاصة أن هذا الاستخدام ليس وليد اليوم، البعض دأب على استخدامه منذ شهورٍ مضت.

ف.ط: كلا، لا تنتهي الثورة حين تتحول في أحد مساراتها إلى اقتتال أهلي. معظم الثورات أفضت إلى حروب أهلية، أحببنا ذلك أم لم نحب. يجب الاستدراك بالقول: أن عدم استخدام مصطلح حرب أهلية لا يعني إنكار وجود فريقين عسكريين يتقاتلان لينتصر واحدهما على آخر، أو ليستنزفه فينتهي بهما الأمر إلى تسوية ما.

ما أخشاه هو أن تسير الأمور في سوريا باتجاه حل من النمط الطائفي، إذ أن معظم القوى الخارجية المتدخلة تتشارك في رواية طائفية، علنية أو مضمرة، للتسوية والحل. هنا الخطر الكبير. أثارت فكرة تنحي الرئيس والمرحلة الانتقالية البحث في الهوية المذهبية للرئيس وتلك التي لرئيس الوزراء وهلمّ جرا. وذلك بدلاً من أن يكون البحث في مؤتمر تأسيسي وإعادة صياغة للدستور وطبيعة النظام والقوانين بناء على ما ظهر من مشكلات حقيقية. فالمحور السعودي الخليجي، لا يرى الأمور ولم يرها أصلاً بأنها معركة ديمقراطيّة بل يرى فيها غلبة مذهبية وحرباً ضد إيران في سوريا. وأما الرواية الأميركية، فقائمة أصلا على الإثنيات والأقليات والنيوليبرالية. لنتذكر مطلب السيدة كلينتون من الرئيس مرسي: حقوق الأقباط والنساء. والسياسة الأميركية لم تغيّر عادتها في توريط الليبراليين بالأوهام والتخلي دوما عنهم لصالح الإسلاميين. أين ذهبت الفزاعة الإسلامية اليوم؟ تتذرع السياسة الأميركية بالإسلاميين الذين يتقلدون السلطة على اعتبار أن الإسلام الوسطي حاجز ضد الإسلام المتطرف والجهادي.

م. ع: هل ترى احتمالات لحرب طائفية في سوريا؟

ف. ط: كلا، ما أخشاه هو حلول ذات صبغة طائفية. لكن قبل ذلك أريد أن أتوقف عند كلمة طائفي، ولي في هذا خلاف مع الأصدقاء السوريين وغير السوريين. أعتقد أن إنكار الطائفية قيد التنفيذ هو أفضل طريقة لتكريسها. التصرف مع الطائفيّة على أنها آفة ولوثة ودليل تخلّف وفتنة لا نحب الكلام عنها ونضع المفردة ذاتها بين مزدوجين، يعني أن ننكرها ولا نفسرها. أما نسبة الطائفية دوماً إلى الآخر الخارجي واعتبارها دائماً جريرة الآخر، فهذا لن يسمح بمعالجتها. حقيقة الأمر هو أنه توجد مسألة طائفية، عندما تشتبك مواقع جماعات، بما هي جماعات، في مواقع الامتياز أو الحرمان من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولا أعرف في التاريخ ولا في الواقع الراهن حالة تشكلت فيها مسألة طائفية أو مذهبية أو جهوية أو قومية أو إثنية أو قبلية، أي جرت الاستعانة بهذه التركيبات الأهلية أو الارتداد إليها أو إعادة إنتاجها إلا وتغذت تلك المسارات من تفاوت أو تمايز أو امتيازات أو حرمان تتعلق بست مجالات أوجزها هنا بما هي رؤوس أقلام للقياس فقط: 

أولاً: التفاوت بين جماعات من  حيث الموقع من السلطة السياسية، أي من التحكم بعلاقات القوة والقرار في المجتمع.

ثانياً: التفاوت في الإمساك بالسلطة الأمنية والعسكرية (قرار استخدام العنف) أو الحضور فيها بما يفيض أو يقصّر عن نسبة الجماعة إلى السكان.

ثالثاً: التفاوت والتمايز، وما يقابلهما من حرمان، في الموقع من موارد الدولة ومن خدماتها ووظائفها.

رابعاً: التمايز والفروق بين الطوائف من حيث آليات توزيع الثروة.

خامساً: التفاوت المناطقي بذاته، خصوصاً عندما تكون للمناطق ألوان طائفية محددة.

سادساً: التفاوت في توزيع رأس المال الثقافي وفرص تحصيل العلم.

إذا صح ذلك، الأحرى مقاربة هذه المسألة من زوايا إلغاء الامتيازات ولكن وفق معادلة صعبة هي تشريع لمساواة الجميع في الفرص والحقوق السياسية والقانونية. وهذا يجب أن يترافق مع التمييز الإيجابي للجماعات التي كانت ضحية الحرمان والمظلومية من جهة وإيجاد آليات وضوابط لحماية من ستلغى امتيازاته. في المقابل، ما نشاهده ونشعر أنه قيد التداول في سوريا هو سيناريو قريب من النموذج اللبناني حول محاصصة طائفية. وجدير بالملاحظة أن الحل اليمني، القائم على المبادرة الخليجية والمرعي أميركياً، عوّض عن تنحي الرئيس بتبرئته من ثلاثة وثلاثون سنة من القتل  والإهدار والفساد.

م. ع: هذا يقودني إلى سؤالك عن عقدة تواجه الثورة اليوم، هناك دعوات ومطالبات بتطمين الأقليات، وفي المقابل الثورة يجب عليها أن تسعى إلى دولة حقوق ومواطنة لا تقوم على المُحاصصة ولا تعد سلفاً بأي امتيازات خارج دولة المواطنة المنشودة هذه. ألا يتعارض الأمران؟

ف. ط: في الحقيقة لم أسمع ولم أرَ وضوح كبير يتعلق بكيفية جذب الأقليات فعلياً في سوريا. صحيح على مستوى الشارع كانت الشعارات الجامعة حاضرة،  ولكن لم يكن الأمر كذلك على مستوى القوى السياسيّة. على القوى السياسيّة أن تعكس هذا بوضوح. لم ينجح التعبير السياسي في إقناع قسم كبير من الأكراد، مثلاً، حتى لو كانوا حياديين من الثورة، بحل عادل  لقضيتهم ضمن سوريا المستقبل. فلجأ القسم الأكبر من قواهم السياسية إلى خيار فرض الأمر الواقع. هناك بعض الحوارات في العمق في المسألة ولكنها محصورة بين المثقفين. فيما قيادات سياسية ووجوه مخضرمة تؤجل الموضوع لما بعد «الانتصار». أو تنكره باسم الأولويات، أو باستهجان تسمية المنطقة الكردية في سوريا بـ«كردستان الغربية ».

م. ع: هناك من يقول أن أفضل طريقة لطمأنة بعض هذه المجموعات، يكمن في الانخراط المباشر والصريح في الثورة. لعل هذا هو الطريق الأقصر؟

ف. ط: أنا لست مع صيغة التطمين. وأفهم من يقول رداً على ذلك: كيف تطلب مني أن أطمئِن  مَن يذبحني؟ السؤال هو كيف نخرج من هذا المنطق خروجاً سياسياً. لا توجد أجوبة أو حلول جاهزة. لكن بالتأكيد فإن الفكر القومي الاختزالي السائد قد انتهى زمنه. ومنطق إنكار المسائل الطوائفية يجرّ الكوارث.

 تعلمنا من التجربة اللبنانية الصعبة دروساً عن الحاجة إلى إحقاق حقوق المواطنة بعد أن جرى إطغاء حقوق الجماعات وحدها. علماً أن خمس عشرة سنة من الحروب فرضت  على الدستور اللبناني الجديد التوفيق بين نمطي التمثيل الفردي والجمعي، من خلال الدعوة إلى قيام مجلسين، واحد للمواطنين دون قيد طائفي، وثان وهو مجلس الشيوخ تنتخبه الجماعات الطائفية بما هي طوائف. وليس من قبيل الصدفة أن الطبقة الحاكمة في لبنان تحول دون تطبيق هذه المواد الدستورية منذ إقرارها العام ١٩٩٠.

لا أعتقد أن دعوة الأقليات إلى الانضمام للثورة هو الجواب الكافي. على الثورة أن تعترف بهم أولاً وبالأساسي من حقوقهم. وهذه لن تكون بالأصولية الديمقراطية التي تريد قسر الناس ضمن حقوق المواطنة وحدها دون تصحيح المظلوميات التاريخية ودون الاحتياط لعدم تولد مظلوميات جديدة. لهذا أشعر بأن المسألة الطائفية لا تزال تُقدّم على أنها مُحرمات بشعة ومُخيفة في حين أنها أشكال من الامتيازات والحرمان قابلة للعلاج إذا تم الاعتراف بها. والدعوة إلى حرية ممارسة كل مكون من مكونات الشعب السوري لثقافته بحرية، الذي يرد في برامج المعارضات السورية، مقصّر عن حقيقة الامتيازات والحرمانات في غير موقع.

م. ع: كيف ترى تأثيرات الوضع السوري على لبنان، في ضوء الانقسامات اللبنانية الداخلية من الثورة السورية؟

ف.ط: في البدء أعتقد أننا بحاجة لتبديد فكرة العلاقة السببية الأتوماتيكية. ثم أن سوريا الدولة والمجتمع سوف تكون مُدماة ومعطوبة بما فيه الكفاية بحيث سوف تُحرَم من لعب دور دولة الرعاية للبنان (رُب ضارةٍ نافعة). في المقابل يصعب توقع أن ينتصر طرف ويخسر طرف بشكل واضح في لبنان، جراء ذلك. لا ننسى بأن لبنان نظام برلماني غريب، مع أن قانون الانتخاب فيه يحدد سلفاً نتائج الانتخاب. ولأقل مباشرة، أنا المواطن اللبناني لست أرى إي انجاز إذا تغيرت الأكثرية النيابية فحل معسكر ١٤ محل معسكر ٨ آذار وغلب في تشكيل الحكومة. اختبرنا الاثنين ولم نحصد إلا الكوارث من حيث ابسط الحقوق الإنسانية والمواطنية.

 فيما يخص موضوع حزب الله وسلاحه. إن جوهر الموضوع باعتقادي يتعلق بطبيعة الدولة السورية القادمة وسياسات حكوماتها. هل ستنتهي حالة العداء بينها وبين إسرائيل بمعاهدة سلام تستعيد فيها الجولان أو بعضه؟ لو افترضنا ذلك - وهو افتراض شبه مستحيل بعد الذي جرى في سوريا وبعد هيمنة المستوطنين على السياسة الإسرائيلية - سوف يكون مطلوباً من الحكومة السورية، إقليمياً ودولياً، أن تُشرك لبنان معها في التسوية. خلا ذلك، لا أرى أي سبب لوجود حكومة سورية ليست تتمسك بجيشها وبتنمية قدراتها في وجه إسرائيل. ألن يكون لها مصلحة والحالة هذه بأن يوجد إلى جانب سوريا لبنان قوي بوجه إسرائيل؟ أما إذا كان الافتراض بأن السلطة المقبلة في سوريا ستنتقم من حزب الله، فلست اعتقد أن نوازع الانتقام تحدد سياسات، حتى في بلادنا العربية، أجيب أنها لن تملك أصلاً الإمكانية الفعلية لذلك. يبقى احتمال وقف وصول السلاح لحزب الله مفتوحا. علماً أن حزب الله في كل الأحوال قد دفع وهو لا يزال يدفع ثمناً باهظاً من شعبيته ونفوذه لوقوفه إلى جانب النظام السوري، على كافة الصعد في لبنان وسوريا والخارج. وقد انعكس ذلك حتى على دوره في مقاومة إسرائيل. فيما يخص سلاح حزب الله، لا أرى موقف وطني سوري يعتبر أن إضعاف القدرة الدفاعية للبنان فيه أي دعم وطني لسوريا. لأول مرة قي تاريخ العلاقات اللبنانية الإسرائيلية هناك  قوة رادعة لبنانية بوجه إسرائيل، هل هذا ضد مصلحة سوريا المقبلة؟ الحزب الآن قوة مُسلحة لا تمارس العمل المسلّح، وإلى أن نصل إلى حل يقوم على وحدة قوتي الدفاع الوطني، إي الجهاز العسكري للحزب والجيش اللبناني، سوف أظل اعتبر أن أسلحة حزب الله، خصوصا الثقيلة، منها هي أسلحة للدفاع عن لبنان.

لكن دعني أختم هنا بالقول إن مجيء نظام جديد إلى سوريا ربما يمنح دفع وأمل لفئة من اللبنانيين الذين سئموا الانقسام العبثي الفاشل والعاجز بين 8 و 14 آذار. وقد تعاقبا على الحكم بالمقادير نفسها من الفساد والهدر والعجز. وهي مناسبة لإعلان الغضب الكبير على انحياز أوساط متزايدة من المعارضة السورية إلى صف معسكر ١٤ آذار بما يستفز قوى واسعة ليست منضوية في هذا المعسكر ولا تُختزل قطعاً بمعسكر ٨ آذار هو الآخر. ومع ذلك اعتقد أن هذه القوى لن تيأس من المعارضة السورية ولن تبني مواقفها تجاهها فقط استناداً لهذا الانحياز. أو انتقاماً منه.

م.ع: لكن  كيف تفسر هذا الإصرار من قبل فريق ٨ آذار على دعم النظام السوري حتى اللحظة؟ رغم أنه بات جلياً أن سوريا لن تعود إلى ما قبل ١٥ آذار ٢٠١١، ومهما كانت نتائج المخاض الراهن. هل يعقل أنها سذاجة سياسية؟ تعتريني الدهشة من هذا الإصرار، وكأن لا شيء تغير بالفعل أو يمكن أن يتغير في سوريا.

ف.ط: يجب طرح السؤال على حزب الله وحلفائه. المسألة ليست مسألة وعي. إنه القبول بنظرة خارجية للصراع على انه بين معسكرين إقليميين ودوليين واعتبار حزب الله منتمياً إلى احدهما. أضف إلى هذا أن تمسك حزب الله بتعويذة المقاومة يتزايد مع ضعف دور المقاومة عملياً ومع اضطرار الحزب إلى قيمة مُضافة يتمسك بها تغطية لانتمائه الخائب في السياسات الداخلية إلى النظام الطوائفي، ودوره في تجديده و«تثقيله»، ناهيك عن دوره في التغطية على السياسات الاقتصادية المعادية للناس وحقوقهم الاجتماعية الأولية وغضه النظر عن أنواع شتى من الفساد.

م.ع: هل تعتقد أن تغيير هذا الموقف مستحيل؟ حتى لو كان في هذا الأمر مصلحة للبنان أولاً؟

 ف.ط: الأصح القول أنه من مصلحة لبنان وسوريا معاً أن لا يتدخل الطرفان اللبنانيان في الأزمة السورية. فتدخل قوى ١٤ آذار كبير أيضاً، ماليا وعلى مستوى التسليح . وحزب الله متسلّم جبهتين على الأقل عبر الحدود السورية في منطقتي الزبداني والقصير.

م.ع: كُنتَ قد انتقدت بياناً أصدره مثقفون سوريون ولبنانيون بعد اندلاع الثورة بشهور، وسؤالي لك اليوم، كيف ترى الطريقة الأمثل لبناء علاقات بين البلدين تقوم على الاحترام والثقة المُتبادلة وتحقق أيضاً نوع من التكامل الاقتصادي؟

 ف.ط: عارضته لأنه ينطوي على معادلات غير مقنعة تنتمي إلى "الإيديولوجية اللبنانوية" - الاستقلال للبنان والديمقراطية لسوريا - الذي يضع استقلال لبنان في مواجهة سوريا وحدها ولاعتباره أن مسألة الديمقراطية في لبنان متحققة. وعارضته لأنه بذلك يغيّب مواجهة إسرائيل. وعارضته أيضاً لانحيازه إلى طروحات فريق واحد هو فريق ١٤ آذار. في إعلان بيروت دمشق، الذي أعتز بأني شاركت في صياغته، ورد أن هناك طريقين لا يصح المضي في كليهما: الهيمنة، والانفصال. هناك ميل لبناني انفصالي بمعنى أن نقفز عن سوريا لنلتقي بسائر العالم.  فيما كانت الهيمنة سمة ممارسة النظام السوري عبر ثلاثين سنة من السيطرة على لبنان. أعتقد أن هناك مجالات كثيرة للتشارك، هناك السياسات المشتركة في مواجهة إسرائيل. وهناك مجالات واسعة لمشاريع مشتركة. وبالمناسبة، فإن فرصة اللبنانيين من الاستفادة هي أكبر، فهناك في سورية سوق ضخمة. باختصار يجب إعادة وصل العلاقات على أُسس من الضرورات الوطنية، وإمكانية التكامل والتعاون الاقتصاديين ولكن لصالح الشعبين وليس المصرفيين والمستوردين والمضاربين العقاريين في البلدين.

م.ع: قبل الوصول إلى ذلك، هناك الكثير من المنغصات حالياً، أشياء قد يبدو تجاوزها صعب لاحقاً، كأن يصرح وزير في الحكومة الحالية، بأن تضييق الخناق على اللاجئين وإقفال الحدود في وجههم هو فعل وطني بقياس المصلحة اللبنانية! أليس هذا أمراً يثير الدهشة قبل الحنق؟

ف.ط: توجد عنصرية ضد الفلسطينيين والسوريين في لبنان، هذا أمر لا شك فيه. شارك بذلك كل الإطراف بما في ذلك الحرب على المخيمات الفلسطينية. وهذه العنصرية تتفاقم مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. لكن هذا لا يخفف من هول التصريحات الأخيرة للتيار الوطني الحر ولا حزب الكتائب. هناك بين أنصار الثورة السورية الآن سياسيون وأحزاب تدين بنفوذها، حتى لا نقول بوجودها ذاته، للهيمنة السورية، وبينهم من حلل قتل العمال السوريين، ومن قتلهم فعلا، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

م.ع: أنت المناضل والمثقف اليساري العتيق، أثرت أكثر من مرة موضوع اليسار ودوره ومواقفه خلال الربيع العربي. في إحدى مقالاتك، قمتَ بانتقاد ما أسميته "يسار داعم للاستبداد بحجة المسألة الوطنية". كما ذكرتَ كيف تحملُ الثورات العربية إلى اليسار مزيجاً من التحدي الوجودي والفرصة التاريخية. في ضوء المواقف المتخبطة لليسار في الشأن السوري تحديداً هل تعتقد أن "بعض اليسار"،على الأقل، فوّت هذه الفرصة؟

ف.ط: القسم الأكبر من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، في مصر وتونس واليمن، انضوت بصفتها "معارضة صاحبة الجلالة". أصبحت جزءاً من التركيبة الجديدة ولكنها هي الطرف الضعيف فيها. وهذا الطرف الضعيف مشكلته أنه يواجه خصم بقوة الإسلاميين يملك رؤية كاملة للحياة. اليسار مصاب بغياب الرؤية - وشرطها الأول تحقيق استقلاله الفكري والبرنامجي عن سائر الأطراف من أصدقاء وخصوم - وهذه هي المشكلة الكبرى، عدا عن أن ثقل ماضي ممارسة دكتاتورية الحزب الأوحد، أو التهليل لها، والتربية الكارهة للديمقراطية على اعتبارها «برجوازية»،  كاسح الوطأة على اليسار. مع ذلك لا أزال أقول أن ثمة موقعاً ودوراً يمكن أن يحتلهما اليسار. فهو القادر افتراضياً على الأقل على الجمع بين المسألة الوطنية ومسألتي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولكن الشرط الأول لهذا الموقع والدور هو تقيّده بمقياس بسيط هو أن ينحاز إلى الشعب. وهذا يعني التحرر من النزعة النخبوية الطليعية التربوية تجاه الشعب، وهو تراث مشترك بين الأحزاب الشيوعية والقومية يقوم على "سلطان الكلمة". والكلمة عندما تصير مُقدسة، بها يقاس الإيمان والكفر، تتولد تكفيرية علمانية أورثتنا إياها الأنظمة الاستبدادية الشمولية. وهذه النزعة التكفيرية تسوّغ بدورها الاستبداد والدكتاتورية لأنها تؤسس علاقة تربوية بين الطليعة والشعب، فالشعب جاهل بمصالحه وبالتالي فمهمة "الأنبياء الصغار" أن يتولوا إرشاده وقيادته.

م.ع: هل تعتقد أن النقد الذاتي هو السبيل لتصويب موقف بعض القوى والشخصيات اليسارية، أم أن السبيل الأفضل للتواجد الفعال هو الانخراط الفعلي في كافة أوجه الثورات الحالية؟

ف.ط: أصارحك أني زهقت فكراً وجسداً من النقد الذاتي. أعتقد أن مثقفي اليسار عموماً يشتركون بمطلب واحد هو وجوب ممارسة النقد الذاتي. أشبه الأمر بعُصاب ديني قائم على شعور عميق بالذنب. وهو أيضا منطق اليساري المرتدّ، الذي انتقل إلى الموقع النقيض وهو خجل من موقعه الجديد، وليس منطق اليساري الذي يريد الاعتراف بأخطائه ليتعلم منها. ثم أن المدرسة العقائدية الوحيدة التي تمارس النقد الذاتي هي اليسار. وترجمته العملية إما مهمة نقد ذاتي مؤجلة دائماً أو مطروحة دائماً على الآخر، وإما الجلد الذاتي العدمي. هنا أيضاً يجري إعدام كل تميّز وتمايز باسم انتهاء الأيديولوجيات. علماً أن اليسار يفترض انه كان يملك نظرية، لا أيديولوجيا، لإنتاج المعارف عن الواقع من اجل تغييره. ثم اسمح لي أن أقهقه لقصة نهاية الأيديولوجيات هذه. في زمن تتحول فيه عبادة السوق إلى ديانة جديدة، والنزعة الثقافوية تحبس البشر في هويات وانتماءات متعادية، وتتحول الديانات ذاتها إلى مسوّغات للسيطرة والاستغلال والقتل، يريدوننا أن نصدق أن اليسار والماركسية يحتكران ... الأيديولوجيا. النقد الذاتي هذا من إنتاج الوسوسة الرهابية الستالينية، التي أودت بملايين الشيوعيين إلى المنافي والقتل، ليضافوا إلى عشرات الملايين من مواطني الاتحاد السوفياتي، ضحايا الارهاب الستاليني. وفق الستالينية، الشيوعي مذنب أولاً ودائماَ، حتى أكثر من المواطن العادي، لأنه هو المؤمن، مقابل المواطن العادي الجاهل أو «الجاهلي»، مثله في ذلك مثل المؤمن في الأديان السماوية. لذلك فإن الشيوعي المؤمن عرضة للخطيئة والتشكك في إيمانه، تحديدا لأنه مؤمن، فمن باب أولى أن يظل دوماً قيد الاختبار والحيطة والحذر بل الريبة من ميله العضوي هذا إلى الانحراف العقائدي والكفر. الثراء الذي تملكه النظرية الماركسية كامن في أنها نظرية الممارسة وفي أنها تدعو إلى التعلم من الممارسة. فإن لم نستوعب ونتعلم من التجربة السوفياتية، مثلاً، فما الذي ينفع كل هذا الهذر عن النقد الذاتي! وللتعلم من الممارسة لا بد من امتلاك الأدوات النظرية لذلك. نقرأ كثيراً في هذه الأيام من بعض اليسار أنه «لا توجد ثورة»، أو «بئس هذا الربيع الملطخ بالدماء». كثيرون يريدون ثورة تشبه أمنياتهم، وينسبون ثورات الأماني هذه إلى نموذج لثورة غير موجودة في التاريخ. لا ثورة دون قوة أو عنف. ويتحدد منسوبها وفق نمط ردود فعل القوى المضادة للثورة. العشرة أيام التي هزّت العالم في ثورة أكتوبر البلشفية بروسيا افتتحت أربع أو خمس سنوات من حروب التدخل والاقتتال الأهلي والمجاعات والكوارث وتركت أعطاباً  كبيرة على التجربة السوفياتية ذاتها. ثم انه لا يوجد ثورة تنجح بالكامل أو تفشل فشلاً كاملاً. ثورة ربيع ١٩٦٨ الطلابيّة في فرنسا وسائر العالم غيّرت مصائر شعوب بأكملها وتركت بصماتها على الحضارة الإنسانية في نواحي عديدة ومع ذلك فإنها لم تنتصر سياسياً بأي معنى من المعاني. وأول ثورة ديمقراطية قامت في التاريخ كانت العام ١٦٤٠ في بريطانيا. فلنقس كم اقتضى الأمر من الوقت حتى يصير مجلس العموم البريطاني السلطة الراجحة ضد سلطة مجلس اللوردات الوراثية؟ ماذا عن الثورة الفرنسية؟ مجموعة أندية وبروليتاريا ناشئة انتهت بتعادل في القوى وباقتتال بين القادة والتكتلات ما لبثت أن أتت بدكتاتور، ومن ثم العودة إلى الحكم الملكي. وقامت ثلاث ثورات بعدها، تستمد شرعيتها من ادعاء تحقيق أهداف الثورة الأولى أو الأصلية، قبل أن يستتب الأمر للنظام الجمهوري الديمقراطي مطلع القرن العشرين.

م.ع: لطالما تحدثتَ عن عدم قناعتك بأن المثقف هو الذي يتعاطى بالثقافة العليا، كما أنك تذكر التأثير العميق لغرامشي عليك، وتتحدث عن عبقرية شعبية يتجاهلها عادة المثقفون العرب. برأيك، هل ينسحب هذا التجاهل ليفسر أيضاً ضعف انخراط بعض المثقفين في الثورات الحالية، أو على مواقف بعضهم المترددة بل والمشككة أحياناً بالقدرة على إنجاز أي تغيير؟ أم ربما هو محك لم نعرفه من قبل لإعادة تعريف المثقف؟ ودوره؟

ف.ط: إن نقدي يدور أيضاً حول قيمة مُضافة تُعطى للمثقف في بلادنا، بما هو مثقف، لست أعلم إن كانت موجودة في أي مكان آخر في العالم. وهي أن ينسب إليه الوعي والذكاء والضمير والترفع عن المصالح والاستقامة. في هذا الرأي انتحال امتياز وقيم تنطوي على مقدار كبير من العصبية المهنية ومن الاستعلاء غير المبرر. ثم انه يسهل الانزلاق من المثقَف (بالفتحة على القاف) إلى المثقِف (بالكسرة تحت القاف) ما يسهل إعطائه تلك السلطة التربوية الفكرية على الناس. المثقفون فئة اجتماعية تمتهن العمل الذهني ضمن تقسيم العمل الاجتماعي. واحتلالهم ذلك الموقع الذهني في توزيع العمل ضرب من الامتياز يعفيهم من العمل اليدوي. وهي فئة واسعة - لا تقتصر على ما يمكن تسميتهم المثقف العام أو الأديب أو الفنان -  تخضع في شروط معيشتها لقوانين وآليات لغيرها من الفئات. وهنا يجب التنبه إلى أننا في مرحلة تحوّل نوعية في نوع المثقف. فقد انتهى إلى حد بعيد نموذج المثقف بما هو أستاذ المدرسة في الريف أو الممارس لإحدى المهن الحرة، العامل على نقل الحداثة والتقدم إلى الناس.  يحل محله الآن الإعلامي والباحث والأستاذ الجامعي والخبير والاختصاصي في مجالات العلوم المختلفة والمهندس الالكتروني، الخ. ولهذا التحول مستتبعات كثيرة إن من حيث الدور أو المهمة النقدية أو حتى من حيث القدرة أو عدم القدرة على إنتاج المعارف. في الثورات، مقياس الحكم على المثقفين هو في أي موقع يقفون: مع الشعب أو مع الأنظمة؟

م.ع: هناك من يقول أننا بحاجة لمسافة زمنية ونقدية من الحدث تسمح بالإسهام الثقافي أو المعرفي. في مقدمة كتابك "الديمقراطية ثورة"، تُفند هذه المقولة، وتقول أن الإسهام أثناء الأزمنة الاستثنائية عبر إبداء الرأي ومحاولة التأثير ضرورة.

ف.ط: أعتبر الثورات حدثاً معرفياً المطلوب استخراج معانيه وإعادة تقديمه. والمقصود بالمسافة النقدية أنها ذهنية وليست زمنية. لا يمكن تأجيل هذه المهمة لأن الثورات أحداث تاريخية نادرة وجذرية تقلب أحشاء السلطة والمجتمع رأساً على عقب وتسمح بإلقاء نظرات نادرة داخل آليات تشغيلهما. ولكن المسافة النقدية ليست نقيض الالتزام بالثورات. من يرى أن مساهمته الرئيسية هي في مجال الإنتاج الفكري، والمثقف النقدي تخصيصاً، مطالب بأن يتعاطى مع الثورات بما هي ذاتها عملية نقدية لربع قرن من الايدولوجيا المتعولمة المفروضة علينا وما رافقها من أوهام وخرافات وأنصاف حقائق ومفاهيم فجة ومسطحة، ومن الاستكانة والركود والامتثال الفكري أو التبعية.

م.ع: وأنت الشديد الريبة بالموقف الأميركي من الثورات العربية قاطبة، ومن الأزمة السورية بشكل خاص، وكذلك الأمر بما يتعلق بمواقف الروس وحلفاء النظام. كيف ترى السبيل إلى تحقيق السوريين، في وحدتهم القاسية هذه، لأهداف ثورتهم الأساسية في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؟

ف.ط: لا توجد حركة تحرر بالعالم أنجزت أهدافها دون أن تُحدث أثرا لها في البلد المستعمِر، أو في منظومة الهيمنة العالمية التي يرتبط بها ذلك البلد. فيتشكل فيه تيار يرى أن الرضوخ للأمر الواقع والقبول باستقلال البلد المستعمَر، بات من مصلحة البلد المستعمِر نفسه. لم تنل الجزائر الاستقلال، رغم فداحة التضحيات، إلا بعد أن استولدت في  فرنسا تياراً مثلته الديغولية، فاوض على الاستقلال وإنهاء الاحتلال على اعتبارها باتت ضرورة فرنسية. قد تلتقي مصالح حركة تحرر أو حركة ثورية مع موقف أميركي أو غربي في مرحلة تاريخية معينة. أو قد تفيد حركات التحرر والثورات من حياد أو إهمال السياسة الأميركية لتقتنص انتصارا لها. ليس هذا هو الحال عندنا. ما تقوم به الولايات المتحدة هو محاولة إنقاذ الأنظمة بتجديد جزئي للنخب. والتجديد الجزئي بالنسبة لها مزيج من النخب القائمة، بما فيها النخب العسكرية، ومن النخب الرأسمالية المؤمنة الإسلاموية.  بعد أربعين سنة وتضحيات ضخمة، بالكاد نجحت بضعة بلدان في تغيير رؤسائها وبعض قوانينها دون الأساسي في أنظمتها. من هنا يجب أن نتحلى بالحذر الشديد من صيغ الحل السياسي في سوريا. فبدون إنهاك هذا النظام وفرض تنازلات كبيرة عليه، فأنت أمام خلطة بعثية عسكرية إسلامية قادمة مفروضة عليك برعاية أميركية خليجية. هاجسي الآخر هو الشباب. أين وماذا سيكون دور الشباب؟ هذه ثورة شباب أولاً. هاهم يعودون بأشكال احتجاجية أو تنظيمية مختلفة في اليمن وتونس ومصر، الأمر الذي يجعلنا نترقب موجة ثانية من الثورات. آن الأوان للمعارضة غير الإسلامية أن تبلور رؤيتها لمستقبل سوريا وان تميزه تمييزاً واضحا عن المعارضة الإسلامية. من غير المقنع القول: «عندما نصل إلى السلطة، نفكر في الأمر». أتمنى على المعارضة السورية أن تستفيد من كم الدروس التي نراها في الثورات الأخرى، وأن تجد طريقة تتجاوز فيها الحلّين اللبناني واليمني. وأن تبتكر طريقة لتأمين حقوق الأفراد بناءً على حكم الأكثرية السياسية ولأخذ حقوق الجماعات والأقليات بالاعتبار في آن معاً. لا مهرب من هذه الاستحقاقات. وغير صحيح بالمرة أن ننكر وجود مسألة طائفية في سوريا لمجرد أنها كانت مكبوتة ومدفونة بالإنكار والادعاء العلماني. أضف إلى ذلك أن الحرب والقتال والعنف ولّادة هويات وعصبيات قاتلة. ولا يكفي الإفادة من التجربتين اللبنانية واليمنية. هناك التجربة العراقية بأمثولتها الواضحة. طائفة عوقبت جماعيا بجريرة نظام، فلجأ بعض أهلها، من عسكريين وغير عسكريين، إلى القتال بكل الطرق، وأحياناً أبشعها، للردّ على التهميش والعقاب الجماعي. هذا درس آخر للأخذ بعين الاعتبار.
 

 [نشرت المقابلة في موقع "مؤسسة هينرش بول" وتعيد جدلية نشرها بالاتفاق مع الكاتب]


Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

Trending Articles