اللااستثناء المغربي: حزب وجيش وقصر (الجزء الثاني)
[اضغط/يهنا لقراءة الجزء الأول من المقال]
إن تفاعل الذاكرة والنسيان في صياغة الدولة لتاريخ الخمسينيات في المغرب يأخذ شكلاً كليَّ الحضور في موقع متحف جيش التحرير المغربي. يقع المتحف في بناء المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، المتوضع بعيداً في الرباط بين عدد من الفروع الوزارية في حي أكدال.ولا يثير موقع المتحف سؤال هذا المقال المعلن فحسب، بل يثيره أيضاً ما يكمن داخل جدران المتحف. ذلك أنّ المتحف المؤلف من أربعة طوابق، يحتوي على عدد من التذكارات من الأيام الأولى لعمليات جيش التحرير المغربي، بالإضافة إلى التعبيرات الفنية عن عمليات متنوعة، وكذلك دزينات من اللوحات والصور للعائلة الملكية. وبالرغم من أنه دُعيَ “المتحف الوطني لجيش التحرير المغربي”، إلا أن محتواه لا يتعلق كله بجيش التحرير المغربي. فضلاً عن ذلك، إن ما يفعله المتحف، لا ما يعرضه، هو الذي يكتسب الأهمية الأكبر، كمثل عدم وجود أي شيء يذكّر بالأعوام التي تلت 1956. وتكمن فائدة المتحف في حقيقة أنه يخدم كعدسات عامة ومادية يُرى من خلالها تصوير الدولة للأحداث التي عرّفتْها الدولة بأنها بؤر التاريخ الوطني للمغرب.
بعد الظهير الشريف رقم 173252، تم تأسيس المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحريرفي 15 حزيران\يونيو 1973. وتم إنشاء المتحف فيما بعد، في 2001. وبعد إنشاء لجنة عليا بناء على مرسوم ملكي، رُبطت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير جوهرياً بمشروع دولة أوسع سعى إلى بناء ذاكرة عامة محفّزة سياسياً. وكان للمندوبية هدفان: أن تقدم تعويضات للمتطوعين الأحياء لجيش التحرير المغربي؛ وأن تجمع وتنشر تاريخ جيش التحرير. وعلى موقع المندوبية على الإنترنت، نشر المندوب السامي بياناً لخص مهمة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير:
ووفاء وبرورا بجلائل الأعمال وبالتضحيات الجسام التي بذلها الوطنيون ونساء ورجال المقاومة وجيش التحرير الأشاوس الذين ضحوا بالغالي والنفيس في مواجهة ومناهضة الاستعمار والدفاع عن عزة وكرامة الوطن، تم إحداث كل من المندوبية السامية والمجلس الوطني لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير كهيئتين تمثيليتين تضطلعان بخدمة شؤون وقضايا المنتمين لأسرة المقاومة وجيش التحرير وتخويلهم منافع مادية وامتيازات عينية فضلا عن مهام صيانة الذاكرة التاريخية وإشاعة دروسها وعبرها وقيمها ومعانيها في صفوف الناشئة والأجيال المتعاقبة.
ومن الجدير بالذكر ما تحقق من المكاسب والمنجزات لفائدة مجتمع قدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير ومنها استفادتهم من التغطية الصحية الأساسية والتكميلية والنقل في حالة الإسعاف علاوة على اقتناء او بناء السكن الاجتماعي وادماج قدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير وابنائهم في المجهود الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بتحفيزهم ودعمهم ماديا لاعتماد التشغيل الذاتي والعمل المقاولاتي والمبادرة الحرة قصد إحداث مشاريع ومنشآت اقتصادية واجتماعية صغرى ومتوسطة في اطار تضامني وتشاركي يخدم اهداف ومقاصد التنمية الشاملة والمستدامة والتنمية البشرية .
بالإضافة إلى تقديم خدمات طبية واجتماعية لمتطوعي جيش التحرير المغربي وأعضاء أسرهم، تنتج المندوبية منشورات عن جيش التحرير المغربي، تشمل المسوح التاريخية و الموسوعات التي تؤرشف سير أعضاء جيش التحرير. وتنشر المندوبية أيضاً مذكرات ألفها متطوعون. ويعمل المُكوِّن البيداغوجي للمندوبية تحت قسم الدراسات التاريخية الذي يشمل ثلاثة فروع: المتحف الوطني، وخدمات البحث والتوثيق، وخدمات النشر والتوزيع.
وفي تضمينها لهدفي الدعم المادي وإنتاج المعرفة في الفرع التاريخي، تظهرُ المندوبية العناصر المتقاطعة لما يصفه بيير نورا بأنه “مواقع الذاكرة” . يقول نورا ما يلي عن “مواقع الذاكرة”:
إن مواقع الذاكرة بسيطة وغامضة، طبيعية ومصطنعة، متاحة للتجربة الحسية الملموسة وميالة إلى التعبير التجريدي الأعلى في آن واحد. والواقع أنها مراكز بالمعاني المادية والرمزية والوظيفية (1)
وبالفعل، إن المندوبية السامية تحقق وصف نورا “لمواقع الذاكرة”، فهي مادية بدعمها لأعضاء جيش التحرير المغربي؛ رمزية في تمثيلها لماض تاريخي؛ ووظيفية في تقديم مادة تعليمية وبحثية. وفي متحف المندوبية السامية تأخذ المؤسسة شكلاً آخر كـ “موقع للذاكرة”. وكما ذكرنا أعلاه، تأسس المتحف بعد عقود من ظهير 1973. وحدث أن تم إنشاء المتحف أثناء سنوات الملك محمد السادس الأولى على العرش، في 2001، مما وسّع مشروع الدولة “التاريخي” المدفوع سياسياً للتذكر الانتقائي لجيش التحرير المغربي تحت حكم الملك حسن الثاني.
وكي نفهم بشكل أفضل كيف تخدم المندوبية السامية مشروع دولة أوسع، من الضروري أن نموضعها داخل السياق التاريخي الذي أصدر الملك الحسن الثاني الظهير الشريف كي يؤسسه. وبينما تُنعتْ محاولة الانقلاب في تموز\يوليو 1971 إلى حد كبير بكونها محاولة الانقلاب العسكري “الأول” في عهد الملك حسن الثاني، حدثت محاولة انقلاب أخرى في تموز\يوليو 1963(2). وكان أحد العقول المدبرة وراء انقلاب تموز\يوليو 1963 هو الفقيه البصري الذي ذكرناه سابقاً، القائد السابق لجيش التحرير المغربي والمشارك في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. اعتمد البصري على العقيد المذبوح، وهو شخصية تسلقت عبر الرتب العسكرية بعد دوره في “تهدئة” إقليم الريف في 1926 ضد عبد الكريم الخطابي، للحصول على المعلومات الاستخبارية حول خطة القصر المعمارية.(3) فيما بعد كان المذبوح أحد قادة محاولة انقلاب تموز\يوليو 1971. وما لم يمر أقل من عام على حصول محاولة الانقلاب العسكري في آب\أغسطس 1972 بقيادة الجنرال محمد أوفقير حتى أصدر الملك الحسن الثاني الظهير الشريف رقم 173252 في 1973، ممهداً الطريق للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
لم تكن الأشهر الأولى من 1973 أقل اضطراباً في المغرب، بسبب القمع المتنامي للإضرابات والمظاهرات الجامعية. وكان الناشطون الذين في المنفى يُعبِّئون خارج المغرب، ويحضّرون كي يعملوا على ما نظروا إليه كـ”لحظة ثورية”. وكان عدد من العقول المدبرة لعمليات التعبئة هذه أعضاء سابقين في
جيش التحرير المغربي، الذين كان معظمهم في المنفى، في دمشق، وفيما بعد في الجزائر، منذ 1960.
واتخذت عمليات التعبئة هذه شكل أفعال مقاومة عنيفة في الرباط والدار البيضاء، مطلقة شرر دورة من الاعتقالات والاختفاءات. وفي الشهر نفسه الذي أصدر فيه الحسن الثاني الظهير رقم 173252، في 25 حزيران\يونيو 1973، حوكم 149 شخصاً في المحكمة العسكرية في القنيطرة. وفي ظل هذه الأحداث، أنشئت في 1973 وكالة المخابرات المحلية الأردنية التابعة للدولة، “مديرية مراقبة الأراضي”. إن فصل سياق إصدار الحسن الثاني للظهير رقم 173252 يعني إغفال السياسة والقوة خلف تأسيس المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير في مفصل حساس كهذا من النظام الملكي. ومن المرجح أنها ليست مصادفة أن الحسن الثاني سعى إلى أن يتذكر بشكل انتقائي دور جيش التحرير المغربي في التاريخ المغربي أثناء لحظة كان فيها عناصره المتبقون يخوضون صراعاً سياسياً ضد الأمة نفسها التي قاتلوا كي يؤسسوها في وجه الاستعمار الفرنسي والأسباني. ويتوقف سرد المندوبية السامية وتقسيم جيش التحرير المغربي إلى فترات في عام الاستقلال، 1956. إن تصور نورا لمواقع الذاكرة كـ “تصويرات نهائية لوعي تذكاري بالكاد بقي حياً” يضيء التبريرات خلف قرار الحسن الثاني لإنشاء المندوبية السامية، إذ إلى أن أصدر الحسن الثاني الظهير الذي أنشأ المندوبية السامية من أجل إحياء “وعي تذكاري” وطني لجيش التحرير المغربي، فإن “الوعي التذكاري” الموجود في المغرب كان متركزاً بشكل رئيسي على النظام الملكي، وإلى حد أدنى، على حزب الاستقلال. كان “الوعي التذكاري” للنظام الملكي، مثلاً، متجلياً من خلال احتفالات يوم العرش الطنانة السنوية. عثر حزب الاستقلال على مجال في “الوعي التذكاري” في الكتب المدرسية للمدارس العامة وإعادة تسمية جادات رئيسية بأسماء شخصيات حزب الاستقلال. إن فحص تأسيس المندوبية السامية من خلال فكرة نورا عن “موقع الذاكرة يمكن أن يفهم كمحاولة لموضعة جيش التحرير المغربي داخل “وعي تذكاري” وطني إلى جانب النظام الملكي وحزب الاستقلال. ولم يكن بالإمكان إنجاز هذا إلا بتبني تقسيم للفترات ينتهي في 1956، وهذا بالضبط ما نجحت المندوبية السامية في فعله من خلال متحف جيش التحرير المغربي الواقع داخل أبنية المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
إن بناء هذا “الوعي التذكاري” لجيش التحرير المغربي من خلال المندوبية السامية، إلى جانب النظام الملكي وحزب الاستقلال، جاء على حساب وعي سياسي نقدي حفّز ووحّد العناصر المتبقية لجيش التحرير من أجل التعبئة ضد النظام الملكي أثناء السنوات التي تلت الاستقلال. إن اختزال جيش التحرير المغربي إلى مجموعة وطنية استمرت حتى 1956 فقط، أدى إلى طمس تاريخها بعد 1956 الذي عرّف وعيها السياسي النقدي كقوة هددت احتكار النظام الملكي للسلطة. ما يصف أجندة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير هو سيرورة فاعلة ومنتشرة من الذاكرة الانتقائية. وهذا واضح بصورة خاصة في متحف المندوبية السامية. فالمتحف الذي يقع في الأبنية نفسها يمتلك مدخله الخاص. ولدى الدخول، تواجه الزوار لوحتان كبيرتان تصوران حرب إقليم الريف في العشرينيات (الحرب التي قضت على جمهورية إقليم الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي). وتتوضع صورة الخطابي بين اللوحتين. ما يواجه هذا العرض هو قذيفة صدئة تجثم على قاعدة تمثال مع شرح يقول: “قذيفة من العيار الكبير استخدمتها القوات الفرنسية في معركة بوغافر في آذار\مارس 1933”.على أي حال، سبقت معركة بوغافر تعبئة جيش التحرير المغربي بعقدين تقريباً، وكانت مواجهة عسكرية حصلت بين المقاومة الأمازيغية المحلية، التي قادها عسو أوبسلام، ضد الفرنسيين والتهامي الكلاوي.
(صورة للوحة الخطابي بين لوحتين في مدخل متحف جيش التحرير المغربي في الرباط. الصورة من المؤلفه)
يجاور هذه اللوحات المعروضة القطعة الأكثر لفتاً للنظر في المدخل، وهي سيارة جاك لومير دوبروي مدير “ماركو برس” السابق وشركة “لوسيور” الفرنسية. تتوضع السيارة في الواجهة المركزية للمدخل محاطة بسجادة مخملية وصحيفة معدنية عليها وصف موجز يصف كيف اغتيل لومير ـ دوبروي في سيارته في 11 حزيران\يونيو 1955 علي يد “تنظيم إرهابي”. وتُركت مواضع دخول الرصاصات من خلال نوافذ السيارة كما هي. تختتم اللوحة المعدنية بملاحظة تقول إن “شركة لوسيور تبرعت بهذه السيارة للمتحف الوطني للمقاومة وجيش التحرير المغربي في 28 حزيران\يونيو 2005”. وفي 2005 كان أغلبية مالكي الأسهم في الشركة وما زالت هي الملك. إن اغتيال لومير-دوبروي، بحسب داوود ومنجب، هو عمل تم رداً على ما تصوره الفرنسيون المتطرفون كتهديد لتحالف بين حزب الاستقلال وجيش
التحرير المغربي واضعين بالحسبان الصلات المتزايدة بين بن بركة والبصري.
(صورة سيارة لومير-دوبروي معروضة في متحف جيش التحرير المغربي مع بقايا طلقات الرصاص من خلال النافذة حين اغتيل. الصورة بعدسة المؤلفة)
ثمة عدد من بورتريهات العائلة الملكية، لكن لا شيء مما هو معروض في مدخل المتحف مرتبط مباشرة بجيش التحرير المغربي. ينطبق هذا أيضاً على المحتويات المعروضة في الطابقين الأول والثاني، والتي هي معظمها بورتريهات وصور للعائلة الملكية، وكذلك وثائق رسمية مختلفة تتسلسل من المعاهدات إلى الإعلانات. وهناك صورة مكبرة ومؤطرة للسلطان محمد الخامس إلى جانب كل من فرانكلين د.روزفلت وونستون تشرشل التُقطت أثناء مؤتمر آنفا في الدار البيضاء في 22 كانون الثاني\يناير 1943 والتي هي الشيء المعروض بشكل أكثر بروزاً في الطابق الثاني. ولا تشير الأشياء المعروضة أن المتحف مخصص حصرياً لجيش التحرير المغربي حتى نصل إلى الطابق الثالث. وتشمل المواد المعروضة الأسلحة المستخدمة أثناء أوج مقاومة جيش التحرير المغربي المسلحة بينما كانت العائلة الملكية في المنفى بين 1953 و1955، وبورتريهات مقاتلين مختلفين في جيش التحرير المغربي، وقوائم الذين تم استهدافهم وقُتلوا جراء عمليات جيش التحرير (ومعظهم مغربيون نُظر إليهم كـ “متعاونين” مع النظام الاستعماري الفرنسي). إن الأشياء الأكثر تكرراً في العرض هي تعبيرات فنية مختلفة عن عمليات جيش التحرير، وتتضمن لوحات ومنحوتات صغيرة. وتنتشر بين الأشياء المعروضة بورتريهات وصور لأعضاء العائلة الملكية. ويسم الطابق الأعلى نهاية المواد المعروضة، والتي تتضمن بشكل رئيسي صور العائلة الملكية عائدة من المنفى وكذلك منحوته تصور وصول العائلة الملكية إلى مطار سالي.
أخيراً، ثمة لوحة واحدة في الطابق العلوي تحدد قفزة تسلسلية زمنية من عقدين تقريباً، حتى 1075، تعبر عن المسيرة الخضراء.
(لوحة معروضة في متحف جيش التحرير المغربي تصور هجوماً نُفّذ ضد المستوطنين الفرنسيين في مراكش. الصورة
بعدسة المؤلفة)
((صور العائلة المالكة في المنفى في مدغشقر معروضة في متحف جيش التحرير المغربي. الصورة بعدسة المؤلفة
(مجسّم مصغر في متحف جيش التحرير المغربي يصور العائلة المالكة عائدة من المنفى، تصل إلى مطار سالي. الصورة بعدسة المؤلفة)
إن وصف بيير نورا التالي لـ “موقع الذاكرة” مفيد لفهم متحف جيش التحرير المغربي:
إن “موقع الذاكرة” ينشأ من إحساس بأنه لا توجد ذاكرة تلقائية، أننا يجب أن ننشئ الأرشيف بشكل متعمد، ونحافظ على مناسبات الذكرى المئوية، وننظم الاحتفالات، ونعلن المراثي، ونصادق على مشاريع القوانين لأن أنشطة كهذه لم تعد تحدث بشكل طبيعي (…) ندعم هوياتنا في معاقل كهذه، لكن إذا لم يُهدَّد ما تُدافع عنه، لن تكون هناك حاجة لبنائها (…) إذا لم يحاصر التاريخ الذاكرة، ويشوهها ويحولها، مخترقاً لها ومثيراً الهلع فيها، لن يكون هناك “موقع ذاكرة”. وبالفعل، إن هذا الشد والجذب نفسه هو الذي ينتج “موقع الذاكرة”: لحظات من التاريخ تُفصل عن حركة التاريخ، ثم تُعاد؛ بعد أن أُفْرغت من الحياة، ولكن دون أن تكون ميتة بعد، كالأصداف على الشاطئ حين ينحسر بحر الذاكرة الحية. (4)
حين نفكر بجيش التحرير المغربي تكمن فائدة تصور نورا في استخدام وصفه بالمعنى السلبي. وبينما ينظّر نورا حول “موقع الذاكرة” في سياق الذاكرة الفرنسية، فإن موقع الذاكرة يتخذ شكلاً أكثر انتشاراً في سياق أمة تبزغ من هوية وطنية مضادة لتاريخ وذاكرة هيمنة استعمارية. وبالرغم من أن نقاش نورا غير الملائم للتأثير الذي أحدثه الاستعمار في صياغة موقع الذاكرة في فرنسا، فإنه من المستحيل تجنبه حين نفكر بمتحف جيش التحرير المغربي كموقع ذاكرة في المغرب بعد الاستقلال. يقول نورا إن الهويات مرتبطة بموقع الذاكرة، وإن التهديدات التي تواجه هذه الهويات تحفّز على بناء موقع الذاكرة. وفي حالة متحف جيش التحرير المغربي في المغرب، إن مشروع الدولة في دعم هوية وطنية تستند إلى مركزية
النظام الملكي في الصراع الوطني هو الذي دفع إلى بناء متحف جيش التحرير المغربي، وليس العكس.
وكان متحف جيش التحرير المغربي يتعلق ببناء موقع ذاكرة لذاكرة حية ومثيرة للجدل تهدف إلى أن تتلاءم مع تاريخ وطني مبني إزاء تاريخ استعماري؛ تاريخ يُعرَّف بشكل تفاعلي بلحظاته بدلاً من حركاته. هكذا، كان متحف جيش التحرير المغربي كموقع ذاكرة مفيداً للدولة حين كان مشهد تلك الذاكرة مبنياً حول تاريخ وطني: حين بذل جيش التحرير المغربي طاقته في القتال ضد الاستعمار. يوضح هذا لماذا ينهي المتحف تقسيمه إلى فترات في 1956، كما تفعل المذكرات التي نشرتها المندوبية السامية لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير. إنّ تذكّر جيش التحرير المغربي بعد 1956 يقوّض السرد الرسمي للدولة الذي وضع النظام الملكي كقوة محورية صفّت حولها كل الحركات الوطنية. ويوضح أيضاً مدى تعاون النظام الملكي مع النظامين الاستعماريين الفرنسي والأسباني لمركزة سلطته على حساب تصفية جيش التحرير المغربي. وفي الحقيقة، إن تأسيس المندوبية السامية لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير لم يكن يتعلق بجيش التحرير بقدر ما كان يتعلق بإضفاء لمسة مقاومة وطنية على النظام الملكي في وقت كانت تتعرض فيه شخصيته الوطنية لتهديدات وهجمات تتسلسل من الرتب العليا للجيش إلى الحركات الطلابية المدينية.
(عارض أزياء يصور بذلة كان يلبسها جندي في جيش التحرير المغربي. الصورة بعدسة المؤلفة)
فضلاً عن ذلك، إذا كانت غالبية الزوار طلاباً شباناً مغاربة، كما يزعم قيّم المتحف، فإن هذا يوسّع إذاً “وظيفية” المتحف كموقع ذاكرة معاصر، فيكتسب بعداً وظيفياً آخر من خلال استهلاكه كمصدر تاريخي قابل للمقارنة مع مقرر مدرسي في غرفة صف. وكمثل أي مقرر مدرسي، له مصادره الرئيسية، يعتمد المتحف على أشياء الذكريات الخاصة كمصادر، والتي بدورها اعتادت أن تبني الذاكرة العامة لجيش التحرير المغربي. مثال على ذلك، هو كيف أن عدداً من الأشياء المعروضة، كالأسلحة والبذلات، توضع عليها ملاحظات تعترف بالواهبين، ومعظمهم عائلات لأعضاء سابقين في جيش التحرير. يشير نورا إلى “دمقرطة” “التجسيد المادي للذاكرة” من خلال بزوغ أفراد يسجلون وينشرون مذكرات وشهادات. (5)
على أي حال، في حالة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير ومتحف جيش التحرير المغربي، إن ما يمكن أن يكون بداية “دمقرطة للتجسيد المادي للذاكرة” تمتصه الدولة وتجترّه. يوضح هذا أيضاً مظهراً آخر لـ “وظيفية” المتحف من خلال تأميمه للذكريات الخاصة. وفي النهاية، إن الطرق التي تشوش بها المندوبية السامية لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير ومتحف جيش التحرير المغربي زمكانياً ذاكرة الصراع الوطني، مادياً ورمزياً ووظيفياًو فإن هذا يعرفهما كموقع ذاكرة.
[ترجمة: أسامة إسبر]
[اضغط/يهنا للنسخة الإنجليزية من المقال ]