في نقد ظاهرة «النسويّة الإسلاميّة»: «الأخوات المسلمات» مثالاً
محددات أولية في اصطلاح "النسوية" و"النسوية الإسلامية"
ما زال هناك صعوبة شديدة إلى الآن تواجه الباحثين والباحثات بشأن تحديد دقيق لما يعنيه اصطلاح «النسويّة Feminism»، وبخاصة في البلاد العربية والإسلاميّة. الصعوبة لا تكمن في نقل معاني المصطلح والتأريخ له في بلاد الغرب (1) والكيفية التي انتقل بها إلى بلاد العرب، بمقدار ما تكمن أولاً في تحديد الاستحقاق المعرفي له وما يترتب عليه؛ وثانياً، في إمكانية إدراج هذا الاستحقاق داخل السياق الإسلامي، المؤسَّس بنحو جوهريّ على مقتضيات «العقل القضيبي».
لا بد من الإشارة للمعاني المستبطنة داخل مصطلح "النسوية" أثناء استخدامه في هذا المقال: النسويّة ليست إيديولوجية، أو مجرد مطالب محددة لضمان حقوق المرأة...الخ، إنها فوق ذلك: فضاء معرفي علماني؛ تحاول قبل كلّ شيء إعادة موضعة لمفهوم الجندر الإنساني، وذلك بإعادة تعريف الهوية الوجودية للذكر والأنثى على حدّ سواء، وبالتالي إعادة قولبة عقلية لما استقر في الأذهان عن هوية الجندر الذكوري والأنثوي. النسويّة ليست إعادة خلق للأنثى على حساب الذكر بل هي تهديم للهرم البطريركي المستند على اللغة، الدين، التراث، التاريخ...الخ. الهرم البطريركي بالتالي ليس هرماً دينياً فقط؛ فالدين لا يعدو كونه نتيجة لذلك البناء والمعبّر عنه؛ والأهم أنّ الدين هو الذي يشرعن مصداقية البطريركية من خلال الثيولوجيا، الفقه...الخ. إنّه نظام قوي، نظام تاريخي، وكونيّ أيضاً (لكن تختلف حدّته من ثقافة إلى أخرى). وقد أو ضح بورديو بأنّ: «قوة النظام الذكوري تكمن في كونه غني عن التبرير» (2).
النسويّة إضافة إلى كونها ليست اتجاهاً خاصاً بـ «الأنثى» فقط، إنها كذلك أخذ موقف من الموروث التاريخي (الديني، السياسي، الاجتماعي، الثقافي...). الموقف من الموروث، يعني بكلمة واحدة إحداث قطيعة «كلية» معه، بكل حوامله المفهومية والإيديولوجية التي أنتجت الاستحقاقات المعرفيّة والتي بُنيت على أسس بطريركيّة. ما هو مهمّ عند النسويّة إذا أرادت الدخول في معمعة التراث، أن تحاول تفكيكه، وتفكيك البنية القضيبية الحاملة له؛ أن تفكّك لماذا شخص ذكوريّ مثل الأرسوزي يقول هذا الكلام:
«إنّ عقل المرأة في جمالها، وجمال الرجل في عقله» (3)، بمعنى أن تفكك هذا البناء العقليّ القضيبي الضارب في واقعنا إلى الآن. ومن الصحيح تماماً ما اصطلحت عليه السيدة رجاء بن سلامة في وصفها ذلك: بـ «المركزية الثيولوجية القضيبية» التي من الواجب الكشف عنها وتعريتها.
وبالتالي، النسويّة لا تسعى لإجراء إصلاحات داخل التراث، أو أن تكتشف «ذاتها» داخل خطاب تراثي هَرِم، ولا أن تُحدِث ثورة فيه لكي تقول إنّني كنت «هناك»، وبأنني أنا كنت الفاعلة في صناعة التاريخ....إنها بكل بساطة: قطع معرفي مع حوامله البطريركية، قطع مع بنيته الذكورية التي صاغت أشكاله الإيديولوجية.....بهذه المعاني يمكن استخدام مصطلح النسويّة في هذا المقال.
عند هذه النقطة، كيف يمكن قراءة اصطلاح «النسويّة الإسلاميّة»؟
البعض من النساء الإسلاميات اللاتي يعملن في مجال قضية المرأة المسلمة، يرفضن، بسبب هذا الاستحقاق، رفضاً قاطعاً اصطلاح «النسويّة» لوصف عملهنّ بأنه معارض للشريعة الإسلاميّة؛ لكنّ إسلاميات أخريات تصدّين لهذا الاستحقاق، فأدرجن أنفسهنّ تحت يافطة ما اصطُلح عليه بـ «النسويّة الإسلاميّة Islamic Feminism».
من حيث البيئة التي خرجت منها اتجاهات النسويّة في العالم الغربي، يُعتبر الفضاء الديني المنطلق الرئيسي الذي انطلقت منه أصوات نسويّة ضد هيمنة اللغة الدينية المصاغة ذكورياً عبر التاريخ، وضد تسلّط البطريركية الكنسية؛ وإن كان هناك محاولات غربية لاحقة أثناء موجة النسوية الثانيّة لإقامة نسويّة ثيولوجية تعتمد أساساً على إعادة القراءة للكتاب المقدس واستخدام الآليات الهرمونيتيكة. (4) لكن كل هذا، لم يكن ليتم لولا تيارات الحداثة التي اجتاحت أوربا في عصر الأنوار؛ وهكذا لتصبح هناك حركات نسويّة عالميّة.
مصطلح النسوية الإسلاميّة هو مصطلح حديث وغربي المنشأ (5)، لكنه مصطلح متناقض بذاته كما أكدت على هذا السيدة موغيسي، وذلك نظراً للافتراقات المفاهيمية التي يحملها كل من جزئي «النسوية» التي تحيل إلى الفضاء الدنيوي، و«الإسلاميّة» التي تحيل إلى الفضاء الثيولوجي والتشريع الديني؛ وبالتالي إنّ مجرد التقائهما يعني تلفيقاً إيديولوجياً أكثر من كونه توافقاً معرفياً أو حلاً لإشكالات المرأة وما تواجهه من تحديات معاصرة. إننا نميل أكثر في سياقنا هذا (من ناحية إجرائية وتكتيكية فقط وليس من ناحية معرفيّة) إلى تسمية من يعمل من النساء الإسلاميات ضمن مجال حقوق المرأة من وجهة نظر إسلاميّة، بـ «النسائيّة الإسلاميّة»، لأنّه في الوقت الذي يعمل فيه الباراديغم النسائي الإسلامي داخل أروقة الآلهة والشياطين والتراث، فإنّ الباراديغم النسوي العلماني يعمل وفق وبمقتضى القواعد الإبستيمية لما أسسته النسويّة الحديثة.
مثال ذلك هدى الشعراوي، وزينب الغزالي. ربما لا يمكننا الشك بوصف هدى الشعراوي، وهي الأولى تقريباً في العالم الإسلامي التي بدأت، من بين النساء، نضالها لنيل حقوق المرأة، أنها «نسويّة». لكن هل عملها ضمن الفضاء الإسلامي، يدعونا إلى القول إنّها «إسلاميّة»؟ لن نجادل الآن في هويتها من الناحية الثقافية أنّها مسلمة أم لا، كونها ابنة هذا الفضاء (وحقيقة الجدال يطول كثيراً حول هذه النقطة)، أو أنها تعرّف نفسها هي بذلك أم لا. المشكلة ليست هنا؛ إنها في المنهج الإيديولوجي والمعرفي الذي تسير عليه وبمقتضاه هدى الشعراوي في دفاعها عن قضية المرأة. الشعراوي، وبكلمة، «نسويّة» وليست «إسلاميّة» من الناحية الإيديولوجيّة. وهذا بعكس ما يذهب إليه بعض الباحثين الغربيين (6) أنها كانت تسعى لتأسيس نسوية إسلامية.
بعد سنوات، سيبرز صوت «نسائي» آخر ، صوت دافع أيضاً عن حقوق المرأة؛ إنّها زينب الغزالي الجبيلي، المرأة الشهيرة عند «الإسلاميين»، والمنظرة الإيديولوجية للأخوات المسلمات؛ وقد قضت في معتقلات جمال عبد الناصر سنوات طويلة ونالت من التعذيب ما هو معروف عن مثل هؤلاء المستبدين العرب. زينب الغزالي، لا شك، كانت «إسلاميّة» من الطراز الثقيل، لكن، وبالرغم من دفاعها عن حقوق المرأة، هل ثمة إمكانية لاعتبارها «نسويّة»؟ ومن المعلوم أنّ زينب وقفت على أرض أصوليّة إسلاميّة صلبة، كانت تنطلق منها، وتعود إليها للدفاع عن المرأة المسلمة. لقد كانت تقوم، ومن داخل هذه الأرض الأصولية لتقول إنّ المرأة المسلمة هي حرّة، وقد نالت جميع حقوقها كما أعطاها لها الله، وقد بيّن ذلك بنحو مفصل، مبعوثه محمد. إنّ وقوف زينب الغزالي على تلك الأرض الأصولية كمنطلق لها في أدلوجاتها، هو ما يمكننا من القول بأنها «إسلاميّة»، إلا أنها ليست «نسويّة».
ورغم حداثة اصطلاح «النسويّة الإسلاميّة»، فقد ذهبت باحثات لاعتبار الرائدة الإيديولوجية الكبرى للأخوات المسلمات، زينب الغزالي، امرأة انتقلت من الفضاء النسوي العلماني إلى مجال «النسويّة الإسلاميّة»، لتؤسس بعد ذلك رابطة «السيدات المسلمات» (7). الأخوات المسلمات كنّ من بين الأوائل اللاتي استطعن التمهيد لأصوليّة نسائيّة بإطار إخواني ذكوري؛ بمعنى آخر: «أخوات مسلمات»...نعم! لكن فقط ضمن إطار البنية الإيديولوجية للإخوان الذكور! لقد كنّ المسؤولات عن خلق ذلك المناخ الذي سنناقش أهم معالمه بنحو سريع، أي ما بات يعرف بـ «النسويّة الإسلاميّة». لهذا، فإنّ نقاشنا بمقدار ما هو نقاش حول الأخوات المسلمات بنحو خاص، بمقدار ما هو نقاش لـ النسويّة الإسلاميّة (= الفضاء الذهني الديني العام للأخوات).
«الأخوات المسلمات» والتأسيس لـ «نسائيّة إسلاميّة»:
لا شك، إنّ التعامل مع قضية المرأة في الفضاء الإسلامي ومن منظوره، تتعدّد معالمه وظواهره كثيراً ولا يمكن أبداً حصره، على الأقل في سياقنا. لهذا سنحصر أنفسنا بمناقشة إحدى تلك الظواهر في العالم الإسلامي، وهي ظاهرة «الأخوات المسلمات»، الوجه النسائي الآخر لـ «الإخوان المسلمين»، والمتفرّع عنه. لكن هذا التفرع لا يعني على الإطلاق أنّ قسم الأخوات المسلمات ما هو إلا مجرّد «ملحق» بقسم الإخوان الذكور. ذلك أنّ المرأة بالرغم من هامشيتها الوجودية في الهرم الذكوريّ الإسلاميّ، فإنها تحتل فيه، بسبب خطورتها، البؤرة المركزية التي يجب تركيز الاهتمام عليها. وبالطبع، ليس هذا من أجل نيل حقوقها أو ما شابه، بل من أجل المحافظة على البناء البطريركي القضيبي. فهي من جهة تمثّل شرف الإسلاميّ وعرضَه بالدرجة الأولى، لهذا وجب التصدي لكل الدعوات المغرضة التي تنادي بالتحرر وما إليه. وقد حذّر حسن البنّا، المؤسس لتنظيم الإخوان المسلمين من أهمية المرأة كبؤرة مركزية، يُعلّق عليها مستقبل الأمة بأكمله: «حذار فإن المرأة التي تُصلح الأمة بصلاحها، هي المرأة التي تجلب على الأمة الفناء والاضمحلال بفسادها»؛ وبالتالي بإمكاننا قراءة التقارب بين هوية «جسد الأمّة» ومركزيّة «جسد المرأة»: لا يمكن المحافظة على جسد الأمّة من غير الحفاظ على جسد المرأة، فإذا كُشف جسدها، يعني ظهور عورة الأمّة بكاملها. ومن جهة أخرى، تحتل المكان الأهم لـ «حراثة» الرجل الجنسية في النظام الجنسوي الذكوري الإسلامي. وقد قرر محمد، النبي العربي، بالفعل في القرآن بأنّ: «نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم» [2/ 223]. لهذا، الحفاظ على هذا «الحرث» واجب على المسلم.
ظاهرة الأخوات المسلمات ،كما تذهب إليه هذه الورقة، كانت بدرجة كبيرة أو قليلة، وراء الظهور الحديث لما بات يعرف في العالم الغربي، أكثر من الشرقي، بـ «النسويّة الإسلاميّة». وهذه الظاهرة ليست أصوليّة بالمعنى الحرفيّ كما يذهب البعض بل هي «أصوليّة جديدة Neo-Fundamentalism» ترافق ظهور الأنماط الجديدة للأصوليات التقليدية بحلل جديدة، كما هو حال الظاهرة «الإخوانية»، التي أُتْبعت بعد خمس سنوات بنشوء الظاهرة «الأخواتيّة». إنها إعادة خلق للخطاب النسوي، ولكن بإطار تراثي يلتزم ببراديغماته الثيولوجية. إنّ المواقف الأخلاقية الدينية، ليس كما يذهب مكسيم ردونسون (8) بأنها غير متغيرة، بما يخص تفسير الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإسلام، بل هي دائماً متغيرة، متجددة، بحسب السياق التاريخي الذي تخضع له الأصولية (وحتى الترويج «المحدث» لظاهرة الزي الإسلامي العصري للمرأة المسلمة يدخل ضمن هذا الإطار الـ «نيو-أصوليّ»).
هدفان جوهريان سيقعان على عاتق الأخوات المسلمات:
الهدف الأول، هو التصدّي للدعوات التحررية التي بدأت لتوّها تنتشر في أوائل القرن العشرين في بلاد الشرق قادمة من الغرب، وإمكانيّة تقديم خطابات بديلة مغلّفة بحلل دينية محافظة كما سيأتي.
والهدف الثاني، تأسيس سلطات موازية لسلطة الدولة داخل الهرم الاجتماعي بوسائل كثيرة لا تبدأ بالأنشطة الدينية المجتمعية (دروس دينية نسائيّة وغيرها)، ولا تنتهي بالتشريع النسائي الأصوليّ للأصوليّة الذكورية، الأصل.
****
لم يمض على إعلان حسن البنا تأسيس جماعته «الإخوان المسلمين» سنة 1928 زمناً طويلاً، حتى أُعلن في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) سنة 1933، عن تأسيس فرع للجماعة، لكن هذه المرّة من جندر مختلف، دعي بـ قسم «الأخوات المسلمات»، وذلك في الإسماعيلية في مصر، المكان نفسه الذي تأسست فيه جماعة الإخوان، والذي يعتبر امتداداً لما كان البنا قد أسسه في الإسماعيلية (أمهات المستقبل)؛ وقد ترأس هذا القسم لأول مرة السيدة لبيبة أحمد (1951-1870s)، أو كما كانت تُلقّب بـ السيدة لبيبة هانم (9)؛ ثم ليبدأ عملها في إطار هذا التنظيم.
تعتبر السيدة لبيبة أحمد، المرأة الأولى حقيقة في العالم الإسلامي، التي بدأت تأطير منهاج خاص بالمرأة المسلمة لنيل حقوقها؛ أو إذا شئنا الدقة أكثر: المرأة الأولى التي اختطت ما اصطُلح عليه حديثاً بـ «النسويّة الإسلاميّة»، وذلك من خلال التأكيد على مكانة المرأة من منظور إسلامي، وإعادة قراءة لها في ثنايا التراث، وتقديم بدائل نسائيّة- دينية، والتي ستنسجم مع بروز صوت الإخوان المسلمين في مصر كقوة أصولية جديدة. من هنا نفهم موافقة لبيبة الانضمام لجماعة الإخوان، والموافقة على طلب حسن البنا منها ترأس قسم الأخوات المسلمات.
وقد كان الهدف أساساً من إقامة قسم للأخوات، هو تخريج امرأة مسلمة ملتزمة بالمنهج الإسلامي، لكن بالشكل الذي خطّه لها الإخوان الذكور. انتساب المرأة للإخوان لا يعني بالطبع أنّها قد وضعت على قدم المساواة في وظائفه التي يجب أن يقوم بها؛ ذلك أنّ مكان المرأة المسلمة الأصلي والطبيعي هو «البيت»، لكن مع ذلك لا مانع من الخروج منه إذا أنهت وظائفها المنزلية. لقد أعاد حسن الهضيبي، المرشد الثاني للإخوان، صياغة وتأكيد ذلك: «المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، لكن إذا وجدت بعد أداء واجبها، وتملك وقتاً، فإنها تستطيع استغلال جزء منه في خدمة المجتمع، لكن على شرط، بطبق حدود القانون (الفقه) الذي يحفظ لها شرفها وعفتها وكرامتها» (10). وعلى كل مسلمة تودّ أن تصبح عضواً في جماعة الأخوات أن تقسم: «عليَّ عهد الله وميثاقه أن أتمسك بآداب الإسلام، وأدعو إلى الفضيلة ما استطعت». وبالرغم من أنّ تأسيس هذا القسم، لم يكن قد وضع في إطار منهجي، إلا أنّ المرشد العام للإخوان، حسن البنا، قد أصدر لهنّ رسالة حاول فيها إعادة رسم للخطاب الإسلامي بما يخص مكانة المرأة في الإسلام وحقوقها فيه...الخ؛ وقد عنونها: «المرأة المسلمة» (11). وقد أصدرت بعد ذلك جماعة الإخوان المسلمين رسالة أولى لهنّ كانت أشبه بمانيفيستو، على الأخوات المسلمات التقيّد بما جاء به. عليها أولاً أن تدرك أنها امرأة، والرجل-البعل هو القوّام عليها: هكذا تنص الرسالة: «وعليها أن تطبع نفسها منذ اللحظة الأولى على المفهوم الصادق لقوله سبحانه: «الرجال قوامون على النساء» و«للرجال عليهن درجة» (12).
ما تجب الإشارة إليه هنا في هذا السياق، أنّ بروز هذه الظاهرة في الربع الثاني من القرن العشرين، كان ردّة الفعل الأولى عند النساء المسلمات ضد الحداثة، وتحديداً ضد «النسويّة» العلمانية التي بدأتها هدى الشعراوي. فإذا كان ظهور الإخوان المسلمين، هو لإعادة استرجاع سؤال الدولة الإسلاميّة الذي محا معالمه كمال أتاتورك، من جهة، وكنتيجة لفشل الإصلاح الديني من جهة أخرى، فإنّ ظهور الأخوات المسلمات كان بنحو محدّد من أجل تقديم بديل إسلامي عمّا كان يروج حينها في مصر من أصوات نسويّة. وبمقدار ما كان نشوء هذه الظاهرة ضد الحداثة النسويّة، بمقدار ما كانت تعمل في الأجواء الحداثية نفسها. لهذا، كان عليها استخدام المفردات واللغة نفسها تقريباً التي تستخدمها النسويّة العلمانية، لكن، بعد إعادة قلب للمفاهيم الحداثية بما يتناسب والبارادايغم الذهني الديني؛ مثل إعادة تفسير مفهوم المساواة بين الجنسين وإعادة تعريف الحقوق، وعمل المرأة...الخ.
وفوق ذلك، كانت لبيبة من الأوائل اللواتي انتسبن للجمعيات النسويّة التي أدارتها هدى الشعراواي (ولاحقاً في سنة 1923 أسس برئاسة الشعراوي «الاتحاد النسائي المصري»)، وبالتالي كانت متأثرة جداً باللغة التي سادت النسويّة العلمانية (لقد أسست أوائل سنة العشرين «جمعية نهضة السيدات المصريات»، وصحيفة «النهضة النسائيّة»)، بحيث كانت فعلاً تسعى لتقديم خطاب نسائي إسلامي، لكن هذا الخطاب ستعيد بلورت بنحو متطرف زينب الغزالي.
بداية لم يكن هناك أيّ هدف سياسي (بالنحو المباشر للكلمة) من وراء تأسيس هذا القسم، بمقدار ما كان اجتماعيّ الطابع، وذلك من خلال تمكين نساء مسلمات من السيطرة على أمكنة داخل الهرم الاجتماعي لا يستطيع دخولها الإخوان الذكور؛ وذلك عن طريق تنشيط الدروس والمحاضرات النسائيّة في الجوامع والبيوت، وإصدار دوريات وصحف «تبشيرية»، تبشّر بدعوة الإخوان، إضافة إلى نشاطات اجتماعية أخرى مثل المستوصفات والجمعيات الخيرية وجلب التبرعات ومساعدة الفقراء والأيتام ...الخ (يقال إنّ عدد المنتسبات قد وصل إلى خمسة آلاف أخت).(13) وبسبب سفر السيدة لبيبة أحمد إلى السعودية سنة 1937 وإقامتها هناك، ضعف نشاط الأخوات في مراحلهم الأولى، ولم يبرز مرة أخرى إلا في سنة 1944، لتعاد من ثمّ هيكلة القسم، بتأسيس فروع لهنّ في أماكن توزع الإخوان في مصر، وذلك بعد مشادّات بين النساء أنفسهن وصراعهن على سلطة القسم. لكن حينما صدر قرار بحلّ جماعة الإخوان سنة 1948 (14)، بسبب حوادث الاغتيال التي قاموا بها والاضطرابات الأمنيّة، توقفأيضاً نشاط الأخوات من الناحية التنظيمية، لكن من الناحية العملية بقي نشاطهم فاعلاً.
وقد كان لقرار حلّ الإخوان وما تلا حوادث الاغتيال التي أدت لمقتل حسن البنا المرشد والمؤسس العام للجماعة، الأثر البالغ على نشاطها. ولم تمض سنة 1951 التي سمح فيها للإخوان بممارسة نشاطاتهم التنظيمية، حتى كان للأخوات حينها أكثر من 150 شعبة في كلّ أنحاء مصر. ومرةً أخرى، ينشط الإخوان والأخوات بسبب ثورة يوليو (تموز) 1952، التي بنى فيها الإخوان والعسكر المصري علاقة كانت أشبه بشهر العسل. لكن كان له الشهر أن ينتهي، بسبب زعم عبد الناصر سنة 1954 أنّ الإخوان قد خططوا لاغتياله؛ وهكذا، لتُحلّ مرة أخرى جماعة الإخوان والأخوات سنة 1954، ثمّ لتبدأ الأنشطة السريّة تأخذ مداها، ولتدخل بذلك الأخوات المسلمات مرحلةً جديدةً اعتمدت بالدرجة الأولى على بناء سلطات داخل المجتمع، سلطات موازية لسلطة الدولة، لكنها أقوى منها.
وكما هو الأمر مع لبيبة أحمد، فقد كانت هدى شعراوي محطة عبور أيضاً لزينب الغزال. لكن انضمامها لها لم يتجاوز السنة فقط، معتبرة أنّ ما تُقدّمه الشعراوي يعتبر الطريق الخاطئ بالنسبة للمرأة، وبأنّ الإسلام ضمن لها حقوقها، لا بل وصل اتهامها لنسويّة الشعراوي في المجتمع الإسلامي بأنها: «الإثم العظيم» (15)
الأخوات من الآن فصاعداً دخلن عهداً سياسياً (16)، ستقود معالمه المرأة الأصوليّة زينب الغزالي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه إذا كان سيد قطب هو المنظّر الإيديولوجي الذي أعاد خلق إيديولوجية الإسلام السياسي للإخوان الذكور، رغم عدم انتسابه لهم بنحو رسمي، فإنّ زينب الغزالي هي المنظّرة الإيديولوجية للأخوات الإناث؛ وفوق ذلك إنّها «جندية الله» و«المجاهدة زينب» كما توصف إلى الآن في الأدبيات الإسلاميّة.
العلاقة التي كانت تربط الغزالي بـ تنظيم البنا كانت غامضة إلى حدّ ما. فمن جهة رفضت في البداية انضمام حركتها («السيدات المسلمات») إلى لواء الأخوات المسلمات بقيادة الإخوان، لكنّها ومن جهة أخرى كانت تُكنّ للإخوان والبنا المودة الكبيرة، وتعتبرهم الصوت الوحيد حالياً لتمثيل رسالة الإسلام، كما عبرت عن ذلك في كتابها: «أيام من حياتي»: «سيدي الإمام حسن البنا … زينب الغزالي الجبيلي تتقدم إليك اليوم وهي أمة عارية من كل شي إلا عبوديتها لله وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله، وأنت اليوم الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يبيع هذه الأمة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالى. في انتظار أوامرك وتعليماتك سيدي الإمام». لهذا، لم تتباطأ بإعلان «البيعة» أمام المرشد العام للإخوان: «اللهم إني أبايعك على العمل لقيام دولة الإسلام وأرخص ما أقدم في سبيلها دمي، والسيدات المسلمات بشهرتها. فقال (أي البنا): وأنا قبلت البيعة وتَظلّ السيدات المسلمات على ما هي عليه» (أيام من حياتي). لكن أغلب الظن رغم هذه البيعة، أنّ عدم إدراج جمعية السيدات المسلمات تحت لواء الإخوان، هو بسبب تشدّد زينب للمحافظة على شخصيتها الاستقلالية، حيث كانت تتمتع بسلطة كاريزمية حتى على زوجها وأبيها. والدليل على ذلك موافقتها أن تصبح عضواً فاعلاً في الأخوات المسلمات، لكن بصفتها الشخصية، وليس بصفتها المسئولة عن جمعية السيدات المسلمات.
في الواقع، ما قدمته زينب للأخوات المسلمات، كان بمثابة الحاضنة الإيديولوجية التي يجب أن ترتكز بمقتضاها المرأة المسلمة. لقد أعادت تجديد الخطاب النسائي، وإدراجه لأول مرة في ساحة السياسة والمناداة بتطبيق الدولة الإسلاميّة. وربما تجدر الملاحظة أنّه مع نشوء كل أصولية، تنشأ معها ظواهرها التي تكرّس خطابها لها وتمنحها الشرعيّة وسط الهرم الاجتماعي. ظهور الأخوات المسلمات يمكن أن نسحبه ضمن هذا المنظور.
لهذا، يمكن اعتبار زينب الغزالي هي الوجه الأصوليّ الآخر لسيد قطب، لكن مع حفظ الدرجات بخصوص الفاعلية وكثافة الإنتاج الإيديولوجي. بل هي نفسها كثيراً ما اعترفت بتأثيره عليها؛ حتى أنّ سيد قطب حينما كتب كتابه الشهير «معالم في الطريق» من داخل السجن وبعثه للإخوان والأخوات، أصبح الكتاب بعدئذ فعلاً «معالم للإخوان» والأيقونة المقدسة لهم. تروي زينب عن حسن الهضيبي المرشد الثاني للجماعة (والذي يُزعم أنه «معتدل») بأنه ذكر عن الكتاب: « لقد قرأته وأعدت قراءته وأعدت قراءته، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن» (أيام من حياتي). لهذا ليس غريباً من السيدة زينب تكرير المفردات وجمل سيد قطب نفسها. تقول زينب متهمة النظام السياسي بأنه: «عالم البشر التائه في سرادب الجاهليّة». حتى النساء («النسويات») لم يسلمن من سلاطة لسانها، واصفة إياهم ممن تحررن بأنهنّ «قطيع»: «ذلك القطيع من عالم المرأة المسكينة التي يقال لها إنها تحررت، فصارت عبداً للشهوات والأهواء وأصبحت الجريمة حرفتها فأغرقتها، فنسيت إنسانيتها وطهرها وعفافها ومكارمها، فغدت حيواناً لا يعرف معنى للحياة إلا لشهوة الفم والفرج!!» (أيام من حياتي). لهذا، نؤكد أنّ خطاب زينب كان متجاوزاً، من الناحيّة الأصولية النسائيّة، بنحو كبير لما قدمته السيدة لبيبة.
هل نحن نواجه بهذه النسائيّة الإسلاميّة، أسلمة لقضية المرأة؟ بالمعنى الدقيق للعبارة ليست أسلمة، بل إعادة أسلمة، لا تقتصر عليها وحدها فقط، بمقدار ما هي إعادة إنتاج للتراث الذكوري، بمفردات نسويّة حديثة؛ لكن استخدام مفردات نسويةّ بمنهج أصوليّ. هل مرة أخرى يدعونا هذا لأن نطلق على «الأخت زينب» بأنها «نسويّة»؟.
السيدة مارغوت بدران لا تتباطأ باتهام العلمانيين الذين يقولون بتعارض «النسويّة العلمانية» مع «النسوية الدينية»، بأنّ عندهم: «نقص معرفة تاريخية، أو في بعض الحالات عندهم محاولة تحريضية سياسية لمنع المناضلات عبر النساء» (17) (!!).إلا أنّ السيدة مارغوت، وهي التي تشرعن وتدافع بقوة عن هذه النسوية الإسلاميّة، تتجاهل، ليس فقط التناقضات الإبستمولوجية في الاصطلاح، بل أيضاً تتجاهل الثيمات الأصولية التي تقف على أرضها النسوية الإسلاميّة. بماذا يمكن الإجابة على أحد هذه النسويات، حينما تقرّر أنّ الإسلام هو المرجع الأول والنهائي لتحديد حقوقها، ومكانتُها لن تحدّده إلا الدولة الإسلاميّة بألف ولام العهد؟ تصرح النسويّة الإسلاميّة (؟) زينب الغزالي: «المسلمون لا تغريهم المناصب، ولا يشتركون في حكومات علمانية إلحادية. ومركز المرأة المسلمة يوم تقوم حكومة الإسلام ستقرره الحكومة الإسلاميّة». زينب هي التي وضعت هذه النسويّة في العالم العربي على محكّ الإسلام السياسي، بمعنى هي التي صاغت إيديولوجيّة «النسائيّة الأصوليّة».
المرأة عند «الأخت زينب» بالرغم أنّه يجب أن تكون مجاهدة سياسية تنادي بالدولة الإسلاميّة، إلا أنّ هذا لا يجب أن يُغفِلها عن وظيفتها الأساسية، وهي أنّ مكانها الأصليّ هو البيت كـ أم وزوجة:«الإسلام لم يمنع النساء من المشاركة النشطة في الحياة العامة، لكن بشرط أن لا يتداخل ذلك مع وظيفتها الأساسية كـ أمّ، تدرّب أبناءها على الدعوة الإسلاميّة. لذا وظيفتها الأولى، والمقدّسة، والأشد أهمية أن تكون أمّاً وزوجة. إنها لا تستطيع تجاهل هذه الأولويّة» (18). هذا النفس الديني الإخواني هو نفسه تقريباً الذي ذكرناه آنفاً عن حسن الهضيبي، المرشد الثاني للإخوان المسلمين. لقد كان من أسس عملها: «الدعوة إلى الإسلام وتجنيد الرجال والنساء شباباً وشيباً لاعتقاد رسالته وإقامة دولته الحاكمة بما أنزل الله» (أيام من حياتي). لهذا، حينما استعرت المعركة حول حلّ جماعتها رفضت ذلك شارحة السبب: «ونحن –السيدات المسلمات – نرفض قرار الحلّ، وليس لرئيس الجمهورية – وهو ينادى صراحة بعلمانية الدولة- حق الولاء علينا، ولا لوزارة الشئون الاجتماعية كذلك. وليست الدعوة أموالاً أو حطاماً تصادره حكومة العلمانيين المحاربين لله ولرسوله وللأمة المسلمة» (أيام من حياتي).
وبسبب الصراعات السياسية التي خاضها الإخوان مع رؤوس الأنظمة السياسية التي تعاقبت على مصر (عبد الناصر، السادات، مبارك)، ضعف دور الأخوات بنحو واضح بسبب تلك الظروف. وفضلاً عن ذلك، لقد رأى الإخوان في ظل ما كانوا يشهدونه، أنه من الأفضل للمرأة المسلمة الابتعاد عن المجال العام، والاكتفاء فقط بالعمل على تربية المسلم والمسلمة تربية صالحة في البيت، وذلك خوفاً عليها وعلى شرفها وعفتها...الخ. لكن هذا لا يلغي القول أنه لم يعد يوجد أي حضور للأخوات؛ بل فقط حُصِر عملهن أكثر في أندية المساجد وغيرها.
واليوم مع حدث الربيع العربي يعود نشاط الأخوات المسلمات بنحو واضح لا لبس فيه. فبعد أكثر من ستين عاماً على تراجع دور تنظيم «الأخوات المسلمات»، عُقد بالقاهرة في الثاني من تموز (يوليو) 2011 المؤتمر الأول من نوعه لقسم الإناث في تنظيم الإخوان المسلمين (19)؛ ما يعني أنّ الظاهرة النسائيّة «الأخواتيّة» (مقابل الظاهرة «الإخوانيّة») بدأت تستأنف نشاطها داخل أروقة الهرم الاجتماعيّ، وبخاصة في مصر. يحدث هذا، وذلك يداً بيد مع صعود نجم الإخوان الذكور إلى سدّة السلطة لكن السؤال، على ماذا يدل هذا؟ وما هو مستقبل هذه «الأخواتيّة النسائيّة»؟
هل نجازف بالقول إنّه من ناحيّة المستقبل السياسيّ للأخوات، فإنّ مصيرهن مرتبط بمصير مستقبل الإخوان الذكور؟ لكن هذا الطرح أيضاً لا يجيب بنحو كامل على السؤالين الآنفي الذكر. ما هو مُغْفل حقيقة في أروقة الدراسات العربية التي تتناول ظاهرة الإسلام السياسيّ هو دراسة ظاهرة الأخوات بنحو جدي، ومدى السلطة الأصوليّة الكبيرة التي استطعن تأسيسها داخل المجتمع. وهذا هو مغزى قولنا إنّ هذه السلطة كانت بمثابة السلطة الموازية لسلطة الدولة، والتي كانت أشدّ منها، وذلك في قدرتها على اللعب على الوتر الديني للمجتمع: إنها الصوت النسائي الأصوليّ الذي ابتدأ من البيت والمسجد، وانتهى الآن إلى اعتلاء قمة الهرم السياسيّ. صوت أصوليّ ابتدأ من بؤرة القاع الاجتماعي، واستطاع فعلاً تخريج أجيال نراها اليوم إمّا أنها صوتت للإسلاميين، أو خرّجت أجيالاً نراهم يعتلون سدة البرلمان. وفوق هذا، لقد أثبتت تجارب الأنظمة السياسيّة العربية في حربها مع حركات الإخوان والأخوات، أنّها لم تكن تتعدّى كلها لعبة «القط والفأرة». مرة أخرى، نتذكر قول عبد الله العروي: «إن نظام جمال عبد الناصر حارب الإسلاميين كأشخاص، كأعداء سياسيين وكمنافسين، لكنه باستثناء ربما السنة الأخيرة من حكمه، لم يحارب أبداً النظرية الإسلاميّة التي تربى عليها فكرياً وسياسياً».
هل نجد غرابة في قول سناء البنا، ابنة حسن البنا، (والتي كانت إحدى الحاضرات لمؤتمر الأخوات) وذلك في افتخارها بما حققه الإخوان والأخوات المسلمات في مصر. بملء فمها تفتخر: «عندما دبّروا لقتل حسن البنا ظنوا أنهم بذلك سيقضون على دعوته، فخرج لهم مليون حسن البنا ومليون ابن وابنة لحسن البنا ومليون حفيدة لحسن البنا» (20). لا شك أن السيدة سناء لا تقول هذا الكلام جزافاً. إننا حقيقة، نرى النتائج اليوم أمام أعيننا، سواء قبلنا بها أم لم نقبل.
وهكذا، إنّه من الأخطاء المنهجية القاتلة اعتبار ظاهرة «الأخوات المسلمات» امتداداً للنسوية العالمية؛ إنها بالأحرى امتداد لنتائج فشل الإصلاح الديني، كما هو الأمر مع ظواهر الإسلام السياسيّ. لقد بتنا كثيراً ما نجد تخبطاً واضحاً في استخدام اصطلاح «النسويّة» في وصف عمل النساء المسلمات على قضية المرأة، من منظور إسلاميّ. لهذا بتنا نقرأ عناوين من قبيل: «النسوية والقرآن»، «الجندر والقرآن»…الخ. (21) وقد كان آخ الرياضات الذهنية لهذه النسوية أن وصل بها الاعتقاد، بأنّ محمداً، النبيّ العربيّ هو «قائد الثورة النسوية» (22)، هذه الثورة التي تم الابتعاد عنها وخيانتها.
من جانب آخر، ثمة تساؤلان مشروعان يمكن أن يطرحا في هذا السياق: حينما تصر النسوية الإسلاميّة على اكتشاف الصوت الأنثوي الحر داخل المثال الإسلامي، عن أيّ إسلام نتحدث؟ ودعك من الفروقات الجوهرية بين إسلام الطوائف من جهة، والظواهر الاختلافية بين الإسلام الآسيوي، الإفريقي، الأميركي...الخ من جهة أخرى؛ الداعمون لظاهرة النسوية الإسلاميّة لا يقدمون تفسيراً واضحاً عن «الإسلاميّة» هل هي النظام السياسي أم الفقهي أم العقائدي...؟ ولكون أنّ كلاً من النسوية من جانب، والإسلام من جانب آخر ينتميان إلى فضائين معرفيين مختلفين وأسس إبستيمية مفترقة، أيّهما سيعمل ضمن آليات وأسس الآخر ويرتهن لحقله أو فضائه المعرفي؟ النظيمة النسوية العلمانية مبنية على أسس جوهرية تناقض جوهر «ثقافة الفحل» الإسلاميّة. الإشكال في الواقع، لا يلامس فقط موضوع الاصطلاح بمقدار ما يتعلق بالاستحقاقات الإبستمولوجية المترتبة على ذلك، بمعنى آخر لا تستطيع النسوية الإسلاميّة فعل أي شيء فيما يخص البناء الثيولوجي القضيبي المبني على أساسه نظام الإسلام، وقد رأينا ذلك في الأخوات المسلمات.
بالطبع، تستطيع هذه النسوية إحداث ترقيعات هنا وأخرى هناك (يسمونها «التجديد») على مجال الفقه والتشريع، إلا أنه لا يمكن بأي حال اختراق شبكة الدوال المفاهيمية المعقدة، أو الباراديغم الذكوري، بدءاً من «ضرورة» ذكورة الآلهة وانتهاء بـ «واجب» ذكورة النبي وما يستتبع هذا من استحقاقات على الاجتماع والسياسة...الخ. حدود هذه النسوية العمل فقط ضمن الفضاء الإسلامي المسقوف بـ «هيكل ذكوري»، ومهما بلغت درجة حرية هذا الفضاء؛ وهذا ما يؤدي إلى قلب كل معاني واستحقاقات المفاهيم المتعلقة بخطاب المرأة. هكذا، من منظور إسلامي سيعاد موضعة مفهوم الحرية، المساواة الجندرية...الخ؛ كما هو الأمر في إعادة تعريف الحرية بما يخص ارتداء الحجاب، بكونه «حرية فردية» (!!). ولنأخذ مثلاً موضوع القوامة، -دعك من القوانين الفقهية المتعلقة بشهادة امرأتين مقابل رجل، ومسألة الميراث...الخ (هذه لا تعدو كونها نتائج لذلك النظام القضيبي)-، القرآن يقرّر بأنّ الرجال هم القوّامون على النساء [4/ 34]، وبأنّ للرجال على النساء درجة [2/ 228]. إننا هنا لا نواجه بأحكام فقهية بإمكاننا ترقيعها، بل نواجه بـ بنية نظام ثيولوجي متكامل، العنصر المكون فيه هو «الذكورة». تقول النسوية الإسلاميّة إنّ التراث بريء من القراءات البطريركية للتراث والقرآن المحمدي؛ لهذا لطالما تحاول ترقيع نص هنا وآخر هناك؛ إلا أنها لا تستطيع على الإطلاق الاقتراب من أسس البنية القضيبية المؤسسة لثقافة الفحل، أي الإطار البنيوي الصلب الحامل للباراديغم الإسلامي.
خاتمة:
ما هو الأخطر في الواقع على مصير النسويّة العربية، هو قلب المفاهيم نفسها وتشريعها، وتحويل المهمات التي يجب أن تضطلع بها في الدفاع عن المساواة الجندرية، إلى مجرد تبييض صورة الشعارات التي ترفعها الأصوليات النسائيّة. لقد كانت إحدى مهامّ الأخوات المسلمات في التاريخ العربي الحديث هو الدعوة التبشيرية بأقصى ما يمكن بما يبشر به الإخوان المسلمون. لكن ما هي مهامهم اليوم و«إخوانهم الذكور» في مقاليد السلطة؟ لا شك المهام ستتضاعف.
ولنتذكر أنّ من يُدعين بـ «النسويات الإسلاميات» الإيرانيات، ولاقين استحساناً في العالم الغربي، قد بدأن نشوئهن في إيران (التي تعتبر الآن معقل «النسويّة الإسلاميّة») مع تبلور الأصولية الذكورية للخميني بتكريسه أدلوجة ولاية الفقيه. ليس من مهمة هؤلاء النسوة المناداة بحقوق المرأة من وجهة نظر إسلاميّة فقط، بل الدفاع عن النظام السياسي القائم؛ وكل ما تتفوه به أدلوجة الفقيه هو خير وحرية بالنسبة للمرأة. لقد غدت حريّة المرأة الإيرانيّة بعد ثورة 1979، مفصّلةً وفقاً لمقاس الأدلوجة التي رسمها الخميني وخلفاؤه الملالي؛ وغدا الدفاع عن «الجندر» الأنثويّ، مرهوناً حتماً بأوالية تكريس «سلطة» «الجندر» الذكوريّ.
ربما يعيش اليوم الواقع العربي مرحلة سياسية انتقالية، إلا أنّه بدون ثورة مفاهيمية ثقافية تضرب في عمق جذور الموروث العربي، فإننا سنبقى ندور في نفس دائرة «الاستثناء العربي»، في نفس دائرة الآلهة والشياطين والتراث.
لم يكن القصد من نقد ظاهرة النسوية الإسلامية والأخوات المسلمات هو التشنيع بمطالب الحرية التي تسعى إليها نساء إسلاميات، ولا منعهن، كما ادعت مارغوت بدران، من النضال في سبيل تحقيق المساواة والعدالة؛ لقد كان المقصد أساساً هو إعادة النظر بالمنهج الإيديولوجي والمعرفي الذي تسلكه هؤلاء الإسلاميات؛ وقد ضربنا على ذلك مثالاً، هو ظاهرة الأخوات المسلمات، اللواتي لم يقتصر دورهن على تشويه التراث وحقوق المرأة فقط، بل إعادة خلق المناخ الأصوليّ في المجتمع. وفي الحقيقة، ثمة قلق كبير، في ظل ما تمر به البلاد العربية لتكرار سيناريوهات «أسْلمة» المرأة وقضيتها، تحت حجج بهلوانية تتعلق بالخصوصية والاستثنائية. إنّ الاستثناء في الواقع هو أنْ تبقى النساء المسلمات في هذه الوضعية الستاتيكية المستثناة. ليست المسألة المهمة أن يتحدّث قادة الإخوان المسلمين في مصر، عن فاعليّة دور المرأة المسلمة في الربيع العربيّ والثورة المصريّة (كما جاء على لسان محمد بديع المرشد العام للجماعة في مصر، والذي حضر المؤتمر)، بمقدار الرهان على تغيير بنية الخطاب البطريركيّ الذكوريّ الذي يحتكم إليه باراديغم الحركات الإسلاميّة المسيّسة. وحتى مرجعيّة القرار في جماعة الإخوان، ما زالت إلى الآن تتم ضمن إطار الذكوريّة الإخوانيّة. لا بل حتى شرعيّة وجود الأخوات المسلمات أنفسهنّ، لا تتحقق إلا من خلال الإقرار بشرعيّة الإخوان الذكور، وشرعيّة «المرشد الأعلى». ويذكر، أنّ الأخوات ما زلن يشتكين من عدم تمثيلهن بمكتب الإرشاد للجماعة (دعك من إمكانية ترأس «أخت» للجماعة).
لهذا، إذا كان ثمة من رهان على الأخوات المسلمات لأنْ يصنعوه، فهو إمكانية الانقلاب التاريخي ليس فقط على الإطار الذكوري للإخوان، بل الانقلاب على البنية البطركية-البعليّة كلها، بكل ما تحمله من مفاهيم وقواعد إبستيمية، أسّست لثقافة ما زال يعاني منها إلى الآن طرفا النوع الإنساني (الذكر/ الأنثى)، هي «ثقافة البعل».
الرهان هو على إعادة بناء هويّة جندريّة منفتحة، مؤسسة على أرضية «مساواتيّة» في عمق هويّة الوجود الإنسانيّ (وليس مجرد مساواة في الحقوق فقط). وهذا هو مغزى النسويّة التحرّريّة. وإلا سنبقى ندور في عمق بنية «العقل القضيبي».