Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

1 اللااستثناء المغربي: حزب وجيش وقصر

$
0
0

 اللااستثناء المغربي: حزب وجيش وقصر (الجزء الأول)

كان العام هو 1958، وكان المغرب قد دخل عامه الثاني من الاستقلال عن فرنسا، السلطان محمد الخامس يكتهل ووليّ العهد الحسن الثاني، قائدالقوات الملكية المسلحة، بدأ بتأكيد سلطته سياسياً وعسكرياً. وكان الطرفان الشمالي والجنوبي من المغرب، وكلاهما معقل لجيش التحرير المغربي، خارج سيطرة القصر. حافظت أسبانيا، بقيادة فرانكو، على وجودها الاستعماري على طول حدود المغرب الشمالية والجنوبية. وأظهر المهدي بن بركة (الشخصية الوطنية المعروفة) براعة سياسية سببت نزاعاً بينه وبين أعضاء حزبه السياسي، الاستقلال، وبينه وبين القصر. وكان هذا عاماً أعادت فيه سلسلة من التحركات السياسية والعسكرية بناء ترتيبات وتحالفات القوة الموجودة، واضعة أسس الدولة المغربية الحديثة ومجتمعها المدني.    

وإذا ما وضعنا عام 1958 في سياقه التاريخي، نرى أنه ينسجم مع فترة في الخمسينيات شابتها حالات شد وجذب القوة التي وسمتْ ممارسة وسيرورة تشكل الدولة، والتي بالتالي صاغت آنذاك علاقات الدولة مع المجتمع المدني.  وقد عالجت المقاربات المعيارية لتقسيم التاريخ المغربي الحديث إلى فترات مسألة تشكل الدولة بشكل غير ملائم، وذلك من خلال إهمال الفترة التي سبقت وتلت مباشرة سنة 1956، السنة التي حقق فيه المغرب استقلاله عن فرنسا. ولا يمكن القيام بتحليل نقدي لممارسة وسيرورة تشكل الدولة، وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني في المغرب إلا إذا تجاوزنا التقسيم إلى فترات الذي بُنيَ حول التقسيمات بين الحقب السابقة للاستعمار، والاستعمارية وما بعد الاستعمارية، أو حول فترات حكم السلاطين والملوك. انطلاقاً من هذا، تهدف هذه المقالة إلى مناقشة المركزية العضوية المستمرة المتصورة للنظام الملكي التي أشاعتها التواريخ الوطنية وتهميش الاختلافات السياسية مع الدولة. لقد تبنت الدولة المغربية المعاصرة إلى حد كبير هذه التواريخ الوطنية وأعادت إنتاجها وتعديلها في المتاحف العامة والأرشيف والمقررات المدرسية و”مواقع للذاكرة” أخرى. وتأتي المركزية المفترضة للنظام الملكي في هذه التواريخ على حساب سوء تشخيص الفاعلين والمجموعات والأحداث التي نُسيتْ طويلاً وتم تذكرها بشكل انتقائي.  فضلاً عن ذلك، صاغ هذا السرد إلى حد كبير الطرق المعيارية التي يُقدم بها النظام الملكي المغربي كاستثناء.   

من الضروري أن نعيد النظر في العلاقات المتبدلة بين النظام الملكي وحزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي في الخمسينيات، وموضعة هذه الديناميات داخل تاريخ تشكل الدولة في المغرب. وفي داخل هذه الديناميات والتفاعلات وُضعتْ أسس العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني بما أن كثيراً من مجموعات المجتمع المدني المعارضة سياسياً التي بزغت بعد الاستقلال كانت في الأصل في إما حزب الاستقلال أو جيش التحرير المغربي وانفصلت عنهما لاحقاً. مثلاً، في 1975، انفصلت عدة شخصيات من حزب الاستقلال، وأسست الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية. وقد انخرط هؤلاء الأعضاء، مع مقاتلين سابقين من من جيش التحرير المغربي كانوا يعيشون سابقاً في المنفى أيضاً في تعبئة وتأسيس الاتحاد الوطني للطلاب المغاربة ، الذي حُظر بين 1973 و 1978. بدورها، كانت مجموعات المجتمع المدني، التي ظهرت بعد هذه الفترة مؤسسة أيضاً ومنظمة من قبل أعضاء الاتحاد الوطني للطلاب المغاربة والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. وإذا ما فهمنا كيف تشكلت مجموعات حقوق الإنسان في المغرب، وإذا ما فهمنا خصوصاً المصادر التي بزغت منها، وأعني حزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي، يصبح من الملح وضع هذه العلاقات في السياق التاريخي لتشكل الدولة.

إن العودة إلى الوراء لدراسة الخمسينيات تقدم فرصة للتخلي عن وضع عام 1956 في بداية أو نهاية حقبة، وإلى اعتباره عاماً من الأعوام الأخرى التي وُضعتْ أثناءها أسس الدولة المغربية. وقد بدأت الشخصيات الوطنية مؤخراً بنشر مذكرات روتْ تجاربها وتقويماتها للخمسينيات، وقد نُشر بعضها سنة 2011. ستكون هذه النصوص مفيدة من خلال وضعها في محادثة مع بعضها بعضاً كوسيلة لرسم صورة أكثر شمولاً عن الخمسينيات.

سيُخصص القسم الأخير من هذا المقال لتقويم نقدي لتصوير الدولة المغربية لفترة الخمسينيات في موقع متحف جيش التحرير المغربي، والذي يقع في مبنى “المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير” في الرباط. إن متحف جيش التحرير المغربي مصدر مفيد للتحليل، بما أنه يجمع موضوعات متعددة ترشد هذه المقالة: التقاء الذاكرة والنسيان في بناء تاريخ وطني؛ فكرة بيير نورا عن “مواقع الذاكرة” كوسائل لعرض الذاكرة والنسيان؛ وتصوير النظام الملكي كقوة مؤصلة عضوياً ظلت استمراريتها ومركزيتها سليمتين أثناء الصراع الوطني وبعد الاستقلال. ما سيبقى محورياً، على أي حال، هو الاستجواب المتماسك لما يمكن أن يوصف على نحو أفضل بأنه الذاكرة الانتقائية لتاريخ تشكل الدولة في المغرب من خلال إعادة موضعة وكتابة دور فاعلين مختلفين تخطوا ميادين السياسة والمجتمع المدني بشكل سلس، والأحداث التي بقيتْ طويلاً في هوامش تاريخ المغرب الحديث.  

قبل وبعد 1956

إن الأدبيات التاريخية التي بنت تقسيماتها إلى فترات حول 1830 أو من 1912 إلى 1956 وضعت الديناميات الاستعمارية والوطنية في المركز. إن شخصيات مثل عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي والمهدي بن بركة، بين آخرين، يمثلون كلهم الخيوط المختلفة  للوطنية في المغرب، الريفية، والنخبة المدينية، واليسارية، إلخ. ويوسم النظام الملكي كمؤسسة، مُدارة إلى حد كبير كي تحافظ على دورها المحوري وسط تفاعل مستمر مع حالات الشد والجذب بين النظام الاستعماري والحركات الوطنية. إن هذه الأدبيات التاريخية، التي تنتهي في 1956، لا تملك الكثير كي تقوله عما حدث لأولئك الفاعلين وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً حالما حصل المغرب على استقلاله من فرنسا.  فضلاً عن ذلك، حتى استخدام 1956 كمؤشر لاستقلال المغرب مختلّ بما أنه يُغفل الحضور الاستعماري الأسباني المستمر الذي أحاط بالمغرب في الشمال والجنوب. بالإضافة إلى ذلك، إن القفز من عام الاستقلال 1956 إلى 1962، حين أعلن دستور المغرب الأول، يترك ست سنوات حاسمة كان المشهد السياسي وتوازنات القوى تمر أثناءها في تغيرات درامية، مفتوحة. وفي السنوات، التي أتت  مباشرة قبل وبعد 1956 أخذت بعض التطورات الأكثر أهمية شكلاً في وضع أسس الدولة المغربية المعاصرة. وسيبدأ هذا القسم بتلخيص جدول زمني موجز يفحص الأعوام التي سبقت وتلت 1956، مركزاً بصورة رئيسية على جيش التحرير المغربي، ويختتم بموضعة أهمية هذه الأعوام في سياق تشكل الدولة، وفائدتها في استجواب السرديات التاريخية المعيارية. ومن أجل أن أفعل هذا، سيضع هذا القسم العديد من النصوص في محادثة مع بعضها بعضاً، بما فيه الأدبيات التاريخية النقدية والمذكرات والسير الذاتية.

من بين النصوص التي تحرص جداً على فحص السنوات التي سبقت وتلت 1956 في المغرب كتاب المهدي بنونة “أبطال بلا مجد: فشل ثورة، 1963- 1973. وفيما يركز كتاب بنونة بشكل رئيسي على تعقب جذور “الحركة الثورية” الفاشلة في المغرب ضد الحسن الثاني، يقدم لتحليله بالتشديد على الحوادث والفاعلين المهملين للخمسينيات. كان المهدي بنونة، والذي هو أنثروبولوجي، في موقع خاص ساعده في تأليف كتابه هذا، واضعين بالحسبان الدور الذي لعبه والده محمد بنونة أثناء “الثورة الفاشلة” للستينيات والسبعينيات. ويمكن القول إن المهدي بنونة يبالغ في دور والده ومعاصريه في قيادة “ثورة فاشلة” فضلاً عن ذلك، إن وصفه لما يمكن أن يُسمّى بشكل أفضل انقلابين عسكريين فاشلين كـ “ثورتين” يستحق النقد. على أي حال، تكمن القوة في نص بنونة في مظاهره التاريخية العلمية وخاصة في تقسيمه إلى فترات. وعلى نحو مشابه، إن السيرة التي وضعتها زكية داوود والمعطي منجب للمهدي بن بركة ترصد بعمق الديناميات السياسية بين المجموعات الوطنية في المغرب في السنوات التي أحاطت بعام 1956.(1)ولإكمال الدراسة التاريخية لهذه النصوص، ستساعد الإشارات إلى مذكرات المحاربين القدماء الأعضاء في جيش التحرير المغربي في رسم صورة أكثر كلية للمشهد السياسي في المغرب في الخمسينيات.    

يشدد بنونة أنه قبل الانشقاقات التي حدثت بين وداخل مجموعات وطنية مختلفة في المغرب، كان بعض أبرز الوطنيين والقادة المستقبليين أعضاء في مجموعات في جامعة بن يوسف في مراكش سنة 1944. وكان بينهم محمود البصري (المعروف باسم الفقيه البصري)، وعبد السلام الجبلي، وبوراس الفكيكي، ومحمد بن سعيد آيت ايدر، وكلهم سيبزغون كشخصيات مهمة في قيادة جيش التحرير المغربي. وفي العام نفسه الذي كان فيه كلٌّ من البصري والجبلي والفكيكي وآيت ايدر معاً في الجامعة، فإن دزينات من الشخصيات الوطنية، وبشكل رئيسي من حركة الاستقلال، كتبوا بيان الاستقلال. إن قراءة عبر تقسيم بنونة إلى فترات ترصد بجدارة الخطوط بين وضمن عدة شخصيات وطنية من جيش التحرير المغربي إلى حركة الاستقلال. تقوض أيضاً تصورات بأن هذه المجموعات الوطنية كانت معرفة بصرامة ومنفصلة عن بعضها.   

يشير بنونة أيضاً إلى ترابط هذه الحركات ومؤيديها من خلال رصد التفاعلات المتزايدة التي حصلت بين بن بركة والبصري وبوراس في خريف 1957. ومن خلال هذه التفاعلات في 1957، كما يشرح بنونة، كانت عمليات جيش التحرير المغربي في الجنوب مملاة بشكل متزايد من “مجلس مقاومة”، تمسك إلى حد كبير بالتطلعات السياسية لبن بركة، الذي كان ما يزال عضواً في حزب الاستقلال. بالإضافة إلى ذلك، إن وصف بنونة لهذه الديناميات السياسية يوضح بشكل لافت غياب دور النظام الملكي. وفي الحقيقة، إن المرة الوحيدة التي يلمّح بها بنونة إلى النظام الملكي هي حين يذكر فشله في الانخراط بشكل ناجح في صناعة القرار التي كانت خلف عمليات جيش التحرير المغربي في الجنوب. ذلك أنه بعد التفاعلات المتزايدة بين بركة والبصري وبوراس قام جيش التحرير المغربي ببناء تحالف مع القبائل في منطقة آيت بعمران في 23 تشرين الثاني\نوفمبر، 1957، مهد الطريق لتحرير سيدي افني من السيطرة الأسبانية. وتلقي مذكرات محمد بن سعيد آيت ايدر المزيد من الضوء على هذا التحالف الاستراتيجي. يقول إن أحد العوامل الرئيسية التي سهلت هذا التحالف والاستيلاء على سيدي افني هو أن كثيراً من سكان منطقة آيت بعمران استاؤوا وخاب أملهم من تدهور وضعهم السياسي والاجتماعي الاقتصادي تحت السيطرة الأسبانية. (2)وازدادت هذه المشاعر بشكل خاص بعد 1956، حين حققت المناطق المجاورة لآيت بعمران في الشمال استقلالها. ويؤكد آيت ايدر أن سكان آيت بعمران كانوا واعين لحرمانهم من الموارد ورأس المال الذي كانت أسبانيا تستولي عليه، وكانت التطلعات إلى الاستقلال مرتبطة بتوقعات السيطرة على موارد المنطقةالغنية. ويذكر بنونة بشكل موجز هجوم جيش التحرير المغربي في اليوم نفسه، في 23 تشرين الثاني\نوفمبر 1957 الذي أعقب الاستيلاء على سيدي افني. شمل هذا الاستيلاء على تان تان وسمارة وادي الذهب والداخلة والعيون، والساقية الحمراء، وكلها مدن استراتيجية في الجنوب تقدمت في النهاية القوات الملكية المغربية نحوها بعد عقدين أثناء “المسيرة الخضراء” لعام 1957. وبينما يصف بنونة هذه الأحداث بمصطلحات ومعاني ضمنية، فإن قصة آيت ايدر عن هذه الأحداث أكثر تأصلاً في اقتصاد سياسي نقدي. ويستخدم آيت ايدر مصطلح “ثورة” كي يصف هذه التطورات، وعلى نحو أكثر تحديداً، ثورة آيت بعمران. ويأتي استخدامه لمصطلح ثورة بعد نظرة عامة إلى التاريخ المادي لآيت بعمران.

كان لهذه الخيارات عدة نتائج سياسية: أولاً، أشارت إلى قدرة مجموعة عسكرية قوية ومنظمة على العمل خارج نطاق القصر؛ ثانياً، هددت هذه العمليات الوضع القائم الذي تم تأسيسه بين النظام الملكي والمواقع الاستعمارية الأسبانية والفرنسية في الجنوب؛ وثالثاً، نظر الفرنسيون والأسبان إلى هذه التطورات على أنها تقود إلى تحالف بين جيشي التحرير المغربي والجزائري، الذي أسس مسبقاً مستوى من التعاون من خلال الاستخدام المشترك للأسلحة والموارد. وكان التقدم الذي أحرزه جيش التحرير المغربي في الجنوب يحدث أيضاً في  ظل أحداث إقليمية أخرى من المرجح أنه كان لها تأثير في المناورة السياسية للقوى الاستعمارية الفرنسية والأسبانية، وكله في تعاون مع السلطان محمد الخامس وولي العهد آنذاك وقائد القوات الملكية المسلحة الحسن الثاني. سيكون من الصعب ألا نضع في الاعتبار كيف أن الأحداث التي حصلت في مصر منذ بضع سنوات كان لها تأثير في إثارة مخاوف النظام الملكي المغربي من تقدم جيش التحرير المغربي، وذلك بعد إطاحة حركة الضباط الأحرار بالنظام الملكي في ثورة 1952.  

وكان لدى النظام الملكي المغربي، والنظام الفرنسي والأسباني، كل الأسباب كي يقلقوا مما يمكن أن يتمخض عنه المستقبل في حال واصل جيش التحرير المغربي اكتساب القوة في الجنوب. إن الإشارات إلى أن جيش التحرير المغربي كان يتلقى الأسلحة من جمال عبد الناصر صعدت أيضاً من هذه المخاوف. حتى بن بنونة يشير إلى أن تحركات جيش التحرير المغربي شكلت تهديداً لاستقرار وبقاء العرش. تساعد كل هذه العوامل في رسم صورة أكثر وضوحاً للأحداث التي تلت، بدءاً مما دعاه الفرنسيون “عملية إيكوفيون”، وما دعوه الأسبان “عملية أوراغون”. فقد استهدفتْ هذه العملية الفرنسية الأسبانية المشتركة جيش التحرير المغربي في الجنوب وشملت تعبئة عشرة آلاف جندي أسباني وستة آلاف جندي فرنسي وكذلك دعماً قوياً من القوى الجوية. ووصف آيت يادر هذا الحدث بأنه من أصعب الأحداث التي مر فيها جيش التحرير المغربي في الجنوب، وأجبره على موقف خطير لم يكن قادراً على معالجته، من زاوية الموارد وكذلك الرجال. واستمرت العملية العسكرية 15 يوماً.  وبعد عدة أشهر من العملية فحسب، وفي لفتة وصفها بن بنونة كـ “مكافأة” لقبول النظام الملكي، فقد انسحبت أسبانيا، بقيادة فرانكو، من سيدي افني في نيسان 1958، وتراجعت إلى المدينة الجنوبية ذات الموقع الاستراتيجي طرفاية المتوضعة قرب الحدود مع الصحراء الغربية.  بعد ذلك في الحال، عُيّن الجنرال محمد أوفقير قائداً للقوات المسلحة الملكية في طرفاية.      

في ذلك العام نفسه، كان ولي العهد والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية الحسن الثاني، يقود هجوماً آخر في الشمال يهدف إلى إضعاف المعقل الأخير للمقاومة المسلحة المرتبطة بجيش التحرير المغربي في إقليم الريف وإنهاء حضور حزب الاستقلال الذي لم يتماش مع خط القصر.  وبحسب المؤرخ المغربي نبيل ملين، أخذ الهجوم شكلاً تحت “صيغة سحرية” شكلت ما يلي: “إثارة تمرد في منطقة ريفية لفتح المجال لإعلان الأحكام العرفية والتدخل العسكري”. وهدفت الخطة أيضاً إلى استغلال النزاعات بين الاستقلال وجيش التحرير المغربي في إقليم الريف، واللعب بها، والتي نجمت إلى حد كبير عن الادعاءات بأن بن بركة أمر باغتيال عباس المسعدي في حزيران\يونيو 1956، وهو شخصية رئيسية في قيادة جيش التحريرالمغربي. وبحسب بن بنونة، أمر بن بركة باغتيال المسعدي بسبب ما تم تصوره بأنه نوايا المسعدي للوقوف مع القوات المسلحة الملكية بناء على طلب من القصر. (3)عزز هذا الزعم التأكيدات في كتاب “بن بركة”، وهو سيرة ذاتية لهذه الشخصية من تأليف زكية داوود والمعطي منجب. تورد داوود ومنجب مقابلة جرتْ مع شقيق بن بركة، عبد القادر، الذي شرح كيف أنه في 1955، قام بن بركة بعدة زيارات “خطيرة” إلى إقليم الريف. كانت أهداف تلك الزيارات، وفقاً لعبد القادر، هي تحقيق مستوى معين من التنسيق بين حزب الاستقلال والفرع الشمالي لجيش التحرير المغربي. لو كان المسعدي ينوي الصف مع القوات المسلحة الملكية لكان هذا قوض دون شك خطط بن بركة لبناء تحالف بين الاستقلال وجيش التحرير المغربي. بالتالي، سيكون اغتيال المسعدي ملائماً إلى حد كبير لبن بركة.(4)

نشأ عنصر آخر للنزاع بين الاستقلال وجيش التحرير المغربي من ديماغوجية بن بركة، التي اصطدمت مع تصور جيش التحرير المغربي للاستقلال. وبينما كان بن بركة يرغب في أن يفاوض من أجل فكرة لاستقلال المغرب “أكثر براغماتية على الصعيد السياسي” ، فقد تمسك جيش التحرير المغربي بفكرة “استقلال كلي في المغرب كله”، والذي يشمل الجزائر، والجيبين الأسبانيين سبتة ومليلية، والصحراء الغربية. كانت هذه الصدامات السياسية سبباً للجدل أثناء مفاوضات إكس ليبان، المفاوضات الخاصة باستقلال المغرب، في أيلول\سبتمبر 1955. وكان على البصري (كقائد لجيش التحرير المغربي في الجنوب) التدخل كي يقنع أعضاء جيش التحرير المغربي في الشمال للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع بن بركة. وقد هيأت هذه العلاقات العدائية بين جيش التحرير المغربي في الشمال وحزب الاستقلال الخلفية لخطة حسن الثاني كي يثير تمرداً يفتح مجالاً لتدخل القصر في الريف. وبحسب ملين، كانت الخطة “نبش جثث عدد من مقاتلي المقاومة الذين سقطوا في القتال أو اغتيلوا، وكان الأبرز بينهم عباس المسعدي، منسق جيش التحرير المغربي في الناظور، من أجل تنظيم جنازات فخمة”. أضاف ملين أنه حالما نُفِّذَ قرار تنظيم تلك الجنازات في 2 تشرين الثاني\أكتوبر 1958، والذي يحدد الذكرى الثالية لتأسيس جيش التحرير المغربي، تحولت الجنازات إلى مظاهرات ضخمة ضد حزب الاستقلال، مما أدى إلى صدامات عنيفة وأمنت مدخلاً للتدخل العسكري لاستعادة النظام. ويشير ملين إلى كيف أن السلطان قرر أن يحيي بعد شهر احتفالات يوم العرش في مدينة تطوان الشمالية، معبأ 13000 جندي “بحجة تنظيم عرض عسكري”. وبدلاً من ذلك تم تطبيق الأحكام العرفية في 26 تشرين الثاني\نوفمبر مما سمح للقصر بتعيين حلفاء مخلصين في إقليم  الريف، مثل ما حفّز على تعيين الجنرال أوفقير في طرفاية.

هناك مسألة ما تزال قيد الجدل إلى حد كبير وهي أصول وتطور ودرجة التنسيق بين فرعي الشمال والجنوب من جيش التحرير المغربي. ما هو واضح هو أن جيش التحرير المغربي أنشأ فرعه الذي في الشمال قبل الذي في الجنوب. ويورد عبد الله كيكر عدة سيناريوهات وتفسيرات لكيف ولماذا قرر جيش التحرير المغربي أن يوسع عملياته في نحو الجنوب.  تتنوع بعض هذه التفسيرات من استمداد جيش التحرير المغربي للإلهام من مزاعم علال الفاسي بأن موريتانيا كانت في الحقيقة جزءاً من المغرب، وأن فرع جيش التحرير المغربي في الجنوب تأسس لدى إطلاق سراح عدد من المقاتلين الوطنيين وكجزء من صفقة سياسية. ويوحي غياب الإجماع على أصول ودرجة التعاون بين الفرعين الشمالي والجنوبي لجيش التحرير إما بدمقرطة البنية أو دمقرطة الذاكرة، وربما بكليهما. ما هو واضح هو أن جيش التحرير المغربي في أوجه أسس تنظيماً دينامياً انخرط بانتظام في مجادلات غنية حول مسائل الوطنية وتصورات المواطنة، والتاريخ والسياسة بعامة. وقد تجسد هذا في النصف الثاني من مذكرات آيت ايدر، والتي هي مجرد رسائل تم تبادلها بين قيادة الفرع الجنوبي لجيش التحرير المغربي.إن هذه الرسائل والعائدة كلها إلى عام 1957 وبعده، تتضمن توسلات ملحة من أجل المساعدة الطبية، وسجلات محاسبة، وجمع معلومات استخبارية حول علاقات المغرب مع أسبانيا، وحتى مناقشات داخلية حول ما يجب أن يكونه هدف ودور جيش التحرير المغربي بعد استقلال المغرب. وكانت الاستنتاجات المستمدة من الموضوع الثاني هي أن مقاومة جيش التحرير المغربي المسلحة والمضادة للاستعمار لن تتوقف إلى أن تتحرر الجزائر و”الصحراء الكبرى”. وتتضمن الرسائل المتبادلة أيضاً مسوحات بيئية وجغرافية للصحراء. إن هذه التبادلات، وعلى نحو جماعي، تشير إلى أنه حتى بعد الاستقلال، كان جيش التحرير المغربي قوة نافست قدرات القوات الملكية المسلحة في ذلك الوقت.    

وفي أيلول\سبتمبر 1959، انفصلت شخصيات عن كل من حزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي كي تؤسس الاتحاد الوطني للقوى الشعبية، بما فيه بن بركة وبوعابد والبصري. وفي آذار 1960، تم حل جيش التحرير المغربي. يقول بنونة:”بعد التقطيع المتواصل لأعضاء جيش التحرير المغربي، أصبح الجيش في 1960 عبارة عن شبكة من الخلايا المتناثرة في البلاد، والتي نشد قادتها، الذين لم يكونوا في السجن أو المنفى، التخفي”. يصف محمد بن سعيد آيت ايدر استهداف النظام الملكي لقادة جيش التحرير المغربي في 1960 بأنه “فاجأ عدداً كبيراًمن الوطنيين في المجال السياسي الذين استخفوا بمدى هذه الحملة”. 

إن عبد الله كيكر أكثر ارتياباً في تقويمه لهذه المحاولات لتقويض جيش التحرير المغربي، فقد عزا انقساماته وانهياره إلى قيام بضعة أفراد “بالسعي وراء الكسب الذاتي، أو مصالح مرتبطة بروابط عائلية أو سياسية أو قبلية”. (6)  وفي أيار\مايو 1960، استبدل القصر الحكومة التي قادها عبد الله ابراهيم، واضعاً مجلس الوزراء والبرلمان بشكل مباشر تحت سيطرة القصر، وصار الحسن الثاني ما يشبه “نائب الرئيس” إلى جانب  محمد الخامس. وفي تموز\يوليو 1960، عُيِّنَ الجنرال محمد أوفقير  (الذي سينتحر فيما بعد أو يُعدم، ما يزال السبب الرسمي لموته مثاراً للجدل، في 1972 بسبب دوره في محاولة الانقلاب العسكرية الثانية) كرئيس لفرقة القوات الملكية المسلحة في المعقل الجنوبي طرفاية، وسمي مدير الأمن القومي والاستخبارات.     

إن تقويم بنونة لهذه التطورات السياسية التي تقود إلى 1960 هو ما يلي:”كان الهدف الرئيسي للقصر هو شل جيش التحرير المغربي من خلال تحييد القادة الرئيسيين”(7). وبينما كان هناك بالتأكيد استهداف منهجي لجيش التحرير المغربي، فإن موضعة هذه الأحداث داخل عملية تشكل الدولة ومزج النقاشات لهذه الأحداث مع نصوص أخرى سيوحي أن خطة محسوبة أكثر لتدعيم ومركزة سلطة القصر كانت تتخذ شكلاً. بالإضافة إلى ذلك، يعترف آيت نادر أن لهذه الأحداث معاني ضمنية تتعلق أكثر بتوازن القوة الذي وُجد في بداية الاستقلال:”في الحقيقة لم تكن هذه المناورات أفعالاً اعتيادية أو معزولة، لكن كثيراً من المحللين يعتبرون هذا بداية محاولة لتغيير الموازين التي أنشأها الصراع الوطني”. (8،)تبين هذه الأحداث أن سلطة النظام الملكي أثناء الأعوام الأخيرة قبل ومباشرة بعد الاستقلال، كانت مهتزة، وخاصة حين كان الأمر يتعلق بأطراف المملكة. وفي الواقع لم ينشد النظام الملكي تأكيد حكمه في الأطراف البعيدة للمملكة فحسب، بل سعى في الوقت نفسه أيضاً إلى تأكيد نوع معين من الحكم يزيل الضوابط والتوازنات، حيث أن احتمال تحالف بين حزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي يمكن أن يقوض احتكار النظام الملكي للسلطة.   

بالتالي، في الوقت الذي أُعْلن فيه دستور المغرب الأول في 1962 ثم طُرح لاستفتاء شعبي (الذي قاطعه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة بن بركة)، فإن السلطة المركزية وغير المفحوصة للملك كانت مسبقاً حقيقة واقعية، وكان وضع إطار قانوني لترتيبات سلطوية كهذه مجرد إجراء شكلي.

وبما أن جيش التحرير المغربي كان القوة  المنظمة الرئيسية في المناطق الطرفية للمغرب في تلك الفترة، فإن جعل سلطة القصر مركزية كان يجب أن يأتي على حساب إما تبني أو تصفية جيش التحرير المغربي. ما حدث كان مزيجاً من التبني والتصفية: تم دمج بعض العناصر في القوات المسلحة الملكية (ما يزعم السرد الرسمي للدولة أنه كان السيناريو الوحيد بعد الاستقلال)، بينما تمت تصفية عناصر أخرى بعنف، ونشد العناصر الباقون المنفى، وإلى حد كبير في الجزائر، أو تخفّوا.  وتلقي هذه الأحداث الضوء أيضاً على إعادة تشكيل الفرع الجنوبي من جيش التحرير المغربي، الذي، خاب أمله من المشروع الوطني المغربي، خاصة بعد العنف الحاصل أثناء عملية إيكوفيلون وأوراغون، فوضع أسس حركات تحرر تالية في الصحراء الغربية، مثل حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في 1976، وفيما بعد، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في 1973. (9)

ومن خلال إعلان الأحكام العرفية في إقليم الريف وتأسيس حضور دائم للقوات الملكية في طرفاية بقيادة الجنرال أوفقير، تمكن القصر من بسط سلطانه خارج المدن الملكية للرباط وفاس ومكناس ومراكش، وفرض سيادته في الأصقاع الأبعد للمملكة من الشمال إلى الجنوب.    

جاء تأكيد السيادة هذا على حساب تصفية جيش التحرير المغربي الذي كان دوره في الصراع الوطني من أجل الاستقلال جوهرياً، لكن وجوده المستمر بعد الاستقلال برهن أنه غير ملائم سياسياً أو عسكرياً للقصر. إن السرد التاريخي الرسمي للدولة يتذكر وينسى انتقائياً، من خلال هذه العدسات التاريخية، جيش التحرير المغربي، كما توضح المذكرات التي نشرتها المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، المستندة إلى السرد التاريخي المعروض في المتحف الوطني لجيش التحرير المغربي، كما سيبين الجزء الثاني من هذا المقال.

[ترجمة: أسامة إسبر]

[اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية من المقال ]


Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

Trending Articles