برزت الديمقراطية أثناء ربيع العرب كطوق نجاة، بمقدوره أن ينتشلهم من مستنقع الفساد والاستبداد، الذي انحدرت إليه دولة ما بعد الاستعمار. ودبت الجماهير بأقدامها الميادين، وهي تصدع بالعيش والحرية والكرامة، منبهة العالم لموجة تبشر بالديمقراطية، بعد صمت طويل، استغرق قرنين كاملين، ظلت فيه هذه الجموع ترنو لموجات الديمقراطية الكبرى، تضرب شطآن غيرهم دون أن ينالهم منها شيء. قبل أربعة عقود، غالبتهم الحسرة على حالهم المقموعة، فيما يستبشر العالم بتجاوز عدد الديمقراطيات، لأول مرة في تاريخه، عدد النظم التي لم تعرف الديمقراطية. وحتى قبل عقدين ونيف، حين تضاعف عدد الديمقراطيات ليتخطى التسعين دولة. ولما حل القرن الحادي والعشرون؛ كانوا يراوحون مكانهم، لا تنعم من بين بلدانهم المنكوبة بالاستبداد دولة واحدة بمقعد مستقر ضمن لائحة الحرية.
أتى الربيع، بروحه الخلاصية، ليعدل كثيراً من ملامح هذه الصورة القاتمة، ويرسم الآمال العريضة لموجة رابعة من الديمقراطية، تطرح حزمة من الوعود؛ بعضها أخذ يبشر بتحسن أحوال المعيشة، والحد من التفاوت، وأخرى نادت بنموذج للعدل الاجتماعي أفضل، وثالثة رسمت تفاصيل لمنظومة تكفل الحريات المدنية، والحقوق السياسية.
وخلال طفرة الآمال هذه، امتلأ قاموس التعبير في شوارعنا بعبارات الحرية والديمقراطية والعيش والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ لما بدت الفرصة سانحة لإنجاز واقع لها على الأرض، انطلاقا من لحظة الثورة.
وما لبثت الريح أن أتت بما لا تشتهي ميادين الثورة، وما لا يستعد له الثائرون. إذ استحال النجاح في إقصاء المستبدين، لمراوغات تحركها قوى الثورة المضادة، المتجذرة على وجه الخصوص في قطاعات البيروقراطية الأمنية، وعززت المسعى لإحلال المستبدين السابقين، ممن ضمنوا مصالح وامتيازات الطبقة المسيطرة بمستبدين جدد. وأفل الفجر الديمقراطي، وظننا، أن تكاثر الآلام من حول المواطن العربي، وتسيد تشاؤمية نخبوية مبعثها انكسار التجربة، بأن حركة الجماهير قد حولت بوصلتها، وسارت لوجهة معاكسة، وأن شعوبنا قد انتكست لقناعة مفادها أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
ورغم هذا التعثر، ظلت إشارات تشكك في هذا النزوع التشاؤمي وجدواه تجدد الإيمان بأن بذرة التغيير التي انزرعت في 2011 لم تزل قادرة على الإنبات. ولعل آخر هذه الإشارات التي تبث الأمل هو ما يطرحه أمام أعيننا المؤشر العربي من أرقام تخص مدركات العرب إزاء الديمقراطية. تأتي نتائج نتائج المؤشر العربي لعام 2015، لتقضي على توهمين اثنين بخصوص مستقبل الديمقراطية في العالم العربي، ظلا مرتكزا لموجة التشاؤم النخبوية الراهنة؛ الأول ما يخص حجم القاعدة الاجتماعية للديمقراطية، أو بالتعبير الاقتصادي "ضآلة الطلب على الديمقراطية"، والثاني، يتناول فهم هذه الديمقراطية، ووصف طبيعة نموذجها المأمول، والذي ساد بخصوصه القول بأن "الناس لا تعرف ماهية الديمقراطية".
تؤكد نتائج المؤشر العربيتناقض مدركات الجماهير وأسانيد هذين التوهمين. فعلى الرغم من انتكاسات الربيع، وموجة عسكرة الثورات التي بلغت ذروتها هذا العام، تثبت الأرقام أن المجتمع العربي في غالبه لم يزل يطلب الديمقراطية، ولم ييأس منها، ولم ينظر لها كوعد زائف أو فجر كاذب، بل إنه يعقد عليها الآمال الكبار في التغيير. ويزيدنا المؤشر العربي فوق هذا بحقيقة مدهشة، وهي أن الجماهير العربية لا تطلب فقط "ديمقراطية"، بل إنها تملك في تكوين قناعتها الديمقراطية وصفة مفصلة لما تبتغيه أقرب للوصفة الليبرالية السائدة في العالم.
تكشف نتائج المؤشر العربي استمرار التفاؤل بالديمقراطية؛ فحوالى ثلاثة أرباع الجماهير العربية يودون الديمقراطية (في حين لم يتجاوز معارضوها 22%)، وأربعة أخماس المواطنين العرب يؤيدون قيام نظم ديمقراطية في بلدانهم. وتسعة أعشارهم يعرفون ماهيتها، ويميلون لوصفها بوصفة ليبرالية تشمل إلى جانب الحريات المدنية، جملة ضمانات للمساواة أمام القانون وتوزيع النواتج الاقتصادية بعدالة، والحد من التهميش والإقصاء السياسي والاجتماعي.
ولتبين جودة هذا التصور الديمقراطي، وطبيعة القيم التي ينبني عليها، نعرج على مثال من هذه النتائج. فقد ذهب أكثر من نصف الرأي العام العربي (نسبة %55) إلى أنهم لا يجدون غضاضة على الإطلاق في وصول حزب سياسي إلى السلطة عبر الانتخابات، بغض النظر عن توافقهم مع توجهاته الإيديولوجية من عدمه. يقول لنا المؤشر العربي إن حالة الاستقطاب الوطني والطائفية الحزبية، التي تدفع بالتصور البائس القائل بحتمية ديمقراطية المحاصصة كحل وحيد لبناء ديمقراطية في العالم العربي، ليست لها قاعدة غالبية معتبرة (فقط 40% رفضوا القبول بحزب يخالف توجهاتهم). هي إذن حالة أقلوية، وثمة إمكانية لتجاوزها بتعبئة الطالبين للديمقراطية للوقوف ضدها. يعضد هذا توافق ما نسبته 62% من الرأي العام العربي على القبول بوصول حزبٍ سياسيّ إسلامي إلى السلطة، طالما جرى ذلك عبر انتخابات نزيهة. بينما عارض ثلث المُستجيبين فقط الأمر. ربما يظن بعضنا أن علو نسبة من يقبلون بحزب إسلامي مرتبط بغلبة التدين في أوساط الرأي العام العربي (حوالى 90% يرون أنفسهم بدرجة ما متدينين)، لكن نتائج المؤشر تدحض هذا الفهم. فالرأي العام العربي لدى الإجابة عن نفس التساؤل فيما يخص الأحزاب العلمانية، انقسم، ومال لتقارب نسبي بين من يرون القبول بوصول حزبٍ سياسي علماني، وبين من يعارضون ذلك. ليبين أن الأمر بعيد عن مسألة التدين. تعضد جملة من النتائج في هذا الخصوص القول بتوافر حالة من سعة القبول بالتعددية الحزبية لدى عموم الرأي العربي، وأن التعددية أقرب لمبدأ معتبر، بغض النظر عن نوعية الأفكار واختلاف التوجهات التي تحملها تلك الأحزاب.
ربما لا يحسم المؤشر الإجابة عن موقف العرب من العلمانية، وهل يرونها مقدمة لازمة لصنع
الديمقراطية أم لا، لكن اللافت فيما نطالعه من نتائج هو رفض الأغلبية بما يفوق 70% من الرأي العام، تدخل رجال الدين في القرار الحكومي. هذا رأي يعني ببساطة فهم الناس للفارق الإجرائي بين التدين باعتباره لونا من الممارسة الاجتماعية المحكومة بقواعد الدين، وبين الموقف الإيديولوجي الداعي لتدخل مؤسسات الدين في العمل السياسي. ندرك أن الحيدة العقائدية للدولة مبدأ ديمقراطي أصيل، وهي ملمح علماني مميز كذلك، تظهر هذه النتيجة اتساع القبول به عربيا. ويعزز هذا التفسير رفض ما يقارب أربعة أخماس الرأي العام العربي استخدام الدولة أو الفاعلين السياسيين للدين لتحصيل التأييد الشعبي، سواء في العمل السياسي اليومي أو في مواسم الانتخابات. غالبية المستجبين تجاهلت التدين كشرط في السياسي الذي يؤيدونه. إذن لا يحمل معنى التدين لدى الرأي العام العربي، ما تصورناه عن اعتماد القطاع الأكبر منه آيديولوجيا تُدّين السياسة والمجال العام، على شاكلة ما تدفع جهته أحزاب وتنظيمات ترفع شعارات الهوية الإسلامية.
وبالعموم، فإن تضع بيانات المؤشر علامة استفهام كبرى حول مسألة الانطلاق في المواقف السياسية من الدين، ومدى واقعيتها؛ وربما ستفاجئك حقيقة أن نسبة من يحملون نظرة إيجابية تجاه داعش بين المؤيدين لفصل الدين عن السياسة، تكاد تتطابق مع نسبة المعارضين لفصل الدين عن الدولة. لا ينبع تأييد داعش، بحسب المؤشر العربي، من الموالاة الدينية وحدها، بل من مظلومية لم تفرق بين متدين يشاطر داعش مذهبيتها، وبين غير المتدين أو صاحب المعتقد المغاير.
يظهر المؤشر استمرار ميل الغالبية لمنح مسألة غياب الأمن والأمان أولوية (نسبة 19%)، وظني أنه لا يجب فهم هذا الميل لدى المواطنين العرب لترجيح لقضايا الأمن والحقوق الاقتصادية كقضايا أولية،بعيدا عن إيمان هؤلاء بضرورة الديمقراطية. تفاوت الأولويّات لدى المواطنين بين الأمن والحقوق الاقتصادية، أمر منطقي، ويتوافق وفهم الجماهير الواسع لقضية الديمقراطية. تظهر نتائج المؤشر حول تعريف العرب للديمقراطية، أنها في نموذجها المأمول لا يتمايز فيها مكون الحريات المدنية عن قضية العيش والعدل.
هناك نسبة من المواطنين العرب تبلغ 35% عرفت الديمقراطية كضمان للحريات السياسية والمدنية، فيما 26% منهم ربطوها بالمساواة والعدل بين المواطنين، وعرّفها 6% بأنها ضمانة لتحقيق الأمن والاستقرار، والنسبة ذاتها سجلها من عرفوا الديمقراطية بأنها تنطوي على تحسين للأوضاع الاقتصادية. مجمل النتائج في هذا الباب تؤشر إلى استحالة فهم مسألة الحرية كمكون للديمقراطية المأمولة عربيا دون العدالة والأمن والتحسن في أوضاع الناس وجودة فرصهم في العيش.
تؤكد وضوح المعنى الديمقراطي لدى الرأي العام العربي بعض النتائج الشيقة التي تخص الموقف من مقولات ذات محتوى سلبيّ عن الديمقراطية. وفيها سنجد تسعين بالمئة وأكثر من العرب يلفظون تلك المقولات التي لم تزل رائجة لدى قطاع من المتصدرين للمشهد الإعلامي، من عينة أن مجتمعاتنا غير مؤهلة للديمقراطية، أو أن الديمقراطية تفتت اللحمة الاجتماعية، وتثير المشاحنات، أو أنها تعيق الاقتصاد والإنتاج، أو أنها تعادي المعتقد الإسلامي، أو أنها تقوض النظام العام. وتفاجئنا النتائج بأكثر من هذا، حيث تظهر أن الرأي العام العربي والذي يقبل بأغلبية ساحقة النظام الديمقراطي، يرفض وبحسم ما دونه من نماذج الحكم السلطوية، بما فيها النظام التعددي المحدود إقصائي الطابع، الذي تقتصر فيه الممارسة على اتجاهات فكرية بعينها، دينية أو قومية. نعم، قضية التعددية المنفتحة واضحة في النموذج الديمقراطي المأمول عربيا، بحسب ما يفيدنا المؤشر العربي.
يقول المؤشر أن الربيع العربي لا زال يشكل يقيننا، رغم كل ما جرى من تعثرات وعلو لموجات الثورة المضادة. فنسبة 48% من العرب رغم أنها ترى الثورة تمر بمرحلة تعثر، لكنها تؤمن، وعلى الرغم من ذلك أنها في النهاية ستحقق أهدافها، هذا في مقابل 34% يرون أنّ الربيع العربي قد انتهى واستتبت الأنظمة السابقة في مقاعد الحكم.
صحيح أن نسبة المحملين بإيمان راسخ في نجاح الثورات في النهاية تتضاءل، لكن هذا لم يعن بحال أن من يؤمنون باندحارها قد ازدادوا في المقابل، العكس هو الصحيح تماما. أما ما زاد فهو اللايقين. وهو أمر مفهوم، في ظل أوضاع تشهد حربا شعواء على الثورة؛ الفكرة والأشخاص والأحداث، ومحاولات لا تهدأ لوأد الحلم الديمقراطي. ويعني في جانب منه الاحتياج لمن يضيئون سبيل الأمل بأن الغد الديمقراطي ليس مستحيلا.
ما يعزز الأمل أن نتائج المؤشر العربي تتمتع بمستوى من المصداقية عال، لاعتماده تقصيا ميدانيا منضبطا بشروط الجودة البحثية الفائقة، وتأسسه على رصد موسع يجعل منه الدراسة الاستقصائية الأضخم في العالم العربي؛ بتغطيته اثني عشر دولة، وتصنيفه استجابات ما يجاوز ثماني عشر ألف مبحوثا من مواطنيها، في عينة جيدة التمثيل لأطياف الرأي العام العربي.
إن نتائج المؤشر العربي هذه وغيرها، يتوجب قراءتها بتمعن، وفهم رسالتها إلى النخبة، بأن الأوان قد آن لنفض أوهامنا اليائسة، وأن نشرع في الدفع جهة الخلاص الديمقراطي مرة أخرى. فهذا ما تأمله منها الجماهير.