قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني
Pier Paolo Pasolini (1922-1975)
بيير باولو بازوليني في سطور
هو أحد كبار الفنَّانين والمفكِّرين الإيطاليِّين المثيرين للجدل في القرن العشرين، ولدَ في 5 آذار/مارس 1922 في مدينة بولونيا الإيطاليَّة، وشكَّل ظاهرة ثقافيَّة استثنائيَّة لتميُّزه في عدَّة مجالاتٍ كالشِّعر، والفلسفة، والرواية، والكتابة المسرحيَّة، وكتابة السِّيناريو، والإخراج السِّينمائي، والصَّحافة؛ وقد أظهر فيها جميعاً إبداعاً منقطع النَّظير.
كان ملاحِظاً شديد التنبُّه للتَّغيُّرات التي طرأت على المجتمع الإيطاليِّ من فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية وحتَّى منتصف السِّتِّينات، مثيراً في أغلب الأحيان هجوماً جدليَّاً عنيفاً ومناقشاتٍ ثقافيَّةٍ حامية بسبب أحكامه الجذريَّة و نقده اللاذع فيما يتعلَّق بالعادات البرجوازيَّة وبالثَّقافة الوليدة لمجتمع الاستهلاك، كما بمعارضته لثورة 1968 الشَّبابيَّة ولزعمائها.
* * *
بدأ بازوليني كتابةَ الشِّعر في سنِّ السَّابعة بتشجيعٍ من أمِّه، وتأثَّر في مرحلة المراهقة بأعمال رامبو وكاردوتشي ودانُّونتسو وباسكولي. في عام 1942 نشر مجموعته الشِّعريَّة الأولى "قصائد إلى كاسارْسا" على نفقته الخاصَّة، وأصبح رئيساً لتحرير مجلة Il Setaccio (الغربال)، ولكن ما لبث أن فُصِل من منصبه لخلافه مع المدير الذي كان من المتحمِّسين للنِّظام الفاشي. سافر بازوليني إلى ألمانيا، حيث ساعدته هذه الرِّحلة على اكتشاف حالة الثقافة الإيطاليَّة آنذاك، وساقه ذلك إلى إعادة التَّفكير في رأيه حول السِّياسة الثَّقافيَّة الفاشيَّة، والتَّحوُّل تدريجيَّاً إلى الموقف الشُّيوعي، يقول: "إنَّ دافعي إلى أن أكون شيوعيَّاً هو صراع الأجراء الفريوليين ضدَّ كبار الملَّاكين الإقطاعيِّين".
من أهم إصداراته الشِّعريَّة "الفتوَّة الأبهى" 1954، "رماد غرامشي" 1957، "عندليب الكنيسة الكاثوليكيَّة" 1958، "روما 1950، يوميَّات" 1960، "سوناتة ربيعيَّة" 1960، "ديانة زمني" 1961، "أشعار على شكل وردة" 1964، "تجاوزٌ وتَركيب" 1971، "الفتوَّة الجديدة" 1975.
* * *
في حقيقة الأمر، لم يكن بازوليني إلا شاعراً. مسرحه، ورواياته، وأفلامه لم تكن إلا قصائد محوَّرة إلى صياغاتٍ أخرى، إلى لغاتٍ أخرى. لقد كان الشِّعر ملتحدَه النِّهائيُّ والأساسي، يقول: "كلُّ أفلامي أخرجتها كشاعر". بدأ بازوليني تقلُّبات مراحله الشِّعريَّة بلغةٍ مستلهمَةٍ من قراءاته المصفَّاة والمنتخبة بدقَّة، وتحديداً كبريات الملاحم الشِّعريَّة، فما بين "قصائد إلى كاسارْسا" و"الفتوَّة الأبهى" يحاول بازوليني صياغة لغة شعريَّة تكون في آنٍ واحدٍ متَّحدةً بالواقع ومنبجسةً من أصول القصِّ الشِّعريِّ القروسطيِّ والمسيحيِّ. أمَّا ابتداءً من "عندليب الكنيسة الكاثوليكيَّة" فإنَّه يتقصَّى في شعرِه الجوهر المعقَّد والمتناقض للحقيقة، مواصلاً الصُّعود نحو الضِّياء الغامض للتَّاريخ، لكن محافظاً في الوقت نفسِه على أفكاره المتمحورة حول النَّقاء، والكلَّانيَّة، والاتِّحاد المرعب مع العالَم. بعد ذلك، وعلى الأقل من مرحلة "ديانة زمني" فصاعداً، يعمد بازوليني إلى "تدنيس" قصيدته بنبرةٍ تبشيريَّة، مصحوبةٍ بنقديَّةٍ عنيفةٍ وغاضبة، وبنغمةٍ خطابيَّة؛ وفي أشعار هذه المرحلة نجده يحاول إعلاء صوت الغنائيَّة المتَّصلة بالأحوال الوجدانيَّة للآخر، بجوهر الطَّبيعة، وبوحدة المزيج بين الواقع اليوميِّ والحقيقة المطلقة للشِّعر؛ وتبدو هذه المرحلة، على تقدُّمها، تجريبيَّةً أكثر من سابقاتها، لأنَّها مدفوعةٌ بعنفٍ شعريٍّ يسخِّر فيه بازوليني كلَّ طاقته التَّهديميَّة واندفاقه الدَّموي، ولذلك ما من شكلٍ شعريٍّ واحدٍ أو ثابتٍ أو اعتياديٍّ ههنا. في مراحل أكثر تقدُّماً، ومع تفاقم إحساسه بالمرارة والقنوط، يعود بازوليني إلى واجب إنجاز ذلك التَّوازن الباهر والهش بين الواقع والشِّعر، مصرَّاً على الطَّبيعة الخطابيَّة والتَّحليليَّة والمنطقيَّة لكتاباته، ومعيداً بغضبٍ إلى نقطة الصفر طموحه المتمثِّل بتسامي الشِّعر، وهذا ما نجده في "أشعار على شكل وردة"، وكذلك في "تجاوز وتركيب" العمل الذي حمل فيه بازوليني الشِّعرَ إلى ما وراءَ الشِّعر، جاحداً ومناقضاً حلمه الخاص الذي ابتدأه في "الفتوَّة الأبهى".
* * *
كان موته مشابهاً لأعماله ومغايراً له. مشابهاً: لأنَّه كان قد صوَّر، في أعماله، أوجهَ البؤس والوحشيَّة، ومغايراً: لأنَّه لم يكن البتَّة واحداً من شخصيَّاته؛ إنَّه ولا شكَّ وجهٌ مركزيٌّ في ثقافتنا، شاعرٌ دمغَ حقبةً كاملة [...]، يقول ألبرتو مورافيا.
في الليلة التي بين الأوَّل والثَّاني من تشرين الثَّاني/نوفمبر من سنة 1975 قتِل بازوليني بطريقةٍ وحشيَّة، دهساً بسيَّارته الخاصَّة ولعدَّة مرَّات على شاطئ أوستيا قرب روما، ونُسِبتْ الجريمة إلى شابٍّ متشرِّدٍ آنذاك، وتقول رواياتٌ أخرى إنَّ قتله كان بسبب شيوعيَّته وخروجه على الكنيسة.
النُّصوص
(1) من مجموعة "الفتوَّة الأبهى" 1954
إهداء
إلى فسقيَّة الماء في بلدي.
لا ماء في الأرض أطرى من ماء بلدي.
إليكِ يا فسقيَّة الحبِّ البدائيِّ.
رقصةُ النَّرجِسيِّ
بنفسجٌ أنا ونَغْتٌ،
أنا الإعتامُ والصُّفرةُ في جسد.
أجسُّ بالعين المغبوطةِ
نغتَ صدريَ الكمِد
وبهاءَ ضفائري التي تشعُّ بفتورٍ
في شمسِ الضِّفَّة.
بنفسجٌ أنا ونغتٌ،
أنا الفحمُ والوردةُ في جسد.
أرصدُ البنفسجة التي تبرقُ
ثقيلةً وطريَّة في الضَّوء-
ضوءِ بشرتي المخمليَّة
المكنونةِ في ظلِّ توتة.
بنفسجٌ أنا ونغتٌ،
أنا اليبوسةُ والطَّراوةُ في جسد.
البنفسجُ يجدلُ ضوءَه
على خاصرتَي النَّغتِ الصَّلبتين،
ومعاً يتمرأيان في البخار الأزرق
لماء قلبي الضَّنين.
بنفسجٌ أنا ونغتٌ،
أنا البردُ والدِّفء في جسد.
مطرٌ على التُّخوم
ها أيُّها الفتى، هي ذي السَّماء
تمطرُ على دفء بيوتاتِ بلدِك،
وفوق وجهك الذي من وردةٍ وعسل
يولدُ الشَّهرُ ملبَّداً بالغيم.
الشَّمسُ المعتَّمةُ بالدُّخان،
تحت غصون التُّوت،
تلهبُكَ- وعند التُّخوم
أنت وحدَك مَن يغنِّي الموتى.
ها أيُّها الفتى، تتضاحكُ السَّماء
فوق شرفاتِ بلدِك،
وعلى وجهك الذي من دمٍ ومَوْجِدة
يموتُ رائقاً الشَّهرُ.
الفتوَّة الأبهى
مخمورِين قليلاً، في اللياحِ الأوَّل للفجر، يغنُّون،
مناديل حمرٌ مشدودةٌ إلى الحناجر؛
يغنُّون، وبأصواتٍ بُحٍّ يأمرون بليتراتٍ أربعةٍ من النَّبيذ
وبقهوةٍ للفتيات، اللائي يبكين الآنَ صامتات.
أقبلي، يا قطارات، واشحني هؤلاء الفتية الذين يغنُّون
بقمصانهم الإنكليزيَّة وفانلَّاتهم البيض.
أقبلي، يا قطارات، واحملي الفتوَّةَ بعيداً بعيداً
لتنقِّب عبر العالَم عمَّا هو مفقودٌ هنا.
خذي عبر العالَم، يا قطارات، أولاء الفتية المقصيِّين
عن الوطن، إلى حيث لن يضحكوا بعد اليوم أبداً.1
(2) من مجموعة "رماد غرامشي" 1957
رمادُ غرامشي2
I
ما هو بأيَّاريٍّ هذا الهواءُ المرمَّد
الذي يصيِّرُ هذه الحديقة الغريبة المعتِمة3
أكثر إعتاماً، ويُبهِرها
بالبرقِ المعمِّي... لكأنَّ السَّماءَ،
فوق العِلِّيَّاتِ المصفرَّة، زبَدٌ
من أشباه دوائر هائلة تبرقعُ الآنَ
التواءاتِ نهرِ تِفِرِهْ، والجبال الفيروزيَّةِ
جبالِ لاتْسيو... صمتٌ
قاتلٌ، وجافٍ جفاءَ أقدارِنا نفسِها، يسفِكُهُ
بين الأسوار العتيقة هذا الأيَّارُ الخريفيُّ.
فيه ترتسمُ ترميدةُ العالَم؛
ووسط خرائبه تكمنُ الخاتمة
خاتمةُ العقدِ الذي تجلَّى فيه الجهدُ العميقُ
والسَّاذج، جهدُ إصلاحِ الحياة؛
كذلك ثمَّة السُّكون، مُنتِنٌ وعاقرٌ...
شابَّاً كنتَ، في شهر أيَّارَ ذاك
أيَّامَ كان الخطأ معنىً آخرَ للحياة، في ذلك الأيَّار الإيطاليِّ
الذي كان، على الأقلِّ، يضفي على الحياة جذوةً؛
كنت يا غرامشي، وأنتَ الأقلُّ طيشاً وأوفر صحَّةً
مِن سائر آبائنا - لا أسمِّيك أباً، بل أخاً
متَّضعاً- قد بدأتَ ترسمُ بيدك النَّحيلة
المثالَ الأعلى الذي يريق نورَه
(لكنْ ليس لأجلنا: فأنتَ ميِّتٌ، ونحن كذلك
موتى، معكَ، في هذه الحديقة
المبلَّلة) على هذا السُّكون. منهيٌّ أنتَ،
أفلا ترى؟ أن تستريحَ إلَّا في هذا المقامِ
الغريب، منفيَّاً فوق ذلك. ضجرٌ
جليلٌ يحوِّطُك. وحدُه
الرَّجعُ الخاملُ لانطراقِ السَّنادين يبلُغُك
من وُرَشِ ضاحية تِسْتاتْشو، النَّاعسة
آناءَ الشَّفق: حيث بين السُّقُفِ البائسة، وكُوَمٍ
مِن صفائح فولاذٍ عارٍ، وحديدٍ متآكل،
يُتِمُّ صانعٌ سقيمٌ نهارَه، مدندناً،
فيما تختتمُ السَّماءُ، مِن حولِه، إمطارَها.
II
بين العالَمَين4، تقومُ هدنةٌ،
لا مكان لنا فيها. علينا أن نختارَ ونتكرَّسَ... أمَّا الموتى
فلم يبق لهم، بخلافِ صوتِ هذه الحديقة
النَّبيلة والمغِمَّة، صوتٌ آخرَ يلطِّفُ،
بخداعٍ متعنِّتٍ، [ظلَّ] الحياةِ الباقي في موتهم.
في أطواق المدافنِ الحجريَّة لا تفعلُ
رقوشُ العلمانيين المدنِّسة شيئاً
سوى أنَّها تبوحُ بما بقي من مصيرهم،
على تلك الشَّواهد الرَّماديَّة،
القصيرة والمهيبة. ها عظامُ الأثرياء،
أثرياءِ الأممِ العظمى، لا تزال ملتهبةً بهُياماتٍ
لا لاجمَ لها، نقيَّةٍ الآنَ
مِن كلِّ شنار؛ وهي ذي تخفقُ، كأنَّها لم تندثر يوماً،
تهكُّماتُ الأمراء، واللوطيِّين، الهاجعةِ أجسادهم
داخلَ المرامدِ، وقد صارت إلى الأبدِ
رماداً مذرَّى، منقوصَ الطُّهرِ كما من قبلُ.
ههنا، صمتُ الموتِ يوالي
الصَّمتَ اللطيفَ، صمتَ الرِّجال الباقين
رجالاً، وصمتَ المللِ الذي، في قلبِ المللِ الحدائقيِّ،
يتحوَّرُ خفيةً: المدينة التي،
بحيادٍ، تعزلُه5 وسط البيوت المتهالكة
والكنائس العديمةِ الرَّحمة، تجرِّدُه
بذلك من ألقِه. أرضُه
الطَّافحة بالقرَّاصِ والبقول، تُطلِقُ
سروَها النَّحيل، وذلك البللَ الأسودَ
الذي يبقِّعُ الجدرانَ حولَ
هَوشاتِ بقسٍ شاحبٍ، إذ يخمدُها
المساءُ الملطِّفُ في شميمِ طحلبٍ
عارٍ... [كذا تُطلِقُ] سحلبيَّاتها الهشَّة
عديمة الرَّائحة، حيث بنفسجيَّاً
يهوي الغروبُ، مع ارتعاشةِ نعناعٍ،
أو تِبنٍ عفِنٍ؛ فيما الليل بارتجافِ أعمى
يلجُ، هادئاً، مثلَ توطئةٍ موسيقيَّة،
قلبَ الحزنِ النَّهاريِّ. ضارٍ
هو المُناخ؛ عذبٌ هو، بين هذي الجدران،
تاريخُ الأرضِ التي ترشحُ منها
أرضٌ أخرى؛ عذبٌ البللُ الذي
يستدعي آخرَ؛ بينا تَصدى
- مأنوسةً وآتيةً من انفساحاتٍ
وخطوطِ أفقٍ حيثما الغابات الإنكليزيَّة تتوِّجُ
بحيراتٍ تائهةٍ في المدى، وسطَ مروجٍ
خضراء كما بليارٍ فُسْفوريٍّ، أو كما
الزُّمرُّد: "وأنتِ أيَّتها الينابيع..."-
الابتهالاتُ الورعة...
IV
فضيحةُ أن أناقض نفسي، أن أكون
معكَ وضدَّك؛ في الضَّوءِ
معكَ بالقلب، وضدَّكَ في ظلمةِ الأحشاء؛
خائناً نهج أبي6
- في الفكرِ، كما في شُبهةِ فعلٍ-
أعرفُ أنِّي مشدودٌ إليه بحميَّةِ الغرائز؛
بالشَّغف الجماليِّ ذاتِه؛
أنا المفتونُ بحياةٍ بروليتاريَّةٍ
سبقتْ وجودَك، لا ديانة لي
إلَّا في بهجتها، لا في كفاحها الممتدِّ
ألف عامٍ: في فطرتها، لا
في وعيها؛ وحدها القوَّة الفطريَّة
للإنسان، تلك المفقودة من المشهد،
ما يمنحها7 نشوةَ الحنين،
والبرقَ الشِّعريَّ: وسوى ذلك
لا أعرفُ ما أقول، إلَّا ما قد يكون إنصافاً،
لا إخلاصاً، وحبَّاً
نظريَّاً، لا تعاطفاً موجعاً...
فقيرٌ أنا، بين الفقراء، مثلهم
أتعلَّقُ بآمالٍ مُهينة،
ومثلهم أصارعُ لكي أحيا
يوماً بيوم. لكنْ، في وضعي المكئب،
وضع المحرومِ من الميراث،
أنا هو المالكُ: وملكيَّتي هي الأعظم
بين التَّرِكاتِ البرجوازيَّة8، بل هي
الحقيقة المطلقة. ويقيناً، مثلما أمتلك أنا التَّاريخَ،
فالتَّاريخ بدورِه يمتلكني؛ إنَّني مستنيرٌ به:
ولكن، ما نفعُه الضِّياء؟
(3) من مجموعة "عندليب الكنيسة الكاثوليكيَّة" 1958
ترنيمةٌ ليليَّة
ساكنٌ أنا سكونَ الموتى:
أحدِّق في السَّرير المنكبِّ
على أعضائي، وفي المرآة
التي تتأمَّلني باستغراق.
لا أحسنُ صَهرَ جليدِ
الكربِ، مثلما مِن قبلُ،
بالبكاءِ في قلبِ الأرضِ
ولا في قلبِ السَّماء.
لا أحسنُ ادِّعاءَ الهدوء
أو الحياد أو سواهما
من الجساراتِ الشَّبابيَّة،
لا أكاليل الآسِ ولا النَّخيل.
فيا أيُّها الإله الثَّابتُ الذي أكره
اجعل حياةً أخرى بعدُ
تنبثق من حياتي
وسيَّان عندي شكلُ الانبثاق.
سطوعٌ
آه أيَّتها الغبطةُ، الغبطةُ، الغبطة...
ألا زال ثمَّة غبطةٌ بعدُ
في هذا الليل اللامعقولِ
المعَدِّ لنا؟
(4) من مجموعة "ديانة زمني" 1961
الثَّراء
يتقدَّمُ بضعَ خطواتٍ، رافعاً ذقنه،
لكن كما لو أنَّ يداً
تضغط رأسَه إلى أسفل. وفي تلك الحركة
البسيطة والمجهَدَة، يقف جامداً، مسلَّماً به
بين هذه الجدران، في هذا الضِّياءِ
الذي يرهبه، وكأنَّه
هو ما يشوِّشُ، بخسَّةٍ، صفاءَه...
يطوفُ، تحتَ الدِّعامةِ المقشورِ ملاطُها،
بجمجمته الدَّقيقة، فكَّاه
الحليقان فكَّا صانعٍ. وهو ذا، على الأقواس العِقديَّةِ
الملتهبة، فوق الدَّغشِ الذي منه طُرِد،
يتحرَّك، ويقذفُ بالنَّظرات المرتابة التي لحيوان:
ثمَّ يسدِّدُ لهنيهةٍ نحونا، هو المُهانُ لجرأته،
عينيه المتَّقدتين: ثمَّ مجدَّداً إلى الأعلى... الشَّمس
على امتداد الأقواسِ تشتعلُ من جديدٍ،
بنقاءٍ غير مسبوق، من الأفقِ اللامرئيِّ...
نفخاتٌ من لهبٍ تبثُّها الزُّجاجيَّات
لتدبغَ الجدارَ عند الغروب، فيما تتقصَّاها في فزعٍ
تلكما العينان اللتان يتسيَّدهما الحشدُ،
ولم يكن يثني الرُّكبتين، داخلَ الكنيسة، ولم يكن
مطرقَ الرَّأس: ومع ذلك
ورعاً كان انبهارُه، تحت دفقاتِ الضَّوء النَّهاريِّ،
بالصُّوَرِ التي ينفثها ضوءٌ آخرُ في الفضاء.
أذرُعُ المهتاجين تلك، تلك الأظهرُ
المعتَّمة، ذلك الشَّواشُ مِن جنودٍ خضرٍ
وجيادٍ بنفسجيَّة، وذلك الضِّياء
المصفَّى الذي يحجِّبُ كلَّ شيءٍ
بصِبغاتٍ من ذرورِ الغبار: ألا إنَّها العصفُ،
ألا إنَّها المقتلة. العينُ المُهانةُ تَمِيزُ
الرَّسَنَ من الوشاحِ، والتَّوشياتِ من العُفر؛
الذِّراعَ الفاقعَ الزُّرقة الذي يرتفعُ
ليَذبحَ، من الذِّراعِ الكستنائيِّ الذي يتَّقيه
منطوياً؛ الحصانَ الذي يرتدُّ في حِرانٍ
من الحصانِ المطوَّحِ الذي
يرفسُ الجمعَ المنزوف.
لكنَّ العينَ تنحدرُ إذَّاكَ من هناك،
تائهةً، إلى جهةٍ أخرى... تائهةً، تَثبُتُ
على الجدارِ حيث تكتشفُ
جسدين معلَّقين، كمثل كونَين،
الواحد قُبالَةَ الآخَر، في شبه ظلٍّ مترَفٍ...
فتىً غِرٌّ أسمرُ، خفيفٌ
في أسماله الغليظة، وهي،
هي، الأمُّ البسيطة، المرأة الرَّصينة اللامُشعِرة،
مريم. في الحال تعرَّفتْها تلكما
العينان الشَّقيَّتان: عينان عذبتان،
لا تَبيْنان في استكانتهما. وليس المساءُ الذي
يتأجَّجُ في تلال أرِتْسو النَّاعسة
هو ما يحجبهما... بل هو ضياءٌ-
آه، حتماً ليس بأقلِّ عذوبةً
من هذا الضِّياء، بل أسمى- ينسكبُ
من شمسٍ مسوَّرَةٍ حيث كان الإنسان
إلهيَّاً، فوق هذه السَّاعة الواهية، ساعةِ التَّطويباتِ.
ضياءٌ ينسكبُ، أخفضَ فأخفض،
فوق ساعةِ التَّهجاعِ الأوَّل، أوَّلَ الليلِ
الذي، فِجَّاً وبلا نجومٍ، يطوِّقُ
قسطنطينَ، خارجاً من حدودِ الأرضِ،
تلك التي فتورُها صمتٌ سحريٌّ.
الرِّيحُ هدأتْ؛ بضعُ نفخاتٍ شائخةٍ منها
لا تزال تطوف، كما لو بلا حياةٍ،
بين أجمات جوزٍ خاملة.
لعلَّه أزيز الحشرات المغتبط هذا الذي،
عبر عصفاتٍ عنيفة، وبحماسةٍ يائسة،
ينفخُ في الرِّواقِ المفتوحِ،
وسط بضعة أصواتٍ مؤرَّقة، ربَّما، وترنيماتِ
قياثر جماعيَّة متشكِّكة...
أمَّا هنا، على السَّتائر الحليبيَّة المرفوعة،
على الطُّنُفِ المثلَّثة، على الحِواءِ المعرَّى،
فليس ثمَّة إلَّا لون النُّعاسِ المعتِم:
في مخدعِه ينام،
كمثلِ سَنام هضبةٍ أبيض،
الامبراطورُ الذي مِن هيئته الوديعة،
هيئة الحالِمِ، يولِّي السُّكونُ الإلهيُّ رعباً.
[...]
إلى الأدباء المعاصرين
أراكم: موجودون لحماً ودماً أنتم، والصَّداقة بيننا باقية،
سعداء أن نتلاقى ونحيِّي بعضنا، في بعض المقاهي،
أو في بيوت السَّيِّدات الرُّومانيَّات المتهكِّمات...
لكنْ ما تحيَّاتنا، وابتساماتنا، وهياماتنا المشتركة، إلَّا
حركات أرضٍ ليست لأحد: أرضٍ... بَوارٍ
هي عندكم مجرَّدُ هامشٍ، أمَّا عندي، فحدٌّ بين تاريخٍ وآخر.
لم يعد حقَّاً في مقدورنا أن نتَّفق: ذلك يرعبني،
ولكن حتَّى في أعماقنا، العالَم نفسُه عدوُّ العالَم.
(5) من مجموعة "أشعار على شكلِ وردة" 1964
ابتهالٌ إلى أمِّي
صعبٌ الإفصاحُ بكلماتِ الابنِ
عمَّا لا أشبهه في القلبِ إلَّا قليلاً.
أنتِ الوحيدة في العالَم التي تعلم
ما كان على الدَّوامِ في قلبي، قبل أيِّ حبٍّ آخَر.
لهذا عليَّ أن أهمسَ لكِ بالسِّرِّ المهولِ، أنَّه:
داخلَ رأفتك يولدُ ألمي.
أنتِ لا كُفُؤ لكِ ولا عِوَض. ذلك
ما حكمَ بالعزلة على الحياة التي وهبْتِني.
ولا أرغبُ في الوحدة. بي جوعٌ لا حدَّ له
إلى الحبِّ، حبِّ أجسادٍ بلا روح.
ذلك أنَّ الرُّوح فيكِ، الرُّوحُ أنتِ، ولكنَّكِ
أمِّي وحبُّكِ عبوديَّتي:
أمضيتُ الطُّفولةَ عبداً لهذا المعنى الرَّفيع،
المتعذَّرِ استدراكه، ذي الميثاقِ الفائق.
كان السَّبيلَ الوحيدَ للإحساسِ بالحياة،
كان اللونَ الوحيدَ، الشَّكلَ الوحيدَ: الآن انتهى كلُّ شيء.
فلنصمدْ: ما الأمر إلَّا
اضطرابُ حياةٍ تولدُ ثانيةً خارجَ المنطق.
أبتهلُ إليكِ، آه، أبتهلُ إليكِ: لا ترغبي في الموت.
أنا هنا، وحدي، معكِ، في نيسانٍ مقبلٍ...
تذييل
أفولُ طلبِ الشِّعر
مثلَ عبدٍ معتلِّ، أو مثلَ بهيمة،
طفتُ شريدَ عالمٍ خصَّصَه ليَ القدر،
بالبطءِ الذي لمسوخِ الطِّينِ-
أو الغبارِ- أو الغاب-
زاحفاً على البطنِ- أو على زعانف
لا تجدي في البرِّ نفعاً-
أو فوق أجنحةٍ من غشاءاتٍ متعضِّية...
من حولي كان الطَّمُّ، أو الحصى،
أو ربَّما محطَّاتٌ مهجورةٌ في أقاصي مدنِ الأموات-
مدنِ الدُّروبِ والممرَّاتِ السُّفليَّة للَّيلِ العُلويِّ، حيث
لا تُسمَعُ إلَّا قطاراتٌ بعيدةٌ على نحوٍ مهول،
وقرقرةُ قنواتٍ، في البردِ القاطعِ،
في الظُّلمةِ التي لا غدَ لها.
هكذا، فيما كنت أنتصبُ كدودةٍ،
رخوةٍ، ومنفِّرةٍ في سذاجتها،
شيءٌ ما عَبَرَ روحي- كأنَّما
الشَّمس في نهارٍ رائقٍ قد ادلهمَّت؛
فوق ألم البهيمةِ اللهثى
نُصِّبَ ألمٌ آخر، أشدُّ يُبْسَاً وإعتاماً،
وعالمُ الأحلامِ تصدَّع.
"ما عاد أحدٌ يلتمسُ منكَ شِعراً!"
و: "زمنكَ كشاعرٍ أفلَ..."
"سنيُّ الخمسينات بلغتْ في العالَم خِتْمَتَها!"
"مع رمادِ غرامشي اصفرَّتْ وُريقاتك
وكلُّ ما كان حياةً بات يؤلمك
مثلَ جرحٍ ينفتحُ مجدَّداً ويلدُ الموت!"
اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي