تبدو مناظر الشوارع في دمشق، تلك التي كانت تنتمي إلى فترة العهد الوطني بعد الاستقلال، أشبه بالبطاقات السياحية بالأسود والأبيض، في الوقت نفسه لا تنقصها الألوان الطبيعية، حتى أن اللون الأسود يبدو دخيلاً عليها، مشرقة على نحو يدعونا إلى الحنين إليها، لا سيما وداعتها الآسرة، التي بتنا نفتقد إليها في زمن الصخب، ليس صخب الموسيقا، وإنما أصوات تحليق الطيران الحربي وقصف راجمات الصواريخ، التي لا تتوقف طيلة النهار والليل، حتى اعتدنا على أن نصحو عليها صباحاً وننام على وقعها ليلاً.
تركز الكاميرا على ساحة المرجة وعربات الخيل مصطفة حوالي النصب التذكاري، باصات شركة "نرن" تنتظر المسافرين. يظهر بناء السرايا والعدلية، وفندق السمير أميس، والمدخل الذي يقودنا إلى امتدادات سوق ساروجة، بدءاً من زقاق الأحمدية، فطلعة جوزة الحدباء، وقد نعرج على سوق العتيق ومنه إلى سوق الهال. تركز الكاميرا أيضاً على شارع فؤاد الأول، في زمن الانتداب أطلق عليه شارع الجنرال غوابييه، ونُسي مع ذهاب الجنرال. أيام العدوان الثلاثي على مصر أصبح اسمه شارع بورسعيد، ومن ثم لا يدري أحد ما أطلق عليه، ربما كان شيئاً بعثيا اخترعه الحزب الحاكم. يمتد الشارع تحت اسم "سعد الله الجابري" حتى بناء محطة الحجاز، ينعطف إلى اليمين نحو أزقة الحلبوني، فالجامعة السورية. على الطرف المقابل شارع النصر، المؤدي إلى سوق الحميدية والحريقة، فأسواق "تفضلي يا ست"، ثم المسكية والبزورية.
وإذا عدنا إلى شارع فؤاد الأول، كان ثمة أشجار على جانبيه، من الأنواع التي اختفت حتى من غوطة دمشق؛ ثم سكة الترام تخترقه في منتصفه. على الرصيف اليميني مقهى البرازيل، تقبع إلى جوار مدخله بسطة بائع الجرائد والمجلات، وعلى امتداده جامع الطاووسية والمكتبة العمومية، ومحلات أحدها لبيع التحف الشرقية، فمطعم الصفا، فبناية الحايك. نتوقف عند جسر فكتوريا ونهر بردى. على الرصيف المقابل، زقاق المتنبي، حيث كوبانية شركة الترام البلجيكية، تواجهها مكتبة دار اليقظة العربية، وسينما الكندي، نزولاً إلى مقهى الهافانا وسينما الأهرام والنادي العربي.... في الاتجاه المعاكس، ينبسط شارع الفردوس، فساحة يوسف العظمة، ومن ثم بوابة الصالحية، وامتداد شارع 29 أيار. معظم ما أتينا على ذكره من أزقة ومحلات اختفى، ذهب به التنظيم، ابتلعه سماسرة أمانة العاصمة وتجار العقارات.
تلك هي الشوارع والأسواق الحيوية لمدينة دمشق ضمن مساحة لا تزيد عن 2 كم مربع إلا قليلاً، تتمركز فيها الرئة الثقافية والفنية، مسارح سرعان ما تظهر وسرعان ما تختفي، دور سينما تعرض الأفلام المصرية من فيلم "سلامة" مع مناظر الحج إلى أفلام ليلى مراد وأنور وجدي، وعبد الحليم حافظ، بالإضافة إلى الأفلام الأمريكية والفرنسية والهندية، مغامرات في البحار، غراميات رومانسية، ميلودرامات حزينة. ومكتبات تعرض على واجهاتها ما يردها من كتب عربية وإنجليزية وفرنسية من بيروت والقاهرة ولندن وباريس... بأغلفتها الملونة، المترجمة والموضوعة من تأليف شتاينبك وتولستوي ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ومكسيم جوركي وجان بول سارتر.
مثلت هذه المنطقة الصغيرة من دمشق جغرافية تاريخ أهم الاحتجاجات والمظاهرات سواء الآتية من مكتب عنبر أو القادمة من الجامعة والتجهيز الأولى والمتوجهة نحو البرلمان أو السرايا، أو المندوبية الفرنسية. لا يمكن الاطلاع على ما يجري في كواليس المشهد السياسي السوري إلا في مقهى البرازيل حيث يجتمع السياسيون والوزراء المخضرمون، والصحافيون المعروفون، والضباط المسرحون من الجيش، مع موظفين كبار وأدباء وشعراء ظرفاء لا ينجو أحد من ألسنتهم، يتناقشون ويتهامسون، ويفبركون الأخبار والشائعات ويطلقون النمائم والنكات، يمارسون مواهبهم السياسية في انتقاد مرافعات النواب في البرلمان، وتوقع موعد الانقلاب القادم.
ينعكس المشهد ذاته على نحو مقارب في مقهى "الهافانا"، حيث الدخان والوجوه المكفهرة والجدالات الحادة، يرتاده شباب من أحزاب مختلفة، الحزب الوطني، حزب الشعب، الاشتراكي التعاوني، البعث العربي، والعربي الاشتراكي، والشيوعي...الخ، ينتقدون الحكومة وإجراءاتها الأخيرة، ويتصدون للقضايا السياسية الساخنة، ولا تخلو مناقشاتهم من جدل حول التاريخ واللغة والقومية العربية والرسالة الخالدة... والتصدي للأحلاف الغربية.
كانت دمشق مسرحاً يؤمه القادمون من أنحاء سورية، كي يلعبوا أدوارهم الطموحة على خشباتها؛ حالمين بقيادتها نحو المستقبل، سواء بالانتخابات والديمقراطية الوليدة، أو بالقوة، بالمؤامرات والانقلابات. سياسة حرق المراحل كانت هي المعتمدة، فانتصرت الانقلابات وجاء العسكر على ظهور الدبابات.
وكانت أيضاً مسرحاً يؤمه الباحثون عن الصفقات المخزية والمناصب المؤثرة والوساطات المشبوهة، فتبدو مدينة المغامرات الطائشة، والتجارات المشروعة وغير المشروعة. وهناك من يأتي إليها كي يلعب أدواراً عظيمة الشأن، ثقافية وإنسانية واجتماعية، فمثلما استقبلت دمشق الانقلابيين والانتهازيين والنهابين، استقبلت رموز الحركات القومية والعلمية والثقافية، مثل: زكي الأرسوزي، وبدوي الجبل، وعبد السلام العجيلي، والصافي النجفي، وصدقي إسماعيل، وحنا مينة وغيرهم. لم يأتوا بمنطق الغزاة، جاؤوا كي يقدموا للمدينة أفضل ما لديهم، دافعوا عنها وشاركوها مصائرها، وصنعوا أمجادها الحقيقية.
وجدت الانقلابات مجالها الحيوي، ونقاط تمركزها الاستراتيجية، بين معالم دمشق؛ دبابة تقف عند سور البرلمان، وأخرى أمام درج بنك سورية ولبنان، وثالثة أو أكثر عند قصر الضيافة، وكتيبة مشاة تتخندق وراء أكياس الرمل عند مبنى الأركان القديم في الصالحية، وفي شارع شكري القوتلي، ولا ننسى القوة الضاربة سواء عند مبنى الإذاعة القديم في شارع النصر، أو في ساحة الأمويين عند مبنى التلفزيون الجديد.
لا يمكن الكتابة عن العقود الماضية وما جرى فيها من متغيرات، دون أن تخطف دمشق الحدث الرئيسي على المستويين السوري، وإلى حد ما العربي. ففي حين مثلت المسرح الصاخب للصراع بين العسكر والأحزاب، مثلت أيضاً الصراع بين القديم والجديد، البرجوازية والاشتراكية، وتحرر المرأة، والمخاض الديمقراطي، والنهوض القومي، وشعلة اليسار وانكسار الأحلام ...
أما عالم دمشق الجواني، فلم تمنحه إلا لهؤلاء الذين أقاموا فيها، من أي مكان جاؤوا، أحبوها وأصبحوا جزءاً منها. أما العابر فلم يقتنص خصوصياتها، قد يعجب بها السائح، مع أنها لا تُبرز سوى مظهرها المخادع، الفاتر غالباً، الهادئ والمراوغ، المعسول والمبذول للجميع. لذلك تبدو دمشق للكثيرين مدينة محيرة، ففي نظر البعض متحفظة ومذعورة، كما وصفها وافدون إليها، وهذا ليس وليد العقود السابقة، بل قرون سبقت، ابتليت فيها بالغزوات والفاتحين الدمويين القساة. وتبدو للبعض الآخر منفتحة وودودة، لا تبخل عليهم بأسرارها. ومع هذا، أتقنت دمشق إخفاءها، وربضت وراء أسوار من التمويه، يبدو في أسلوب عمارتها وحاراتها الملتوية.
للمكان الدمشقي خصوصيته، فللحارة باب ضخم يوصد بالترباس والأقفال، ينفتح على أزقة وزواريب ودخلات ضيقة ومتداخلة. وللبيت الدمشقي تقاطيعه: الباب الذي لا يوحي بما خلفه، الدهليز المعتم، المؤدي إلى باحة الدار والليوان، جنة الأزهار والورود وأحواض العرائش والأشجار المثمرة. القسم التحتاني من البيت؛ القاعة والصاليا، المطبخ، ثم الدرج المؤدي إلى الفوقاني؛ غرف النوم، الفرنكة، ومن ثم السطح. عدا ما يحتويه من دخلجات مثل، الداكونة، بيت المونة، الليوك، الخص... في كل زاوية ذكرى أو ذكريات، تختزن ما لا يبتذل ولا يباح به.
الشوارع لم تتغير كثيراً، كانت هادئة حركة السير قليلة وغارقة في النعاس، اليوم تشكو من الازدحام وغارقة في الوجوم. دمشق المدينة الحالمة، هذا ما كانته، وهو زمن يبدو الآن كأنه لم يكن، أشبه بحلم ليلة صيف، لن يتجسد أبدا، بالمقارنة مع الثكنة العسكرية التي أمست عليها اليوم، منذ بدأ الربيع العربي واندلعت الاحتجاجات في أرجاء سورية. باتت دمشق تعج بمناظر فظة ومستهجنة، الأسوار الاسمنتية العالية، استحكامات الأكياس الرملية، شبيحة بعضلاتهم المفتولة ولحاهم المقرفة ونظراتهم المفترسة، وعسكر بلباس الميدان الكامل، يستوقفونك بخشونة، يرطنون بالشتائم، ويستفزونك بغلاظة، يسددون أسلحتهم نحوك ويسألونك عن هويتك.
ومنهم أيضاً الكثيرون الذين يؤدون الخدمة العسكرية، تلاحظهم غير راغبين بما يقومون به، يتعاملون مع الناس بلطف، يتبادلون الكلام معهم بخجل، متعبين يعانون من الحر والبرد، وأيضاً من الجوع. عندما تصادفهم تطمئن، ليسوا قلة، ولا نادرين. هذا جيش البلاد الذي جرى تشويهه. هؤلاء الشبان معرضون للموت من الجانبين، من ضباطهم إذا راودتهم الشكوك فيهم، ومن الثوار لأنهم جنود.
دمشق مدينة مفتوحة على الدمار، مداخلها ركام وحطام. الأحزان لأهاليها، والأفراح لمؤيدي النظام، يطلقون الرصاص بوفرة وكثافة احتفاء بخطابات الرئيس. عربات الزيل كتب عليها"الأسد أو لا أحد"، "الأسد أو نحرق البلد". الجنود يهتفون: "الله، سورية، بشار وبس". قصف وانفجارات وتفجيرات، طائرات الميغ الروسية تحلق في السماء، يُسمع دويها، ثم تُرى بالعين المجردة، تطلق صواريخها من بعيد على أبنية يظللها الغبش الرمادي، لتظهر بعد قليل مآذن الجوامع تبتهل إلى السماء من خلال أعمدة الدخان المتصاعدة. طائرات الهيلوكوبتر المحملة بالبراميل المتفجرة تنطلق نحو داريا والقابون والغوطة... أو تعلو في السماء، وإذا انقضت على الأرض فلتمشط البساتين والحقول، كأنها تقوم برش المبيدات على الحشرات، بينما هي تطلق الرصاص على كل ما يتحرك. جبل قاسيون المطل على منظر دمشق الساحر في الليل، زرع بمنصات لإطلاق الصواريخ. القناصون يعتلون الدوائر الحكومية ومعظم الأبنية السكنية العالية. الطرق الرئيسة والفرعية والأزقة والساحات والأسواق تتقاسمها اللجان الشعبية وشبيحة مدججون بالأسلحة وجعب الذخيرة. تراهم جالسين على الكراسي والكنبات المنهوبة ، يشربون المتة والشاي ويدخنون الأركيلة، وخلفهم كتب على الجدار: "شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد".
كل من يعتقل، بصرف النظر عن السن أو المكانة أو العمل، سيكون مصيره مجهولاً تماماً، يعتمد على الحظ والمصادفة. في الحروب الهمجية، الحظوظ معدومة، والمصادفات قاتلة. حلقة مفرغة، ودوامة من أخبار تحطم الأعصاب، صور شهداء شبان في زهرة العمر، تركوا دراستهم الجامعية والتحقوا بالثورة، أو في جيش النظام قتلوا أثناء دفاعهم ليس عن الوطن. عائلات بأكملها ماتت تحت الركام، ناشطون شبان أعدموا ميدانياً، معتقلون على الحواجز أو أثناء المداهمات قتلوا دعساً بالبساطير، وفعست رؤوسهم بالأحجار. متطوعو إسعاف وإغاثة اعتقلوا وأعيدوا جثثاً هامدة. أطفال قتلوا برصاص القنص عن قصد، نساء صرعى أجسادهن ملقاة في الشوارع لا يستطيع أحد الاقتراب منهن خوفاً من القناصة.... سعيد من يجد من يدفنه سواء في قبر أو حفرة، بدلاً من أن يترك طعماً للكلاب.
كل شيء تغير، سكان العاصمة ازداد عددهم مع أن الكثير من العائلات هجروها، حل محلهم نازحون من الأرياف، احتلوا الحدائق والمباني المهجورة، ينامون في العراء مع قليل من الأغطية، يقدمها إليهم المارة والجمعيات الخيرية، وينتظرون من يقدم لهم وجبة طعام، أو يدبرون شيئاً ما يأكلونه. في رمضان والأعياد قد تكون حظوظهم أوفر، ففي إطعامهم ثواب.
الكتل الاسمنتية متناثرة في الشوارع أمام الأبنية الرسمية والمؤسسات الحكومية. الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش منتشرة عند كل بوابة وحي وزقاق. نقاط عسكرية تدل إليها لوحات كتبت عليها عبارة "يمنع المرور". المؤسسات الحكومية تحولت إلى معسكرات للجان شعبية وقوات الدفاع الوطني ينطلقون منها لعمليات المداهمة. يقدر النشطاء ان حوالي 300 حاجز ونقطة تفتيش متوزعة في مداخل ومخارج الأحياء. أطراف دمشق الساخنة أغلبها تسيطر عليها المعارضة بدءاً من داريا والحجر الأسود مروراً بنهر عيشة جنوب دمشق. بات مألوفاً مشهد ازدحام السيارات وتعالي صيحات السائقين من طابور طويل قد يستغرق ساعات. أصبح أمراً عاديا انقطاع تيار الكهرباء ومياه الشرب وخدمات الانترنت والاتصالات، ألفه سكان دمشق.
دمشق اليوم مدينة محتلة، لميليشيات محلية ولبنانية وعراقية وإيرانية يصعب حصرها ذات صبغة مذهبية، التاريخ عاد بها إلى عصور بادت، واستردت حظوتها في زمن ليس زمنها. يبدو زوال دمشق قريباً، وحلّ أوان الوداع.
أهلها يعتقدون أنها باقية، رغم أنها لبست لباساً موحداً، لباس الحرب والموت.