كتبتُ، قبل تسعة أعوام، تذييلاً لـ الاستشراق: ركّزت فيه لا على السجالات العديدة التي أثارها الكتاب منذ صدوره عام 1978 فقط، بل أيضًا على حقيقة أن دراستي لتصورات «الشرق» تعرضت باضطراد لتفسيرات خاطئة. وما يدلّ على تقدمي في العمر أن ردة فعلي عليها بدت أقرب للسخرية منها للغضب. لقد تقبّلت بأسى وفاة اثنين من مرشديَّ ثقافيّاً وسياسيّاً وشخصيّاً هما: إقبال أحمد وإبراهيم أبو لغد، لكنني ازددت تصميمًا على المضيّ قُدماً.
تصف سيرتي الذاتية( خارج المكان) العوالمَ الغريبة والمتناقضة التي ترعرعتُ فيها، وتعطي فكرةً عن التأثيرات التي خضعتْ لها فترةُ شبابي في فلسطين ومصر ولبنان. لكن هذه القصة تتوقف قبل التزامي السياسي، الذي بدأ عام 1976، بعد حرب الأيام الستة.
إن الاستشراق أقرب لضوضاء التاريخ المعاصر. يُفتَتح بوصف، كُتب في العام 1975، للحرب الأهلية في لبنان ـ التي استمرت حتى العام 1990. على أن العنف وحمامات الدم لا تزال تتواصل حتى يومنا هذا. لقد فشلت عملية السلام التي انطلقت في أوسلو، واندلعت الانتفاضة الثانية، ويكابد الفلسطينيون آلاماً رهيبة في الضفة الغربية التي أعيد احتلالها وفي قطاع غزة. وإذْ أكتب هذه السطور، يستمر الاحتلال الأميركي والبريطاني الامبريالي غير الشرعي للعراق، بتأثيراته الرهيبة. ويُنْظَر إلى كل هذا على أنه جزء من« صدام الحضارات» اللانهائي، المرير، الذي لا رادَّ له. لكنني أطعن بالتزوير ضد هذه الفكرة.
كنت أود لو أستطيع التأكيد على أن الفهم العام الذي كوّنه الأميركيون عن الشرق الأوسط والعرب والإسلام قد تطور قليلاً. لكنّ هذا للأسف ليس واقع الحال. يبدو الموقف في أوروبا أفضل لأسباب كثيرة. أما في الولايات المتحدة، فتتحالف المواقف المتصلبة، والنفوذ المتعاظم للتعميمات المتعجرفة والشعارات الانتصارية وسيطرة سلطةٍ فظّة تحتقر المنشقين و« الآخرين» وقد انعكس هذا كله في أعمال نهب المكتبات والمتاحف العراقية وتدميرها.
يبدو قادتنا وخدمهم المثقفون عاجزين عن فهم أن التاريخ ليس لوحاً أسود يمكن أن نمحو ما كُتب فوقه، كي نستطيع «نحن» أن نكتب عليه مستقبلنا ونفرض نمط حياتنا على الشعوب« الدُّنيا».
إنعدام وعي مذهل
غالبًا ما نسمع مسؤولين كباراً في واشنطن، أو في أماكن أخرى، يتحدثون عن إعادة رسم حدود الشرق الأوسط، كما لو أن مجتمعات بهذه العراقة وشعوباً بهذا التنوع يمكن أن تُرجَّ وتخلط مثل حبات الفستق في وعاء زجاجي. لكن هذا ما حدث غالبًا لـ« الشرق»، هذا البناء شبه الأسطوري الذي أعيد تشكيله مراراً منذ غزو نابوليون مصر في نهاية القرن الثامن عشر. وفي كل مرة، كانت تُبَدَّد رواسب تاريخية لا تحصى، وقصص لا نهايات لها، وتنوُّع باهر في الثقافات واللغات والشخصيات، وتُنسى وترمى في الصحراء مثلما نهبت كنوز بغداد وحُوِّلت شظايا فاقدة كل معنى.
عندي: أن التاريخ يصنعه الرجال والنساء، لكنه يمكن أن يُفَكَّكَ وتعاد كتابته بفعل الصمت والنسيان والأشكال المفروضة والتشويهات المتساهلة، بحيث يصبح شرق( نا): لنا، فعلاً، فيمكننا امتلاكه وإدارته. وعليّ هنا أن أعيد القول بأنه ليس لدي شرق « فعلي» أدافع عنه، لكنني في المقابل، أكن احتراماً عظيماً لقدرة هذه الشعوب على الدفاع عن رؤيتها الخاصة لما هي عليه ولما تريد أن تكونه.
لقد أُطلقت هجماتٌ كثيفة، بعدوانية مدروسة، ضد المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، تتهمها بالتخلف وانعدام الديموقراطية والاستخفاف بحقوق المرأة، لدرجة جعلتنا ننسى أن أفكاراً كالحداثة والتنوير والديموقراطية ، ليست بأية حال مفاهيم بسيطة أحادية الدلالة يمكن للجميع أن يتوصلوا في النهاية إلى اكتشافها، كأنها بيض عيد الفصح المخبَّأ في حديقة المنزل. إن إنعدام الوعي المذهل لدى هؤلاء الناطقين الرسميين الشباب المتغطرسين الذين يتحدثون باسم السياسة الخارجية من دون أن يمتلكوا أدنى فكرة حية ( ولا أدنى معرفة بلغة الناس العاديين) قد اصطنع جوّاً منفراً مستعدّاً لتقبل بناء على نمط« ديموقراطية» سوق حرة، تفرضها القوة الأميركية، ولا فائدة من معرفة اللغة العربية أو الفارسية أو حتى الفرنسية من أجل التبجح بأن ديموقراطية أحجار الدومينو هي أكثر ما يحتاجه العالم العربي.
ليس للرغبة في فهم الثقافات الأخرى بهدف التعايش وتوسيع آفاق الإنسان أية علاقة بالرغبة في الهيمنة. إن هذه الحرب الامبريالية التي دبّرتها مجموعة صغيرة من المسؤولين الأميركيين غير المنتخبين والتي شُنّت على ديكتاتورية من العالم الثالث منهارة أصلاً، لأسباب أيديولوجية مرتبطة بالرغبة في الهيمنة على العالم والسيطرة الأمنية ومصادرة الموارد الطبيعية النادرة ، هي بالتأكيد إحدى ثورات التاريخ الثقافية، خاصة وأن الذين برّروها وحثّوا عليها هم مستشرقون خانوا رسالتهم كبحاثة. ولقد مارس خبراء من العالم العربي والإسلامي مثل برنار لويس وفؤاد عجميتأثيراً كبيراً على البنتاغون ومجلس الأمن القومي التابع لجورج دبليو بوش، وهم ساعدوا الصقور على التفكير بآراء غربية مضحكة مثل« الذهن العربي» أو « انحطاط الإسلام منذ القِدم».
تغصّ المكتبات الأميركية حاليّاً بمجلدات ضخمة تحمل عناوين صارخة توحي بالصلة بين« الإسلام والإرهاب» و« الإسلام مُعرّى» و« التهديد العربي» وحتى « المؤامرة الإسلامية»، بأقلام مناظرين سياسيين يدّعون أنهم يستمدون معلوماتهم من خبراء زعموا أنهم قد سبروا أغوار روح هذه الأقوام الشرقية الغريبة. وقد أفاد دعاة الحروب هؤلاء من الفسحة التي وفَّرَتها لهم محطتا « سي.إن.إن» و« فوكس نيوز» التلفزيونيتان إضافة إلى أعداد كبيرة من الإذاعات التبشيرية والمحافظة وصحف الدعاية الصفراء( التابلويد) وحتى بعض الصحف المحترمة، التي انشغلت جميعها باجترار التعميمات الزائفة نفسها من أجل تعبئة« أميركا» ضد الشياطين الأغراب.
ولولا هذا الانطباع الذي رُسِّخ بعناية ومفاده أن هذه الأقوام البعيدة ليست مثلنا، ولا تقبل قيمنا، وهي الشعارات التي تشكل جوهر العقيدة الاستشراقية؛ لما كان لهذه الحرب أن تُشَن.
لقد أحيط كل المتسلطين ببحّاثة من هذا النوع يعملون لحسابهم، من غزاة ماليزيا وأندونيسيا الهولنديين، إلى الجيش البريطاني في الهند وبلاد الرافدين ومصر وأفريقيا العربية، والقوات الفرنسية في الهند الصينية وشمال أفريقيا. وهاهم مستشارو البيت الأبيض والبنتاغون يستخدمون الشعارات نفسها والقوالب المحضَّرة ومبررات استخدام القوة والعنف. وتكرر الجوقة أن« هذه الشعوب لا تفهم في النهاية إلا لغة القوة». وإلى هؤلاء المستشارين ينضم، في العراق، جيش حقيقي من المقاولين الخاصِّين الذين سيوكَل إليهم كل شيء، من نشر الكتب المدرسية إلى صياغة الدستور فإعادة سبك الحياة السياسية وصولاً إلى تنظيم جديد للصناعة النفطية.
تدّعي كل إمبراطورية جديدة دائمًا أنها مختلفة عن تلك التي سبقتها، مؤكدة أن الظروف استثنائية، أن مهمتها قائمة على التمدين وتثبيت النظام والديموقراطية ، وأنها لا تستخدم القوة إلا كملاذ أخير. وأكثر ما يحزن أنه يتوافر دائمًا مثقفون مهمتهم إيجاد الكلمات المعسولة والحديث عن الإمبراطوريات العطوفة بل المؤْثِرة الآخرين على نفسها.
بعد خمسة وعشرين عامًا من صدور كتابي، يدفعنا الاستشراق إلى التساؤل عما إذا كانت الإمبريالية الحديثة قد اختفت فعلاً، أم أنها مستمرة عمليّاً منذ دخول نابوليون مصر قبل قرنين. لقد قيل للعرب والمسلمين يومها أن لعب دور الضحية والإصرار على تخريب الإمبراطورية ما هما إلا وسيلة للهرب من مسؤولياتهم الحالية. أما المستشرق المعاصر فيقول بثقة:« لقد فشلتم، وخدعتم أنفسكم».
إن كل ما بدأه بونابرت، تواصل مع تطور الدراسات الشرقية وغزو شمال أفريقيا؛ ثم أجريت أبحاث من النمط ذاته عن فيتنام ومصر وفلسطين؛ وفي مطلع القرن العشرين، مع بدء الصراع للسيطرة على النفط وأراضي الخليج، عن العراق وسورية وفلسطين وأفغانستان. ظهرت بعد ذلك الحركات القومية المختلفة المناهضة للاستعمار، وبعد حقبة قصيرة من الحركات الاستقلالية التقدمية، جاء عصر الانقلابات العسكرية، والفتن، والحروب الأهلية، والتزمت الديني والاقتتال اللامنطقي وعودة الشراسة المطلقة ضد آخر جماعات «السكان الأصليين». وأوجدت كل واحدة من هذه المراحل رؤيتَها المغلوطة إلى الآخر، وصوَرَها الحاطّة من شأنه وجدالاتِها العقيمة.
تحطيم أغلال الفكر
أردت، في الاستشراق، أن أعتمد على النقد الإنسانوي لتوسيع مجالات النضال الممكنة. والاستعاضة عن فورات الغضب الجامح التي تأسرنا بفكر وتحليل أكثر عمقًا. وأسميت ما حاولت أن أقوم به« الإنسانوية»، وهي الكلمة التي ما زلت مصرّاً على استخدامها رغم رفضها بازدراء من قبل نقاد ما بعد الحداثة السفسطائيين.
أول ما أفكر فيه، عند الحديث عن الإنسانوية، هو الإرادة التي دفعت وليم بلاك إلى تحطيم أغلال فكرنا بغية توظيفه في عملية تبصر تاريخي وقياسي. كما أن الإنسانوية تصان من خلال الشعور بالتواصل مع بحاثة آخرين ومجتمعات أخرى وعصور أخرى. فما من إنسانوية مفارقة للعالم. كل مجال مرتبط بسائر المجالات الأخرى، ولاشيء مما يحدث في العالم يستطيع أن يبقى معزولاً وسليمًا من كل المؤثرات الخارجية. علينا أن نعالج الظلم والمعاناة، لكن ضمن سياق يندرج بشكل واسع في التاريخ والثقافة والواقع الاجتماعي الاقتصادي. إن دورنا هو توسيع مجال السجال.
كإنسانوي عامل في مجال الأدب، سمح لي عمري المديد أن أتلقى منذ أربعين سنة، تعليمًا في الأدب المقارن الذي ترجع أفكاره التأسيسية إلى ألمانيا نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. كما يجب التنويه بالمساهمة الجوهرية لجيامباتيستا فيكو، الفيلسوف وعالم اللغة النابوليني، الذي شقَّت أفكاره الدربَ لمفكرين ألمان مثل هردر وولف، واستعان بها غوته، هومبولت، ويلثي، نيتشه، وغادامير، وأخيرًا علماء اللغة الكبار في القرن العشرين إريك أورباخ، ليو سبيتزر، وأرنست روبيي كورتيوس.
يرى شباب الجيل الحالي أن فقه اللغة علم قديم ومتخلف، مع أنه أكثر طرائق التفسير حيوية وإبداعاً. والمثال الأروع على هذا هو الاهتمام الذي أولاه غوته للإسلام وبشكل خاص للشاعر« حافظ» (الشيرازي)، وقد قاده هذا الولع إلى كتابة« الديوان الغربي» وأثَّر في آرائه في « الأدب العالمي»، وهو دراسة عن كل آداب العالم كسيمفونية كلية يمكننا فهمها نظريّاً على أنها تحتفظ بالشخصية الفردية لكل عمل من دون أن تفقد رؤيتها الشمولية.
وما يثير السخرية، أن عالمنا المُعَوْلَم يمضي قدمًا نحو المعايرة [ توحيد الأنماط] والتجانس اللذين كانت أفكار غوته ترمي إلى الحيلولة دونهما. وقد حذر إيريك أورباخ في بحث« فقه لغة الآداب العالمية» المنشور عام 1951، من هذا التحول في بداية حقبة ما بعد الحرب التي ميزتها أيضًا الحرب الباردة. ورغِبَ في أن يكون كتابه العظيم( Mimésis)، الذي نشر في بيرن عام 1946وكتبه خلال الحرب حين كان لاجئًا في اسطنبول يدرّس اللغات الرومانية،ـ شهادةً على التنوع والواقعية المتمثلين في الأدب الغربي، من هوميروس إلى فيرجينيا وولف. وإذْ نقرأ بحث العام 1951 ندرك أن كتاب أورباخ العظيم تمجيد لعصر كانت النصوص تُحلَّل خلاله بمصطلحات فقه اللغة، بطريقة واقعية محسوسة وحدسية، عصر أنتج فيه التبحّرُ في العلم والإتقان التام لعدة لغاتٍ طريقةَ فهمٍ كان بطلها غوته بفهمه الخاص للأدب الإسلامي.
لقد كانت هذه المعرفة باللغات والتاريخ شرطًا لازمًا، لكنْ غير كافٍ أبدًا، تماماً كما أن مجرد مراكمة الوقائع لا تشكل طريقة ملائمة لاستيعاب ما يمثله أديب مثل دانتي. إن المقصد الأساسي للمقاربة فقه اللغوية، التي تحدَّث عنها وحاول ممارستها أورباخ وسابقوه، تقوم على التغلغل بطريقة ذاتية ومعرفية في مادة النص الحية انطلاقًا من منظور زمانه وكاتبه.
إن فقه اللغة المطبق على الأدب العالمي، والمعارض لفكرة إقصاء أو عداء عصر آخر أو ثقافة مختلفة، يشتمل على فكر إنسانوي عميق يتحلى بالمروءة والكرم ـ إذا جاز لي استخدام هذه الكلمة ـ. وعلى فكر الباحث أن يفسح دائمًا، وبفاعلية، مكانًا للآخر الغريب في ذاته. وهذا العمل المبدع للانفتاح على الآخر ـ الذي من دونه يبقى الباحث غريبًا ونائيًا ـ هو أهم أبعاد مهمته.
في ألمانيا، تخلخل هذا كله ثم دُمِّر مع هيمنة القومية الاشتراكية. وقد لاحظ أورباخ بأسى، أن معايرة الأفكار وتنامي التخصص المعرفي باضطراد، قد ضيَّقا تدريجيّاً إمكانات هذا النوع من العمل على الاستقصاء والبحث الدؤوب الذي كان هو نفسه يمثله. الأكثر إحباطًا أيضاً، أن فكرة ممارسة البحث الإنسانوي فقدت منذ وفاة أورباخ عام 1957 مركزيتها. إن طلّابنا بدل أن يقرأوا، بالمعنى الحقيقي للقراءة، يتسلَّون باستهلاك نُتفِ المعلومات المتوافرة على الانترنت والمنشورة عبر وسائل الإعلام.
وثمة ما هو أخطر، فالتربية اليوم مهددة بالأصوليات القومية والدينية المبثوثة في وسائل الإعلام، التي تركز بطريقة لا تاريخية استثارية على الحروب الإلكترونية البعيدة، التي تخلّف في المشاهدين انطباعًا عن« الدِّقّة الجراحية» وتغطي بذلك على ما تسببه الحرب الحديثة من آلام رهيبة ودمار. وبتصويرها العدو المجهول شيطانًا وإلصاقِ سمة« الإرهابي» عليه، بغية تأجيج غضب الرأي العام، تركِّز الصور الإعلامية الانتباه في بؤرة واحدة تستطيع توظيفها بسهولة وقت الأزمات وانعدام الأمن، كما حدث بعد هجمات 11 أيلول.
وينبغي علي، بصفتي أميركيّاً وعربيّاً، أن أطلب من القارئ ألاّ يقلّل أبدًا من شأن هذه الرؤية التبسيطية للعالم التي فبركتها حفنة من المدنيين العاملين في البنتاغون لتحديد السياسة الأميركية تجاه العالم العربي والإسلامي.
إن الترويع، والحرب الوقائية، وتغيير الأنظمة المفروضة، وهي أمور أصبحت كلها ممكنة بفضل أضخم ميزانية عسكرية في التاريخ؛ هي الأفكار الوحيدة التي يثار حولها السجال في وسائل الإعلام التي تنتج« خبراء» مزعومين مهمتهم تبرير الخط العام للحكومة. وحلَّت مكانَ التأمل والمناقشة والمحاكمة العقلانية، وهي المبادئ الأخلاقية المؤسسة على نظرة علمانية يصنع البشر وفقها تاريخهم، أفكارٌ مجرّدة تمجّد الفرادة الأميركية، أو الغربية، وتتنكر لأهمية الظروف وتنظر إلى الثقافات الأخرى بازدراء.
ـ خطاب عالمي علماني وعقلي ـ
ربما عاب عليّ القارئ الانهماكَ في إيجاد صلات وعرة جدًا بين التفسير الإنسانوي والسياسة الخارجية، مؤكداً بالتحديد أن مجتمعاً متقدماً تكنولوجيّاً يمتلك في إطار قوة لا سابق لها الإنترنت والطائرة المقاتلة« اف ـ 16» في آنٍ واحد، هذا المجتمع يجب أن يقوده في النهاية خبراء تقنيون ـ سياسيون عظماء مثل السيد دونالد رامسفيلد أو السيد ريتشارد بيرل. لكن ما فاتنا في هذه المسيرة هو الإحساس بكثافة الحياة البشرية وترابطها، التي لا يمكن اختزالها في صيغة بسيطة ولا إقصاؤها خارج الموضوع.
ذاك هو مظهر من مظاهر النقاش العالمي. أما الوضع في البلاد العربية فليس بأفضل. فهذه المنطقة، وكما برهنت الصحافية رولا خلف في بحث رائع، انزلقت في اتجاه موقف معادٍ لأميركا ينمّ عن قلة فهم لما هو عليه المجتمع الأميركي فعلاً. ولأن حكومات هذه الدول تبقى عاجزة عن التأثير في موقف الولايات المتحدة فإنها تخصص كل طاقتها لقمع شعوبها والسيطرة عليها، ومن هنا تنامي الحقد والغضب ولعنات العجز التي لاتساهم في انفتاح مجتمعات أسقطت فيها النظرة العلمانية إلى التاريخ الإنساني وإلى التطور بسبب حالات الفشل والكبت، كما بفعل نزعة إسلامية قائمة على التلقين الببغائي ومحو كل ما يعتبر من أشكال المعارف الأخرى الحديثة المنافسة.
لقد كان زوال باب الاجتهاد في الإسلام تدريجياً، أو التفسير الشخصي، من الكوارث الحضارية الكبرى في عصرنا، وهذا ما أدى إلى انعدام كل فكر نقدي وأية مواجهة فردية للمسائل المطروحة في العالم المعاصر.
أنا لا أزعم أن العالم الثقافي قد تراجع بكل بساطة، واقعًا من جهة في استشراقية جديدة عدائية، ومن جهة أخرى في حالة من عدم التسامح المطلق. ففي آب عام 2002، كشفت قمة الأمم المتحدة في جوهانسبرغ، بالرغم من كل محدوديتها، عن بروز حيّز واسع من الاهتمام الشمولي، معلنة عن ظهور« دائرة انتخابية كونية» قد تمنح دفعاً جديداً لمفهوم العالم الواحد الذي طالما أسيء استخدامه. لكن يجب الإقرار أيضاً بأن لا أحد يمكنه إدراك الوحدة الغريبة المعقدة لعالمنا المعولم، حتى وإن كان الطابع المتكامل معه أكثر فأكثر لدى كل جزء منه بات يجعل من الصعب عزل أحد هذه الأجزاء.
أما الحروب الرهيبة التي تثار هنا، والتي تجمع الشعوب تحت رايات موحدة مزيفة مثل« أميركا» أو« الغرب» أو« الإسلام» وتخترع هويات جماعية لأفراد فيهم الكثير من التمايز عنها، فلا يمكنها أن تبقى على هذه الدرجة من القوة. وهذا ما يجب مواجهته. وفي مواجهتها لا نزال نملك قدراتنا التفسيرية العقلانية، وهي إرثنا من تربيتنا الإنسانوية. وليس في الأمر هنا نوع من التقوى الانفعالية التي تفرض علينا العودة إلى قيمنا التقليدية وإلى الكلاسيكيات، بل هو استئناف لممارسة خطاب عالمي علماني وعقلاني.
إن الفكر النقدي لا يخضع للإيعاز بالالتحاق بالصفوف للمشاركة في حرب على هذا العدو الرسمي أو ذاك. فبعيداً عن تصادم الحضارات المسبق الصنع يفترض بنا الانكباب على عمل دؤوب مشترك على الحضارات المتشابكة والآخذة بعضها من بعض والمتعايشة بشكل أعمق مما توحي به أنماط الفهم الاختزالية المزيفة. غير أن طريقة الفهم الأرحب هذه تتطلب وقتًا وأبحاثًا صبورة ومزيدًا من النقد، وتتغذى من الإيمان بمجتمع فكري يصعب الحفاظ عليه في عالم قائم على استعجال الفعل ورد الفعل.
إن الإنسانوية تغتذي من المبادرة الفردية ومن الحدس الشخصي، وليس من الأفكار المتلقّاة ومن احترام السلطة. فيجب قراءة النصوص على أنها نتاجات لها في التاريخ حيّز معيّن تعيش فيه بشكل مجسد.
أخيرًا وبشكل أساسي، إن الإنسانوية هي متراسنا الوحيد، إن لم أقل الأخير، في مواجهة السياسات اللاإنسانية والمظالم التي تمسخ تاريخ البشرية. وقد بتنا نمتلك هذا الحقل الديموقراطي المشجع جداً والمتمثل بهذه الشبكة الافتراضية، المفتوحة للجميع، وعلى مستوى لم يكن للأجيال السابقة ولا لأي طاغية أو أرثوذكسية أن تتصوره. فالتظاهرات العالمية التي سبقت الحرب على العراق لم يكن لها أن تصبح حقيقة واقعة لولا المجتمعات البديلة الموجودة في العالم أجمع والمدركة للرهانات البيئية وحقوق الإنسان كتطلعات تحررية تجمع ما بيننا جميعاً على هذا الكوكب الصغير.
[ترجمة المقال عن الإنجليزية أحمد حافظ]