تتطرّق هذه المقالة إلى سكن اللاجئين السورييّن المقيمين في ألمانيا. بناءً على تجربتي في المعيشة في مخيم للّاجئين في مدينة كولن والمواد المتوفرة المتعلّقة بالموضوع تتطرق هذه المقالة بالدرجة الأولى إلى الأنماط المختلفة للمساكن المؤقّتة للّاجئين السوريين في ألمانيا و بالدرجة الثانية إلى العمليّة التي يمرّ اللاجئون السوريون من خلالها أثناء بحثهم عن مساكن دائمة. تناقش المقالة بالدرجة الثالثة و الأهم التغيّر الجاري في البنى العمرانيّة و الاجتماعيّة في ضوء العمليّة المستجدّة لإعادة توطين اللاجئين. على الرغم من وجود مستوىً معيّن من الفصل العمراني المتجلّي في البنية العمرانيّة لمدينة كولن على شكل تجمّعات للمهاجرين كالعديد من المدن الألمانيّة الأخرى (Friedrichs 1998, p.1) إلّا أنني أعتقد بالمقابل بأنّ إعادة توطين اللاجئين السوريين تأخذ شكلاً متّسقاً و متخلخلاً في آنٍ معاً. ترافق هذه المقالة مجموعة من الخرائط الإستقصائيّة التي تتناول الجانب الفراغي لتوزيع هذه المساكن.
تتميّز حالة اللاجئين السوريين بشكل خاص عن غيرها ضمن أزمة اللاجئين هذه بأن ليس لها حلّ منظور. فحال البلد في تدهور مستمرّ و من المرجّح بقاؤهم في البلاد التي تستضيفهم و منها ألمانيا بشكل رئيسي. كثيراً ما يبدي اللاجئون السوريون رغبتهم في إنهاء فترة السكن المؤقت و الإنتقال إلى سكن دائم. يمكن إرجاع ذلك إلى ظروف المساكن المؤقّتة بحدّ ذاتها إلّا أنّه يعود أساساً إلى حاجتهم للاستقرار الدائم الذي يفتقدون إليه منذ بداية الحرب في سوريا.
المعيشة في السكن المؤقّت
يتم توزيع اللاجئين إلى مساكن مؤقّتة تختلف عن بعضها البعض بحسب ظروفها كالمدينة التي يتواجدون فيها و موقعهم فيها إضافة إلى الوظيفة الأصليّة للبناء قبل تحويله إلى سكن مؤقت للاجئين. قد يكون بعضها عبارة عن مساكن اجتماعيّة أو فنادق أو صالات بالأساس و حاليّاً كل ما يمكن أن يؤمّن فراغاً لإيواء الدفق الهائل من الواصلين.
من خلال تجربتي الشخصيّة في المساكن المؤقّتة في كولن بُلّ و سؤال بعض الأصدقاء من اللاجئين توصّلت إلى أنّ الظروف تختلف في هذي المساكن المؤقّتة بشكل واسع فبعضها كافٍ تماماً حيث يعيش شخصان أو شخص واحد أحياناً في استوديو (فراغ معيشي مستقل بخدماته) في حين يكون بعضها الآخر أقلّ جودة فتتدرج الظروف فيها لدرجة أن تتم مشاركة الخدمات الصحيّة ما بين عشرة أشخاص. تحتوي بعض هذه المساكن على السوريين حصراً في حين يمتزج السوريون مع جنسيّات أخرى من المهاجرين العرب أو شرق أوروبا و البلقان و افريقيا في حالات أخرى حيث يتشارك المهاجرون السوريون و العرب الفراغ المعيشي ذاته و قد يتشاركون الخدمات كالحمامات و المطابخ. يتواجد السوريون في حالات أخرى مع مهاجرين من شرق أوروبا في البناء ذاته و لكنهم قد يتشاركون في حالات أخرى الفراغ التعايشي الشبه عام ما بين بنائين كمستوى ثالث من المزج، و يكون لكلّ من البنائين في هذه الحالة فراغه التعايشي الخاص به كما في كولن بُلّ.
تؤمّن إقامة اللاجئين في المخيمات لهم ميزات عديدة حيث تصلهم المعونات بشكل دائم أو شبه دائم كما تمنحهم فرصاً أكبر للقاء الأشخاص أو المنظمات التي تعنى بشؤون اللاجئين إضافة إلى إبقائهم على تواصل بتلك المعرفة المتداولة فيما بينهم في المخيم حول مواضيع تخصّ حياتهم الجديدة التي يعيشون. مع ذلك و بالرغم من أنّ لهذه المساكن المؤقّتة مستويات مختلفة من الراحة التي تقدّمها لا يزال جميع اللاجئين السوريين يسعون للحصول على السكن الدائم بالسرعة الممكنة بغرض الاستقرار. تمتاز حياة المواطن السوري الطبيعية فيما قبل الحرب باستقرارها و سكونها لذلك فإنّ تجربة السنين الأربع الفائتة تؤجّج حاجة ماسّة للاستقرار من جديد.
البحث عن الإقامة الدائمة المستقلّة:
تواجه اللاجئين أثناء بحثهم عن إقامة دائمة مستقلّة العديد من العقبات. بحسب مشاهدتي في المخيم فإنّ معظم الناس لا يبحثون بأنفسهم عن السكن و يعود ذلك إلى عدم قدرتهم على تغطية متطلبات اللغة و قلّة خبرتهم بآلية سير الأمور في ألمانيا. بموازاة ذلك فإنّ أصحاب البيوت يتردّدون عندما يتعلق الأمر بتعاملهم مع مكتب العمل 1. على أيّة حال هناك مغالطة كبيرة في ذلك التصرّف فالتعامل مع مكتب العمل فيما يتعلّق بدفع الإيجار هو الأكثر أماناً كونه يمثّل مؤسّسة حكوميّة. لربّما يمكننا إرجاع هذا التصرّف لميل بعض أصحاب البيوت إلى رفض التعامل مع المهاجرين. "قد يبدو توزّع المهاجرين في أحياء معيّنة عائداً إلى خيارات المهاجرين للمعيشة بقرب أولئك القادمين من بلدانهم ذاتها إلّا أن رغبة مهاجر ما للمعيشة بالقرب من عائلته تبدو عاملاً أقلّ تأثيراً من القيود المفروضة على المهاجرين. فلا يعود السبب في وجود الفصل الإثني لمجموعة ما إلى مستواها الاجتماعي-الاقتصادي المنخفض في سوق العقارات فحسب بل يتعدّى ذلك إلى التمييز العنصري من قبل مزوّدي المساكن(GdW 1998, p. 23)" (Münch 2009, p.5)
بما أن معظم اللاجئين غير قادرين على إيجاد منزل بذات الطريقة التي يتّبعها الألمان فإنهم يعتمدون على مؤسّسات متعدّدة كالكاريتاز و الصليب الأحمر و مكتب العمل و قسم السكن في دائرة الأجانب ذاتها. يقوم معظم أولئك العازمين على مغادرة المخيّم بالتسجيل في إحدى هذه المؤسّسات حيث يتمّ وضعهم على قائمة انتظار. يمكن للّاجئين إبداء خياراتهم بالنسبة للمواقع التي يفضّلونها و التي عادة ما تكون مناطقاً مأهولة بمجتمع من المهاجرين و مخدّمة بالأساسيّات مما يساعدهم على سدّ احتياجاتهم الثقافيّة الأساسيّة كالطعام الحلال و حاجتهم للتواصل إلخ. (انظر الخريطة 1) إلّا أنهم عادةً لا يقومون بإبداء خياراتهم المفضّلة هذه لخوفهم من أنّ ذلك قد يقلّل من فرصة الحصول على سكن لائق أو قد يؤجّل موعد الحصول على السكن لمدّة أطول. عندما تجد المؤسّسة السكن لّلاجئين تعرضها عليهم و لأصحاب العلاقة الحقّ في القبول أو الرفض ثم انتظار فرصة أخرى. عادةً ما يركّز صاحب العلاقة اهتمامه على ظروف السكن بحدّ ذاته أكثر من موقعه طالما أنّه لازال ضمن نطاق المدينة.
(مناطق ذات نسب مرتفعة من السكان العرب و الأتراك في مدينة كولن)
بما أنّ اللاجئين غير قادرين على تحمّل نفقات المسكن فإنّهم يعتمدون على المعونة الماليّة المقدّمة من مكتب العمل. عند توفّر بدائل السكن يقوم مكتب العمل بالتحقق من أنّ الإيجار لا يتجاوز الحدّ الأعلى المنصوص عليه و الذي يتراوح بدوره بحسب عدد و أعمار أفراد الأسرة. يتحكم الحدّ الأعلى بإمكانيّة اختيار موقع في مركز المدينة أو في أحيائها الأعلى كلفة إضافةً إلى ذلك فإن إقرار صرف السلفة و العمولة يحتاج إلى بعض الوقت في مكتب العمل.
يميل اللاجئون إلى عدم تسجيل خيارات مفضّلة بالنسبة لمناطق السكن بل يقومون عادةً بقبول أول المساكن المناسبة التي تعرض عليهم بسبب توقهم إلى إقامة مستقرّة بالسرعة الممكنة. يعدّ هذا العامل أساسيّاً و يشكّل بالإضافة إلى خصوصيّة المؤسّسات الداعمة و صعوبات أخرى تخضع لها أحوال اللاجئين مجموعة من الآليّات المفروضة التي تحدّ من إمكانيّات اختيارهم و تشكّل هذه العوامل معاً نظاماً معقّداً يؤدّي إلى توزيع اللاجئين السوريين بشكل متناثر في مناطق المدينة المختلفة.
الظروف والنتائج العمرانيّة لعمليّة إعادة التوطين الجارية
تقتضي إعادة توطين اللاجئين في المدن الألمانيّة ضمناً توزيعاً دائماً ما بين المناطق المدينيّة المختلفة و بالتالي يساهم شكل هذا التوزيع في شكل المدينة ذاتها خصوصاً بالنظر إلى العدد الهائل المتوقّع من اللاجئين. في هذه الفترة لا يتم إعادة تشكيل الشخصيّة العمرانية للمدينة فحسب بل شبكاتها الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الثقافيّة على حدٍّ سواء. يفيد مصدر من التسعينات بوجود أحياء للمهاجرين مفصولة أساساً بالمعنى المديني (Friedrichs 1998, p.1) مما يدفعنا للتساؤل عن الشكل الحضري الذي تتخذه المدينة خلال هذه الفترة.
الفصل المديني – التخلخل المديني
"تقتضي إعادة توطين اللاجئين في المدن الألمانيّة ضمناً توزيعاً دائماً ما بين المناطق المدينيّة المختلفة و بالتالي قلّما يتم الحديث في الدراسات المعنيّة عن الآثار الجانبيّة الإيجابيّة لدرجات معيّنة من الأحياء المخصّصة. يدفعنا هذا إلى التساؤل فيما إن كان علينا الإهتمام (بالتجلّيات الجديدة) للفصل العمراني." (Smets/Salman 2008, p. 6)
أعتقد بأنّ التوزّع البؤري لتجمّعات المهاجرين قد يساهم في تشكيل شخصيّة ثقافيّة في مناطق محدّدة لأنّها تفرز طابعاً معيّناً من المحال التجاريّة و المطاعم و الملتقيات الثقافيّة إلخ. يمكن رصد هذا في حالة مدينة كولن في كل من مناطق الكالك و مولهايم و نيبيس حيث تتوضّع المجتمعات العربيّة و التركيّة (انظر الخريطة 1) إلّا أنّ هذا الإعتقاد يغضّ الطرف في ذات الوقت عن أنّ هذه الشخصيّة الثقافيّة تنطبق على المناطق المدينيّة الأقلّ اندماجاً:
"يرتبط الفصل المديني بجانبه الفراغي بالشروخ الاجتماعيّة فعلى سبيل المثال فإنّ سوق العمل و التعليم يزيد من الهوّة في قيمة المدخول (Ratcliffe 2002, pp. 23, 30-33; Robinson, 2002, p. 96) إذا تمت إضافة البعد العرقيّ (كما هو في حالة السوريّين) و يمكن أن يؤدّي ذلك إلى زيادة الفصل العرقي في المدارس" (Smets/Salman 2008, p. 5).
قد يعزّر هذا مستقبلاً شبكات اجتماعيّة و اقتصاديّة و ثقافيّة غير متجانسة تعمل خارج إطار المدينة: "هناك بالفعل أدلّة متزايدة على الآثار السلبيّة للمعيشة في أحياء مفصولة على الحصيلة الاجتماعيّة الاقتصاديّة لأفراد الأقلّيات" (Sager 2011, p. 3) و بالتالي إذا تم توطين اللاجئين السوريين في المناطق المفصولة أساساً سيعانون على المدى الطويل من عدم الاندماج و سيعمّقون من آثار الفصل على المدينة ذاتها. "لا تطابق المدن التي تعاني من درجات مرتفعة من الفصل المديني وضعف الإندماجيّة المقاييس الجديدة للمدن بل على العكس من ذلك ستؤدّي إلى تفاقم الفقر المديني (Massey and Denton, 1993)" (Musterd 2006, p. 5).
بالمقابل إذا كان هذا المجتمع الجديد من اللاجئين متخلخلاً في أحياء مختلفة حول المدينة فسيكون بإمكانه الإعتماد علىالمجتمعات ذات الثقافة الشبيهة الموجودة مسبقاً كالعربيّة و التركيّة (انظر الخريطة 1) لسدّ بعض الحاجات. في ذات الوقت فسيكون من الملائم لو تمّ توزّع مجتمع السوريين في المناطق المختلفة حول المدينة و بالتالي حصوله على إمكانيّة أكبر للاندماج اجتماعيّاً و ثقافيّاً و اقتصاديّاً: "تعزز الأحياء الأكثر خليطاً الفرص الاجتماعيّة على المستوى الفردي فتقوم بالحاصل بتمكين الاقتصاد المديني" (Musterd 2006, p. 1)
[التوزع المتناثر للّاجئين السوريين في مساكنهم الدائمة في مدينة كولن]
تظهر الخريطة 2 توضّعات المساكن الدائمة لعيّنة منتقاة عشوائيّاً من اللاجئين السوريين في مدينة كولن و تبيّن تشتّتاً واضحاً للتوضّعات (انظر الخريطة 2). بالكاد تتراكب هذه البقع على المناطق المفصولة حاليّاً (انظر الخريطة 3) مما يعكس توزّعاً منتظماً لمواقع سكن اللاجئين الناشئة في المدينة. يمكن ملاحظة عدم وجود مواقع لسكن اللاجئين في منطقة المركز في حين أنّ هناك تركّزاً طفيفاً في الكالك بثلاثة مواقع. يمكن إرجاع ذلك إلى الكلفة المرتفعة والشحّ في المرافق السكنيّة في المركز وإلى رغبة السوريين في الاستقرار في الكالك أو مناطق أخرى ذات غالبيّة مرتفعة من المهاجرين لما تؤمّنه من ميّزات ثقافيّة. على الغالب فإن أولئك المقيمين في مناطق المهاجرين سيحظون بفرص أقلّ لزيارة المحال التجاريّة والمطاعم الألمانيّة وغيرها من المرافق بالمقارنة مع أولئك الساكنين في مناطق أخرى من المدينة حيث سيقوم حتى الجيل الأوّل من المهاجرين الناشئ حاليّاً على سبيل المثال بشراء حاجيّات من الأسواق وزيارة المرافق الألمانيّة فيكون بالتالي أكثر تواصلاً من الناحية اللّغويّة والثقافيّة مما لو كان في مناطق المهاجرين. على التوازي يحظى الأطفال بفرص أعلى للإندماج عند ذهابهم إلى المدارس حيث الأطفال الألمان كمثال بسيط على التبادل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
(الخلخلة الجارية لتجمّعات المهاجرين الناجمة عن إعادة التوطين المتناثرة للاجئين السوريين في مدينة كولن)
المخاطر والاستنتاجات
قد يؤدّي هذا التيّار من اللاجئين و الحاجة المستعجلة للمساكن التي يخلقها مستقبلاً إلى إبقاء اللاجئين في ذات المخيّمات حيث وصلوا بسبب عدم مقدرة المصادر العمرانيّة المتاحة لتغطية الحاجات الناشئة.
تحدّ المنظومة التي تحكم إعادة توطين اللاجئين السوريّين من قدرتهم على الاختيار ممّا يؤدّي إلى توزّع مكاني مبعثر لهم حول كولن. يبيّن التوضّع المكاني للمساكن الدائمة للاجئين السوريين الظاهر في الخريطة 3 حالة من الخلخلة (التبعثر) وليس التركّز العمراني إلّا أنه يمكن رصد تركّز طفيف مع ذلك في مناطق المهاجرين.
بالرّغم من وجود مستوى معين من الفصل المديني في كولن و هو في حالة تراجع (Friedrichs 1998, p. 1) فإنّ هذه المجموعة الناشئة من اللاجئين السوريين لا تعزّز الفصل المديني الحالي و إنّما تسرّع على العكس من ذلك عمليّة الخلخلة لتجمّعات المهاجرين حول المدينة مما يساهم في تحسين اندماج الأقلّيّات مع المجتمع المضيف في مناطق المدينة المختلفة و لهذا تأثير إيجابي مشترك على كلّ من المجتمع الأصلي و الأقليّات الناشئة فيه.