بالرغم من ساعات المديح والاحتفاء الكثيرة التي أُغدقتْ على صديقنا العزيز ورفيقنا إقبال أحمد، والتي يستحقها،هناك الكثير الذي يمكن أن يُقال عنه أيضاً. وأشعر بالإطراء لأنني أستطيع، على الأقل، أن أقول المزيد. إن ما لفت نظري أكثر من غيره هو أن إقبال تخطّى واجتاز حدوداً أكثر من معظم الناس، إلا أنه حافظ على جوهره في جميع الأمكنة والمواقف والسياقات الجديدة. وليس سبب ذلك الهوية الإثنية أو الدينية مطلقاً، ولا يتعلق كثيراً بالصلابة المألوفة التي يتميّز بها المواطنون الأقوياء. ذلك أنّ جمع إقبال الخاص بين التألق الفكري والشجاعة، وبين التحليل الدقيق والرفيع والحضور الإنساني الوديّ المتواصل، جعل منه، إذا ما استخدمنا عبارة من رواية كيملروديارد كبلنغ، “صديق العالم كله”.
حين أتذكر الأمكنة والأزمنة الكثيرة المختلفة التي قابلتُ فيها إقبال، في شيكاغو وبيروت ونيويورك وتونس وأمهرست، أتعجّبُ كيف كان يتحول بسهولة إلى شخص جديد يعمل في موقف جديد كلياً، وكيف يحافظ على الخصائص الجوهرية التي وسمتْهُ طول الوقت كصديق ورفيق حقيقي. فقد كان إقبال يمتلك دوماً الوقت للطلاب والشبان والأصدقاء والناس المحتاجين والشركاء في الصراع. ولم يسبق أن عرفتُ أحداً ضاهاه في كرمه بوقته، فهو لم يخذلني أبداً بالقول إنه مشغول جداً أو لديه التزام آخر. وقد طلبتُ منه أموراً كثيرة، وكان دوماً مستعداً للإصغاء والمساعدة في تحليل مشكلة أو موقف صعب، أو معالجة مخاوف، أو مأزق شخصي أو سياسي ما.
سأورد مثالاً واحداً عن الثقة التي ألهمها والحرص الذي خصَّ به أصدقاءه: في عام 1987، رغبت بعض الشخصيات اليهودية المعروفة بدعمها لإسرائيل بعقد جلسة نقاش خاصة معي. ظننتُ أنهم كانوا محتارين أيضاً حيال النوايا الفلسطينية، وخاصة حيال استمرار المقاومة الفلسطينية للممارسات الإسرائيلية. وكان من اللافت أن اجتماعنا عُقد قبل بضعة أشهر من اندلاع الانتفاضة. وكنتُ منخرطاً في مقابلات سرية وغير معلنة مع قادة إسرائيليين وأميركيين يهود، ولم أكن متيقّناً إن كنت سأواصل ذلك، بما أن جميع اللقاءات السابقة كانت غير مفيدة وباءت بالفشل في معظم الأحيان، فقد كانت الفجوة كبيرة بيننا، كفلسطينيين مستقلين بشكل نسبي بدون كثير من السلطة والدعم التنظيمي، وبين الأعضاء اليهود المتدينين والمستقرين في ظل دزينة من منظماتهم وعلاقاتهم المتميزة مع إسرائيل وانتماءاتهم الأخرى.
كنت في ذلك الوقت قد جعلتُ من إقبال معلمي الروحي في المسائل السياسية. وهكذا كان الشيء الأول الذي فعلته هو أنني سألتهُ إن كان يجب أن أوافقَ على حضور ذلك الاجتماع. قال: نعم. فطلبت منه أن يحضره معي. وفي هذه المناسبة، كما في جميع المناسبات الأخرى، وافق. وبالرغم من أنه ليس فلسطينياً، ولم يشارك في الاجتماعات السابقة، فقد بدا إقبال على الفور كأنه الشخص الوحيد الذي أستطيع أن أثق بشكل كامل بحضوره، لكي يساعد في توجيهي، ويقول الحقيقة، ويقدم صوتاً إضافياً ذا مصداقية. وأثناء الاجتماع، كان إقبال متزناً بصورة فائقة للعادة وهادئاً فيما كان يناقش تحديات واستفزازات ما كان بالنسبة لي أشراكاً ومصائد واصلتُ الوقوع فيها. وحين، في نقطة ما من النقاش الذي استمرَّ ثلاث ساعات، قال أحد الزعماء اليهود إنه بالرغم من أنه ألقى الكثير من الخطب التي وصف فيها عرفات بأنه إرهابي وهتلر، كان يعرف أنه لا يتفوه بالحقيقة، فأوضح له إقبال بشكل هادئ ومتعمّد النفاق غير المبرر الذي مارسه، وكان هذا شيئاً لن أتجاسر على فعله.
ثمة قصة أخرى تستحقّ أن تُروى: في أواخر السبعينيات، تمكنت من دعوة إقبال إلى بيروت، حيث التقى عرفات وقادة فلسطينيين آخرين، تعرفوا على الفور على مهارته وإخلاصه في التحليل. وحدث في صيف 1980، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، أن أقنع إقبال أبا جهاد، زميل عرفات والقائد العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان وأمكنة أخرى، بأن يسمح له بالقيام برحلة إلى مواقع منظمة التحرير في جنوب لبنان. فعل إقبال هذا، وبعد بضعة أيام أعدَّ تقريراً مفصّلاً لهم عن مكتشفاته. لم يتنبأ إقبال بالاجتياح الإسرائيلي الذي كان سيحدث بعد عامين، في 1982، فحسب، بل كان قادراً أيضاً، للأسف، على التنبؤ بالنتيجة.
لم تكن مهارته في المسائل العسكرية هي المثيرة للإعجاب فحسب، بل شعر أولئك القادة أيضاً أن إقبال صديق حقيقي في الصراع لا يمكن إنكار إخلاصه والتزامه، بالرغم من حقيقة أنه لم يكن من أبناء المنطقة. وكان يعرف كيف يستغل أصله الآسيوي غير الأبيض. وأنا لا أقول هذا من باب النقد، وإنما من باب الإعجاب. فقد عرف الفلسطينيون أنهم يتعاملون مع زميل مسلم. ولكن جميع من عرفوا إقبال في ظروف الصراع أدركوا أن إخلاصه وتضامنه كانا غير قابلين للتشكيك. كان عبقرياً في التعاطف. وحين كان يستخدم الضمير "نحن"، كنا نعرف أنه يتحدث ويعمل كواحد منا، ولكن ليس أبداً على حساب صدقه أو ملكاته النقدية التي كان لها الكلمة الفصل. وهذا ما جعل من إقبال رجلاً حراً إلى أقصى الحدود الممكنة.
لا يعني هذا القول إنه كان لامبالياً بمشكلات الآخرين. كان هذا عارياً عن الصحة. ولكنه قدم انطباعاً بأنه مستقل دوماً وقادر على التفكير والفعل بوضوح لنفسه وللآخرين في حال طُلب منه ذلك. إن أصوله شبه القارية في بيهار ولاهور غمستْه في آلام الإمبراطورية وفي كثير من المآسي المدمرة الناجمة عن العمل لإنهاء الاستعمار، والتي كان فيها الحقد الطائفي والعنف، فضلاً عن النزعة الانفصالية والتقسيم، بين ما هو أسوأ.
إلا أن مرارة استذكار ما فعله الرجل الأبيض، وما فعله الأخوة الهنود والباكستانيون، لم تكن أبداً جزءاً من رد فعل إقبال. فقد كان مهتماً بالإبداع وليس بالانتقام، بأصالة الروح والمنهج وليس بالتطرف الراديكالي، بالكرم وعمق التحليل وليس بالتشدد المنهجي لزملائه علماء السياسة. وكان عنوان إحدى مقالاته الأكثر أهمية، حول ريجيس دوبريه، "راديكالي لكنه مخطئ".
أهديتُ كتابي الثقافة والإمبرياليةلإقبال لأنه جسّد في نشاطه وحياته وفكره لا سياسة الإمبراطورية فقط وإنما نسيج التجربة المعبّر عنها، لا في القواعد الاقتصادية والصيغ الاختزالية، بل في الحياة البشرية. فما فهمه إقبال عن تجربة الإمبراطورية هو هيمنة الإمبراطورية في جميع أشكالها، إلا أنه فهم أيضاً الإبداع والأصالة والرؤية الخلاقة التي تُبتكر في مقاومة الهيمنة. وكان “الإبداع" و"الأصالة" و"الرؤية" كلمات محورية في مواقفه من السياسة والتاريخ.
اشتملت كتابات إقبال الأولى عن فيتنام على سلسلة من الأبحاث عن الحرب الثورية التي هدفت إلى دحض عقيدة أميركية مألوفة حول الموضوع. فالخبراء الأميركيون في مكافحة التمرد عدّوا المقاومة الفيتنامية نوعاً من الانتفاضة التآمرية، ذات الخبرة التقنية، الشيوعية والإرهابية، والتي يمكن أن تُهزم بأسلحة متفوقة، وبعقائد تعسّفية واضحة المعالم، وبالاستخدام الفعال للقوة العسكرية الساحقة. ما اقترحه إقبال كان نموذجاً مختلفاً: إن رجل حرب العصابات الثوري يلتزم التزاماً حقيقياً بالعدالة ويتمتع بدعم شعبه، وراغب بالتضحية من أجل قضية إيديولوجية عبأت الناس. ما لا تستطيع عقيدة مكافحة التمرد أن تعترف به هو أن النخب المحلية، التي لا تنسجم مصالحها مع مصالح بلادها، وإنما مع مصالح الولايات المتحدة، غير مؤهلة كي تربح حرباً ثورية. وفي ردّه على كبير منظري وجهة النظر الجاهلة صموئيل هنتنغتون عبّر إقبال بهذه الطريقة:
أدّى الركود الذي أعقب الاستقلال في البلدان المتخلفة إلى خيبة أمل جديدة ومتطلبات جديدة من غير المحتمل أن تتحقق من خلال سياسة إدارة الحدود والاستيعاب الانتقائي، وهذه حقيقة لا الولايات المتحدة ولا النخب الحاكمة قادرة على فهمها. ثمة فجوة مدركة بصورة متزايدة بين حاجتنا للتحول الاجتماعي وإلحاح أميركا على الاستقرار، بين تلهّفنا للتغيير وهوس أميركا بالنظام، بين تحركنا إلى الثورة وإيمان أميركا بإمكانية تحقيق الإصلاحات في ظل البارونات، لصوص "العالم الثالث"، بين توقنا إلى سيادة وطنية مطلقة وتفضيل أميركا للحلفاء المرنين، بين رغبتنا برؤية تربتنا الوطنية متحررة من الاحتلال الأجنبي وحاجة أميركا المزعومة إلى القواعد العسكرية... وفيما تتسع الفجوة بين أسانا وغبطة أميركا، هكذا ربما ستتسع الفجوة في منظوراتنا وأولوياتنا. وإلى أن تحدث إعادة تحديد جوهرية للمصالح والأهداف الأميركية، فإن مواجهاتنا مع الولايات المتحدة ستصبح عدائية على نحو متزايد. ويمكن أن تكون مأساوية في الدول العميلة في آسيا وأميركا اللاتينية. بهذا المعنى قد لا تكون فيتنام حالة فردية. قد تكون نذيراً بالأمور القادمة.
تنطوي هذه الآراء على تعارض بين الفكر التقليدي وغير التقليدي، وعلى تعارض أعمق بالطبع، ومتواصل، بين العدالة والظلم. فقد كان إقبال متشدداً لا يقبل المساومة في تفضيله لما يمكن أن يقدمه الفكر غير التقليدي والعادل للناس من خلال التحرير والثقافة المدعّمة والرفاهية. وليس هناك استثناءات في عدم ثقته بالجيوش الحالية والبيروقراطيات الجامدة والأوليغارشيات القوية. مع ذلك، في الوقت نفسه، وكما بيّن في مقالته العظيمة عن دوبريه، لا يكفي أن تكون غير تقليدي إن كان هذا يعني غياب الاحترام للتراث، وللسلع التي يستمتع بها الرجال والنساء، ولاستقرار الحياة الإنسانية العظيمة. كان إقبال واسع الإطلاع ومتحرراً من الأوهام بما يكفي كي يدرك أن الإطاحة بالمجتمعات من أجل الثورة فقط، دون انتباه واف إلى حقيقة أن البشر يحبون أيضاً ويبدعون ويحتفون ويحيون الذكرى، ليست إلا ممارسة متحجرة ومُدمِّرة، قد تكون راديكالية ولكنها تنطوي علي خطأ فادح.
بعد أن منح دوبريه الحق بأن يحتفي رومانسياً بفضائل كونه رجل حرب عصابات في الجبال، قدم إقبال هذه الملاحظة البوركية Burkian، المصحّحة للحماس الغرّ لشخص لم يفكر طويلاً وبجدية كافية بوقائع الحياة السياسية والاجتماعية:"إن الفضائل الشخصية وتجارب المجموعة لا تنتقل بسهولة إلى المؤسسات الوطنية والعامة". والأسوأ من ذلك، هناك المفارقة المذهلة وهي أن رؤية دوبريه غير الكافية تتُرجم بشكل تام إلى نقيضها، وهي العقيدة الأميركية في مكافحة التمرد، التي يجسّدها وولت ويتمان رستو، بين آخرين. وهكذا، بدلاً من كونها نظرية ثورية حقيقية، وحركة شعبية تجتاز الطريق كله من الانتفاضة إلى المؤسسات الديموقراطية، لا تؤدي نظرية دوبريه إلا إلى نتائج مؤقتة، وليس إلى نتائج إيجابية تتواصل في العالم الواقعي الذي يعيش فيه الرجال والنساء. وبالرغم من أن إقبال انتقد دوبريه بحدة، إلا أنه رأى في عمل الرجل، بكرم مألوف، "فتنة خالدة".
كانت معظم كتابات إقبال مصابة بطريقة ما بعدوى التجارب الهندية والباكستانية أو متأثرة بها مباشرة، ولكنها كانت متأثرة بالتجربة الجزائرية أيضاً. وقادني تهربه من التواريخ وتردده في التحدث مطوّلاً عن مآثره الشخصية إلى الاستنتاج بأن هذه الفترة كانت محورية لجميع أعماله. فأولاً، يجب أن نضع في الحسبان أهمية العامل البشري وضرورة تجاوز العدو في التنظيم بدلاً من مجرد الانتصار عليه في المعركة، وثانياً، نحتاج إلى إزالة الشرعية عن السلطة الاستعمارية أو غير العادلة، وإنشاء منظمات موازية لمساعدة الناس على العيش بعيداً عن سلطة المغتصبين. أخيراً، وهذا ما هو أكثر أهمية، نحتاج إلى تحويل بنى الحرب إلى مؤسسات ديمقراطية ووطنية. وأشار إقبال في مقالته عن الجزائر إلى نجاح العاملين الأولين وفشل العامل الثالث مضيفاً أن احتكار الرئيس الجزائري أحمد بن بلة للسلطة ثم احتكار الرئيس هواري بومدين لها بعده أديا إلى إضعاف جبهة التحرير الوطنية وتحويلها إلى بيروقراطية تتسم بالجمود، وإجرامية منخرطة الآن في حمام الدم المريع في الجزائر. ولكن بالرغم من هذا الفشل الكبير، لم يقلل إقبال من قيمة الانتصار الثوري، أو يخيب أمله في إمكانية تحرر حقيقي. يتجلى هنا تأثير فرانز فانون، رفيقه. فقد قال فانون إننا لم نطرد رجال الشرطة البيض كي نعيّن محلّهم رجال شرطة سوداً أو سمراً. يجب أن يخرج من الوعي الوطني وعي اجتماعي جديد، وهذا اختبار فشلت فيه البلدان في مرحلة ما بعد الاستعمار.
لم يتحدث أحد عن أمراض السلطة المختلفة في العالم الثالث بعمق ودقة ملاحظة كما فعل إقبال في المقالات الثلاث التي نشرها في مجلة أرب ستديز كوارترليفي 1980 و1981. فقد بقي مخلصاً لمُثُله في الثورة ولوعدها غير المنجز بخلاف كثير من المفكرين الثانويين، وما بعد الماركسيين، الذين تغص بهم المجلات الأكاديمية والليبرالية اليوم. وحين حاضرَ مع مرور الأعوام، بتعاطف ودقة صارمة، عن التسلّط العسكري في العالم العربي وباكستان والجزائر وأمكنة أخرى، فقد ساعدنا على معرفة الموقف الأخلاقي الرفيع الذي اتخذه حيال مسائل تتعلق بالطهارة والكرامة الإنسانية التي يسيء إليها أو ينتهكها طغاة مغرورون أو مفكرون مُوَظَّفون. إن الإبداع والرؤية والأصالة، الصفات التي يحترمها إقبال في صديقه الشاعر الباكستاني العظيم فايز أحمد فايز (الذي يكتب باللغة الأردية)، هي مقياس الحياة السياسية وليس شكليات حرس الشرف وسيارات الليموزين الفارهة والبيروقراطيات المنتفخة وذات القوة الهائلة، إن المقياس هو الكائن البشري وليس القانون التجريدي أو القوة اللاأخلاقية.
أعتقد أنه من الصعب التمسك بمُثل ومبادئ كهذه. إن معظم أعمال إقبال المكتوبة، ونشاطه أيضاً، حدثوا في الأوقات المظلمة. فقد حلّل بعمق حالات الدمار التي سببتها الإمبريالية والظلم في كل أنحاء العالم، وسلّط الضوء بصورة خاصة على الضعف والتدني الذي وصلت إليه الثقافات والدول الإسلامية، بوضوح لم يسبقه إليه أحد. ونجح في تذكيرنا بأن ما ندبه ليس مجرد عصبية دينية أو ثقافية، كما هي مجسّدة على نحو مغلوط في الغرب، وإنما حركة عالمية واسعة الانتشار. فضلاً عن ذلك، وبالرغم من أنه لم يكن عربياً، فقد ذكّر إقبال العرب بأن العروبة ليست قومية ذات أساس ضيق، بل تتمتع بصفة فريدة في تاريخ القوميات وذلك لأنها حاولت أن تربط نفسها بما يتخطى الحدود. فقد اقتربت من تخيّل جماعة كونية ترتبط عبر الكلمة والمشاعر فقط. ذلك أنّ أي شخص عربيّ في مشاعره ولغته وثقافته هو عربي. بالتالي، إن اليهودي عربي، والمسيحي عربي، والمسلم عربي، والكردي عربي. لا أعرف أيَّة حركة قومية عرّفت نفسها على هذا النحو الرحب.
شاهد إقبال في موقف كهذا، وتراث كهذا، تدهور الأفكار والقيم التي تجمع بين العرب والمسلمين. سأقتبس كلامه مرة أخرى. هذا ما كتبه عن حرب الخليج في 1993:
نحن نعيش في أزمنة تتسم بالنذالة. هذا هو العصر المظلم للتاريخ الإسلامي، عصر الاستسلام والخنوع، وهو يتّسم بالجنون. بدأ انحدار حضارتنا في القرن الثامن عشر حين، بسبب طريقتنا الأرثوذكسية في التفكير، قفزنا فوق عصر التنوير والثورة العلمية. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، سقطت حضارتنا.
كنت شاهداً على الاستسلام طيلة حياتي وتخيلت أزمنة كثيرة، (كفتى في العام 1948، وشاب في 1967... وكشخص قارب منتصف العمر في 1982) أننا في النهاية اصطدمنا بصخرة القاع، أنه في المرة التالية حتى ولو انحدرنا فإننا سننجح في أن نفعل هذا بمقدار ضئيل من الكرامة. ولحسن الحظ، لم أحتفظ حتى بوهم بسيط عن "أم المعارك" التي أعلن عنها صدام حسين بصخب.
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فقد انتقد انحطاط ما دعاه مرة بالفاشية والنزعة الانفصالية، وهما اتجاهان قابلان للتحديد بوضوح، عدوان ظاهرياً ولكنهما متناغمان باطنياً، في باكستان. فقد نهب رئيس الوزراء الباكستاني السابق ذو الفقار علي بوتو وعائلته، والرئيس السابق الجنرال ضياء الحق وحاشيته، البلاد وجردوا السكان من الأخلاق. وحاولوا إخضاع ثقافات المكوِّن الثوري في البلاد ولكنهم فشلوا، ولكن على حساب مزيد من الدم والثروة. وفي جميع الأمكنة، كما في أنحاء العالم الإسلامي، حرَّضوا على صعود التطرف الإسلامي هذا إن لم يكونوا قد سببوه بالفعل، وقد شجب إقبال ذلك دوماً من موقعه العلماني.
كان إقبال مقاتلاً وناشطاً على الدوام، ولهذا لم يستسلم أو يستقيل. واصل الكتابة بجدية وفي 1994 أطلق مشروعه الكبير لتأسيس جامعة جديدة في باكستان، سماها “الجامعة الخلدونية” احتفاءً بالمؤرخ العربي العظيم ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون. وفي هذا المشروع وفي حماسه له، لم يكن إقبال دون كيخوتة آخر، يحارب طواحين الهواء، بل رفع (مثل المفكّر الماركسي غرامشي) شعار "تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة". كان هذا جزءاً من كونه نادراً، ويعرف كيف ينقذ الجوانب الإبداعية في التراث دون وهم أو مَسْرَحة ميلودرامية للذات. فهو يرى أن الإسلام والعروبة والمثالية الأميركية كنوز يجب أن نحافظ عليها ونستفيد منها بالرغم من طغاة كضياء الحق وهنري كيسنجر، اللذين كانت مناوراتهما وسياساتهما ذات الدم البارد تَسِم كل ما تلمسه بالانحطاط وتدفعه إلى السقوط.
هناك شيء فعله إقبال مسّني وساعدني أكثر أي شيء آخر فعله أو كتبه. كان هذا الشيء دفاعه البطولي عن شعبي الفلسطيني، وإحساسه المتواصل بالتضامن معه. وكان إقبال، بالنسبة لكثير من اللاجئين، سكان المخيمات، بؤساء الأرض الذين نسيهم قادتهم وأشقاؤهم العرب والمسلمون، أحد أضوائهم الهادية. ومن أجل هذا، لا يوجد فلسطيني يستطيع أن يشكره بما يكفي. فقد شاهدته مع شبابنا وقادتنا ومفكرينا وأولادنا وعجائزنا. وكان متعاطفاً معهم جميعاً، واستطعت أن أرى هذا في أعينهم، وقد احتفوا بشجاعة هذا الإنسان وتألقه وإنسانيته الغزيرة والنقية. وثمة ما يستحق الذكر أيضاً وهو أنك حين تصارع من أجل فلسطين، كما فعل إقبال، فإنك لا تحصل على المكافآت المادية، أو حتى الفكرية للصراع. إن فلسطين قضية لا تحتاج إلى شكر، قضية إذا خدمتها بصدق لا تحصل على مقابل سوى الاحتقار والانتهاك والنفي التعسّفي. وقد عانى إقبال من كل هذه الأمور. فتضامنه العلني غير المساوم معنا كلّفه غالياً، ليس فقط في الساعات والأيام والشهور من الجهد المضيّع؛ ليس فقط في الخيبات والميتات والأخطاء، التي شوّهت حياتنا، ربما بشكل ميؤوس منه؛ ليس فقط في الاستسلامات اللانهائية والإذلالات، وفشل العقل والتخطيط، وإنما أيضاً (وهذا ما يجب التشديد عليه، بما أن إقبال لن يفصح عن هذا أبداً) في الكلفة التي تحمّلها، في مهنته ووظيفته، وربما في كتابته. إن القضية الفلسطينية هي القضية الأقسى والأكثر صعوبة التي يمكن أن يتبناها المرء، ليس فقط لأنها عادلة فحسب، بل لأنها عادلة والتحدث عنها بصدق ودقة، كما فعل إقبال، يشكّل خطراً.
هناك كثير من الأصدقاء يتجنبون هذا الموضوع، وزملاء كثيرون لا يريدون أي جدل حول فلسطين. وهناك كثير من الليبراليين اليمينيين الذين يمتلكون الوقت للبوسنة والشيشان والصومال ورواندا وأفريقيا الجنوبية ونيكاراغوا وفيتنام وحقوق الإنسان والحقوق المدنية في كل مكان على الكوكب الأرضي، ولكن ليس لفلسطين وللفلسطينيين. ولكن إقبال ليس من هذا النوع، مما سبب الاستياء والخزي لكثير من أصدقائه. فقد كتب وتحدث وطرح الموضوع باستمرار كطفل رفض إرهاب أولياء الأمر ونجح في التلفظ بالسر الكريه للأسرة الذي كان الجميع يحاولون إخفاءه. ومن أجل كل هذا، أشعر أنا وكثيرون منا، بالامتنان الشديد، ولن ننسى أبداً ما قاله إقبال وفعلهُ. وكان الجميل في الأمر أنه لم يكن مُشجِّعاً عاطفياً أو حماسياً. كان صاحب موقف نقدي، وكان ناقداً متزناً، وأحياناً متشائماً، لصراعنا من أجل تقرير المصير؛ ولم يكن سلبياً أبداً، وإنما كان مستعداً على الدوام لتقديم اقتراحات إيجابية، بارعة ورؤيوية أحياناً (لكننا لم نتبن أياً منها، مما يسبب لنا خزياً أبدياً).
تأثرت دوماً وذُهلتُ في غالب الأحيان من رقة وحساسية مواقف إقبال إزاء اليهود الإسرائيليين. فأثناء تلك المقابلة مع القادة اليهود في 1987، حاضرَ أمامهم عن الحقيقة التي تواجهها، كما عبّر عن الأمر:"جماعتان عاشتا المعاناة". وهكذا فقد كانت قدرته على فهم آلام جميع البشر كاثوليكية وغير مقيدة بحيث أنه لم ينحدر أبداً إلى اعتناق نظريات المؤامرة أو المعاداة المباشرة للسامية. على العكس، كان هناك دوماً نوع من النبالة الحقيقية في ما كان يقوله لليهود الإسرائيليين. وقد عبّر دوماً عن هذا الانتباه الخاص إلى اليهود غير الإسرائيليين، الذين كان المحتمل لولا ذلك أن يتخذوا موقفاً عدوانياً من حدة نقده المضاد لإسرائيل.
صاغ في السبعينيات اقتراحاً ذكياً جداً، ينسجم تماماً مع إيمانه بالنضال السلمي، وهو أن منظمة التحرير الفلسطينية يجب أن تحاول تنظيم مسيرة نحو الحدود الإسرائيلية في الأردن ولبنان وسوريا. ألهمتهُ مسيرات الحقوق المدنية العظيمة في الستينيات، وهذا ما جعله يحثّ عرفات ورفقاءه على تعبئة أكبر عدد ممكن من الناس، والسير دون سلاح إلى الحدود، بلافتات مكتوب عليها:"نريد العودة إلى الوطن". أتذكّر النظرة على وجوههم، حين شرحتُ بصبر اقتراح إقبال، نظرة عدم التصديق والذعر الخفيف، وخاصة حين شدّدتُ على الحاجة إلى وسائل سلمية ومنظمة منضبطة. حدث هذا في وقت كان إقبال ينتقد فيه بلا رحمة عبادة البندقية، وسوء استخدام شعارات مثل "الصراع المسلح"، والنزعة العسكرية الزاحفة، المضعفة للتفكير والتنظيم الفلسطينيين. وفي حلقة نقاش عُقدت في بيروت لإقبال، اقترح بجدية استراتيجية لإطلاق حملة منظمة لحقوق الإنسان الفلسطيني في الولايات المتحدة. قال إننا نحتاج إلى معلومات مفصّلة عن جميع المقاطعات الكونغرسية في الولايات المتحدة، وعن أعمال المؤسسات المدنية المهمة كالكنائس والكليات ونقابات العمال، وكل هذا يمكن أن يُنجز بعشر الموارد التي كانت تُبدد على بطاقات الدرجة الأولى والبيروقرطية المتسعة، وزجاجات ويسكي البلاك ليبل المتعاقبة. وبعد عشر سنوات، كرّر حجة مشابهة ولكنها أكثر تفصيلاً للقيادة الفلسطينية المنفية في تونس، وكانت النتيجة، (أنا آسف لقول هذا) مشابهة. قال لي عرفات فيما بعد:"كنتَ أنت وإقبال تقولان لنا باستمرار إننا يجب أن نحاول فهم أميركا. حسناً، لقد عيّنتُ لجنة خاصة بأميركا في المستويات العليا من منظمة التحرير الفلسطينية. ستقوم بالبحث الأكثر تقدماً، وتمنحنا جميع الخيارات. آمل أن تدرك كيف أنكما نجحتما".
بعد عام من هذا، اكتشفتُ أن اللجنة قد عُيِّنتْ بالفعل، وكما لو أنها شيء خرج مباشرة من رحلات جلفر، كانت مؤلفة فقط من أشخاص لا يتحدثون اللغة الإنكليزية. ولم تجتمع مطلقاً، ولم يتم تعيين سوى باحث واحد متفرّغ، وهي امرأة متألقة جداً، أخبرتني أن "البحث" يعني أنها أقنعت رؤساءها أن يشتركوا في مجلة التايموأن يشتروا أحياناً صحيفة الهيرالد تريبيون. وهذا كثير لقيادة متيقظة ومتنبهة.
أعتقد أنني أنا وإقبال كنا نعرف في ذلك الوقت أن شيئاً آخر كان يجري بالرغم من أنني لا أذكر ما الذي دار بيننا آنذاك، فما كان يجري لا يتعلق بحركات المقاومة وإنما بالبحث عن صفقة مع الأميركيين تبقي عرفات وأتباعه في السلطة، ولو كمتعاونين مع الاحتلال الإسرائيلي. وكان إقبال أحد الأصوات النبوية القليلة التي انتقدت اتفاقيات أوسلو، والتي سماها "سلام الضعفاء"، بينما كان عرفات يشير باستمرار إليها (كي يزعجني، وآسف على قول هذا) بـ "سلام الشجعان"، وكأنه كان يتحدث عن فريق بيسبول. رافضاً الاكتفاء بلعن الظلمة، تحدث معي إقبال في 1996، بعد حادثة النفق في المدينة القديمة في القدس، عما يمكن أن يفعله عرفات، مفترضين موقفه غير القابل للتغيير. بعد بضعة أيام، كتبتُ عن اقتراح إقبال في أعمدتي المنتظمة في الصحافة العربية. في ذلك الوقت، أصبحت أنا وإقبال صحفيين في الإعلام المحلي. شعر كلانا بالحاجة إلى مخاطبة شعبنا والتوقف عن القلق من كيفية نشر شيء ما في صحيفة نيويورك تايمزالمريعة.
اقترح إقبال أنه بدلاً من القضاء على الشرعية الأخلاقية لمكافحة الاستيطان في معارك شارع غير مثمرة ستؤدي إلى خسارة المزيد من النساء والرجال (وهذا ما حدث في الواقع) يجب أن يقود عرفات مسيرة إلى إحدى المستوطنات، قائلا:"نحن غير مسلحين. لا نريد أن نقاتلكم. ولكننا سنقاتل ملاطكم وأحجاركم". بدلاً من ذلك، جلس عرفات في إحدى غرفه المحصّنة وأمر بإضراب عام لم يلحق الأذى إلا بالفلسطينيين الذين أُجبروا على إغلاق متاجرهم، وأدى إلى خسارة المزيد من الأعمال.
لخّص إقبال على نحو متألق الموقف الحالي بدقة ووضوح فطري واستقامة كانوا من خصائص كتابته:
إن الحكومة الإسرائيلية تخطط الآن لشق طرق سريعة رئيسية وشبكات اتصالات تربط المستعمرات بالمدن الإسرائيلية والمطارات وتترك الجماعات الفلسطينية خارجها. وهكذا لدينا هذه المناطق المستقلة التي يجب أن تديرها السلطة الفلسطينية، والتي لا تملك سيادة عليها. ولا تستطيع بسط سيطرتها على الأرض ولا تستطيع حماية المياه. ولا تستطيع حتى أن تطلق الصناعات بدون إذن إسرائيلي. وهكذا لدينا سلسلة من البانتوستانات التي تُدعى السلطة الفلسطينية المستقلة. إسرائيل تعفي نفسها من المسؤولية عن السكان الخاضعين لاحتلالها بينما تواصل هذا الاحتلال.
إنها خطة ذكية، وهي ناجحة حتى الآن. إن عرفات طرف في هذه المأساة. ما نشهده هو مأْسَسَةُ نظامِ عزلٍ، نظام فصلٍ عنصري ضيِّق جداً: بلديات منفصلة، مدارس منفصلة، أنظمة صحية منفصلة، اقتصاد محلي، وقاعدة محلية على هامش الدولة الإسرائيلية في ظل مجتمع المستوطنين المتمتع بالامتيازات.
هذا حلم سيء، يوتوبيا عنصرية يؤسسها، على نحو يشي بمفارقة، الناس الأكثر تنوراً وتعاطفاً عبر التاريخ، وبموافقة قيادة محلية علمانية. وفي ضوء هذا، ستبدو إسرائيل ـ فلسطين، في العقد التالي، كما كانت أفريقيا الجنوبية تماماً في حقبة نظام الأبارتيد (الفصل العنصري).
كان نطاق عمل إقبال كناشط ومفكر وباحث ومعلم وصديق شاسعاً. ومثل قلة من الآخرين، تجاوز المحيطات والحدود بمهارة وإحساس لا يضعف بالألفة، ولم ترهبه أبداً رطانة الخبراء أو المهنيين. حوّل لغته إلى أداة طيّعة وساحرة تجعل روح الحياة تدب في المجردات وتنبض، بحيوية ودقة، بالتجربة الملموسة للناس في جميع أنحاء الأرض. وفيما يلي جزء من مقدمته التي تحمل عنوان “نذير قرن جديد"، لكتابما بعد العاصفة: قراءة لأزمة الخليج. انتبهوا إلى الاستخدام اللافت للتعميم، وإلى حس الفكاهة المتواصل، وإلى غضب نثره الدقيق، لاحظوا أيضاً كيف يجعل جمله واضحة، لا تهذي ولا تخاف من الحقائق القاسية، وكيف تحتوي كل جملة على لمحات خاطفة يمكن أن تشكّل موضوعاً لكتب كاملة من قبل مرجعيات جوفاء كمثل صمويل هنتنغتون أو زبغنيو بريجنسكي.
تميز القرن العشرون بقدرته على الوعد بالأمل وتحقيق خيبات الأمل في آن واحد معاً. ومع اقتراب النهاية، يبدو لي وكأن القرن انتهى بالطريقة التي بدأ بها: قام السياسيون والمحاربون، الذين بقيت أذهانهم السياسية متأصلة في الماضي، بسحق الآمال المتجددة بنظام عالمي عادل يعمه السلام. كان العالم يتحول طيلة 300 عام قبل بداية القرن العشرين، وكان هذا التحول ناجماً عن العلم الحديث والتكنولوجيا والإمبريالية. وفي أثناء هذا العصر من التوسع الرأسمالي والأوربي فرضَ الغرب هيمنته على النظام العالمي وسيطر على السوق العالمية من أجل فائدته فقط. يبدو هذا باعثاً على التشاؤم، وكأن السوق الحرة هي في الواقع حرة وتعمل لفائدة الأنسب فحسب. بعيداً عن هذا، فُرضتْ الهيمنة الغربية بالقوة التي استُخدمت على نطاق واسع وتمأسست وجعلها الدين والأخلاق شرعية إلى درجة أن إبستمولوجيا هذا العنف الكوني ما تزال تصوغ حتى الآن العلاقات بين العالم الغربي والعالم اللاغربي.
تشعرون وأنتم تقرأون هذا الكلام بأن صوتَ إيمانٍ وأملٍ يخاطبكم، ويبحثُ معكم بدلاً من أن يحاضر فيكم أو يرهبكم. كان هذا أيضاً، إقبال الحقيقيّ والرفيق والطالب والأستاذ والمستقصي بشكل لا يلين والباحث الذي لم يكن دوجماطيقياً أبداً، عدا في مسائل المبدأ والعدالة الأخلاقية. وقد حزنتُ لسنوات (مثل كثير منكم على ما أعتقد) لأنه لم يؤلف كتاباً كبيراً، إلى أن أدركت أن إقبال كتب في الواقع الكثير، وهو مبعثر، بطريقته المعتادة غير المفكر فيها، في أنحاء العالم في مقالات وأبحاث مختصرة ومداخلات صحفية ومقابلات.
لا يستطيع إقبال أن يقاوم المقابلة الصحفية، لهذا أينما ذهب كان يُحاط بأشخاص متلهفين للجلوس معه يحملون أجهزة التسجيل وإضمامة الأوراق. وكانت محاولة جعل إقبال يعمل كمهني كمحاولة حراثة البحر. كان هذا بلا طائل. ولكنني تشجّعت وشعرتُ بالإطراء حين، في عام 1997، بعد تقاعده من كلية هامبشير، طلب نصيحتي:"ما الذي تعتقد أنني يجب أن أفعله بوقتي؟ كيف يجب أن أوزعه، وعلى ماذا يجب أن أركز في كتابتي؟"
لم أكن قادراً في تلك اللحظة أن أقدم له النصيحة المفيدة التي كان ينتظرها مني. ولكنني فكرتُ بالأمر واقترحتُ عليه أن يواصل فعل ما هو قادر على فعله جيداً فحسب، ولكن من فضلك، من أجلنا كلنا، ومن أجل الشبان، حاولْ أن تتذكّرْ أنه رغم كونك شفهياً كحكيم مسلم متجوّل، وكلنا شلّتك وأتباعك، يجب ألا تترك كلماتك مبعثرة في مهب الرياح أو مسجلة على شريط، وإنما يجب أن تجمعها وتنشرها في عدة مجلدات كي يقرأها الجميع. عندئذ سيعرف الذين لا يمتلكون امتياز معرفتك كم كنت إنساناً موهوباً ولافتاً للنظر. لأنّ (أستخدم هنا كلمات وردزورث عن ميلتون):” العالم يحتاج إليك”.
[ترجمة: أسامة إسبر]
*المقالة هي مقدمة إدوارد سعيد للحوارات التي أجراها ديفد بارساميان مع إقبال أحمد وصدرت في كتاب بعنوان "مواجهة الإمبراطورية".