Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

بعد خمس سنوات من ثورة تونس: هل تسقط الدّولة؟

$
0
0

يستقبل التونسيون شتاءهم الخامس بعد الثورة بكثير من الشكّ في مستقبل مسارهم الديمقراطي الناشئ، واختارت الجغرافيا التي انطلقت منها شرارة 17 ديسمبر 2010 أن تحتفي بالعيد الخامس على طريقتها : في ولاية القصرين، رضا اليحياوي من مواليد 1987 يحتجّ على شطب اسمه من إحدى قوائم التوظيف في القطاع العمومي ويلقى مصرعه إثر تسلقه لعمود كهربائي. على إثر ذلك، تنتشر الاحتجاجات في جلّ مناطق البلاد.

في الآن ذاته، يُحتفى بتونس نموذجا للتغيّرات العربيّة المتواصلة وعنوانُ النموذج التوافق، وبرهانُه جائزة نوبل، أمّا مضمونه فهو سرديّة سياسية تكاد تجمع عليها النّخب التونسية رغم تشرذمها: الصّبر، وما دُمنا نجحنا في تكريس تداول سلمي ديمقراطي على السلطة واجتناب الأسوأ فلا بدّ أنّ حلولاً لكلّ المشاكل آتية وإن طال أمدُها. وما دمنا النّموذج العربيّ الدّيمقراطيّ فإنّ المبالغة في التذمّر شطط، وانظروا حولكم ليبيا وسوريا واليمن..ومصر.

في الذاكرة الجماعية للتونسيين، وفي زمن غير بعيد، كان يُحتفى بتونس نموذجا تنمويا إصلاحيا، وفي عقد التسعينات كانت السلطوية السياسية تبرّر نفسها بالعشرية السوداء في الجزائر وتبعات الحظر الاقتصادي في ليبيا. في حينها أيضا أُريد للتونسيين أن يطمئنّوا لنموذجهم، ليفتحوا أعينهم بعد سنوات على تبِعات ذلك النموذج ومآلاته.
مضت على الثورة خمس سنوات لكنّ قلقاً جماعياً كبركان قابل للانفجار في أي لحظة يلازم تونس. وبين المجتمع العميق والدّولة فجوة تتّسع وتعبّر عن نفسها انتحاراً أو تهديداً بالانتحار أمام المقرات الرسمية في المحلّيات وآلاف من الشباب يلتحقون بما بات يعرف ب’الجهاد العالمي’.(1)


ما وراء الاحتجاج الاجتماعي : الدّولة الوطنية وأزمة الشرعيّة

إنّ ما يستوقِف المتابعَ للشّأن التّونسي في الاحتجاجات الأخيرة لا يقتصر على طابَعها وخلفيّتها الاجتماعيّين، إذ يبدو ذلك بديهيا على ضوء تدهور المؤشّرات الاقتصاديّة.(2) ذلك أنّ ما يدقّ ناقوس الخطر هو أنّ هذه الاحتجاجات لا ترفع شعار التشغيل إلاّ لتذكّر بشتاء 2011 ثمّ لتُلحق به شعار “الشعب يريد إسقاط النّظام”. أمّا العنف الذي تخَلّل هذه الاحتجاجات، فهو ذاتُ العنف الذي يستهدف رموز الدّولة الحديثة وسلطتها: الهياكل الجبائية المحلية (القباضات) ومراكز الأمن. تكمن خطورة هذه الاحتجاجات إذن في أنّها تعيد طرح أزمة الدولة في تونس، وأزمة شرعيتها على وجه التّحديد بنفس القدر الذي طرحته ثورة 2011.

في مصر انطلقت ثورة 25 يناير من حملة « كلنا خالد سعيد » احتجاجا على القمع البوليسي، وفي ليبيا انطلقت مظاهرات بن غازي من عذابات معتقل بوسليم، أمّا في تونس فكان الاستحقاق الاجتماعي - التشغيل - مُنطلقاً لثورة 17 ديسمبر.
يصعب تفسير ذلك باستثنائية تدهور الأوضاع الاجتماعيّة في تونس مقارنة بالحالتين المصرية والليبية أو الدّول العربيّة الأخرى، إذ لا تمثل البطالة المرتفعة بين أوساط الشباب وخريجي التعليم العالي أو تدهور مستويات المعيشة والخدمات الصحية والتعليمية خصوصية تونسية في السياق العربي أو في سياق الدّول النامية عموما. ربّما تكمن خصوصية الاحتجاج الاجتماعي في تونس في ارتباطه بأزمة النّظام/الدّولة في المراحل التّاريخيّة المتعاقبة وفي صعوبة الفصل بين نمطين من الاحتجاج : الاجتماعي والسياسي.
لقد ارتبطت نشأة دولة الاستقلال وترسيخ كيانيتها في تونس بتحقيق الرفاه الاجتماعي، وتكرّست شرعيّتها على امتداد التّراب الوطني عبر اضطلاعها بأدوار رئسية في البنية الاقتصاديّة والتّعليم والصحّة. ولعقود درج على ألسنة التونسيين تندّرا أنّ ما من قرية في تونس إلاّ وتتواجد فيها الدّولة عبر المدرسة والمستوصف…وشعبة الحزب الدّستوري. وكانت الدّولة البورقيبية تستمدّ شرعيّتها - رغم طابعها السلطوي - من قدرتها على جسر الهوّة الاجتماعية بين الشرائح والفئات وتعميم مجانية التعليم والصحّة. وفي تاريخ التونسيين المعاصر، ارتكزت شرعيّة الدّولة على تقديم مقوّمات واقعية في الحياة اليومية لأمل فردي وجماعي في الرفاه والصّعود الاجتماعيين.

وبهذا المعنى، لم تكن صدفة أنّ الأزمات الكبرى لدولة الاستقلال في تونس قد ارتبطت تاريخيّا باحتجاجات اجتماعية عنيفة، سواء في جانفي 1978حين دخلت الدّولة بقيادة الحزب الدستوري في مواجهة عنيفة مع الاتّحاد العامّ التونسي للشغل، أو في أحداث الخبز في جانفي 1984 التي تزامنت مع ترهّل النّخب الحاكمة وتهرّم رمز تأسيسها وعنفوانها الحبيب بورقيبة.
إنّ الاحتجاج الاجتماعي في السياق التّونسي، كثيراً ما ارتبط باهتزاز الشرعيّة المجتمعيّة للدّولة/النّظام: كذلك كانت انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، وأحداث بن قردان سنة 2010 ثم ثورة 17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2011.

وإذ يمكن القول إنّ الانسحاب التدريجي للدّولة من وظائفها الاجتماعية، أو على الأقل ضعف أدائها، كان محكوماً في جزء منه بتحوّلات تتجاوز تونس، ضمر فيها الدور الاجتماعي للدّولة في العالم بأسره، فإنّ مرحلة ما بعد 14 جانفي 2011 كان جوهرها إعادة بناء شرعيّة الدّولة، أو إعادة إنتاجها، ربّما بمعزل عن نجاعة اضطلاعها بالوظيفة الاقتصاديّة الاجتماعية.

كان ذلك المغزى الرئيسي من مرحلة التأسيس، وبلورة دستور 2014 بما هو عقد مجتمعي جديد. إلى حدّ بعيد، يمكن القول أنّ التّحدّي الرئيس لتجديد شرعية الدّولة الوطنية في تونس بعد الثورة يتمثّل في القطع مع معادلة تاريخيّة كرّستها دولة الاستقلال: مقايضة شرعيّة الدّولة السلطوية والمُهيمنة على المجتمع بتحقيق الأمل الفرديّ والجماعي في الرفاه. أي أن يغدو موضوع الرفاه وغيره من الطموحات الفرديّة والجماعية موضوعاً سياسياً، تحت سقف شرعيّة الدّولة وونظام الحكم لا فوقه.

وإذا كان من البديهي أنّ الاحتجاجات الاجتماعيّة لا تنقطع بتجديد هذه الشرعية، فإنّ الأمر يتعلّق بموقع الاحتجاج الاجتماعي وسقفه ودلالاته - بمعنى آخر - أن لا يتطوّر كلّ احتجاج اجتماعي، كما هو الشأن في الأحداث الأخيرة، إلى شعار « الشعب يريد إسقاط النّظام » بما يحمل خطورة مواجهة شاملة بين المجتمع والدّولة. تتعلّق المسألة إذن بشرعيّة أمتن وأقدر على امتصاص الأزمات وأوّلها أزمة دور الدّولة في الرعاية الاجتماعية. إذ ليس مُنتظرا أن تنجح تونس في المدى القريب أو المتوسّط في تجاوز أزمتها الاقتصاديّة العميقة والمزمنة، أو أن يتمكّن القطاع العموميّ من استيعاب مئات آلاف العاطلين عن العمل، أو أن تتمكّن الدّولة من الاستجابة لانتظار وتطلّعات ملايين التونسيّين في تحقيق الرّفاه الاجتماعي.
وعلى أرض الواقع، لم تشهد المرحلة التي تلت الثورة فشلا في تحقيق الانتظارات الاجتماعية للتونسيين فحسب، بل قد يكون فشلها ذاك طبيعيا، وإنّما تعمّق غياب الدّولة على مستوى وظيفتها الرقابيّة التعديلية اقتصادياً. ففي السنوات الخمس الماضية، مثّل ازدهار القطاع اللاشكلي سواء من زاوية الأنشطة الاقتصادية في المدن الكبرى أو التّهريب في المناطق الحدوديّة ديناميكية رئيسية. وهو ما يعكس بدوره انسحاباً أكبر للدّولة من الواقع اليومي لجزء كبير من التّونسيين، إذ بلغ حجم القطاع اللاشكلي وفق تقديرات البنك الدّولي إلى 38 % من النّاتج الدّاخلي الخام سنة 2013 مقارنة ب30 % سنة 2010. (3) وإذ تتطابق هذه الديناميكية مع جغرافيا الاحتجاج في تونس، الأحزمة الشعبية للمدن الكبرى والمناطق الدّاخلية المتاخمة للحدود الليبية والجزائرية، فإنّها ترتبط أيضا بتحرّر الفاعلين في الاقتصاد اللاشكلي من سطوة احتكار السلطوية السياسية قبل الثورة لخطوط التهريب والترويج، وتحرّر الأجهزة الأمنيّة التي كانت تنظّم ‘ريع التهريب‘ من الرّقابة التي كانت تمارسها السلطوية المركزيّة، فيما يشبه تحرّرا للفساد الكبير.

وفي سياق محاولة بناء شرعيّة جديدة للدّولة مضمونها تحرير المجتمع من السلطوية، ومواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والأمنيّة بمنطق يقطع مع نموذج الدّولة المُستلبة من طرف أقلية في مقابل الأكثريّة، يبدو أنّ الدّيمقراطيّة النّاشئة لم تنجح بعدُ في تكريس قناعة لدى شرائح واسعة من المجتمع مفادها أنّ الدّولة التي ثاروا عليها - وإن عجزت عن تحقيق الرفاه - فإنّها يمكن أن تكون أقل ظلما وفسادا، وأكثر عدلا واحتراما للكرامة الفرديّة والجماعيّة.

‘ ثورة الحرية والكرامة ‘: تحرير المجتمع أم تحرّر السلطوية والفساد ؟

يجمع التّونسيون على أنّ الثورة فتحت الأبواب مُشرّعة أمام حرية التعبير والتنظّم الحزبيّ والجمعيّاتي، بيد أنّ سقوط مركز ثقل السلطوية السياسية في 2011 أفرز تدريجيا ديناميكية أخرى تحرّرت بمقتضاها قطاعات الدّولة وهياكلها من رقابة السلطوية المركزية والحاجز النّفسي الذي كان إلى حدّ مّا يحول دون تمادي الفساد.

يتقاطع هذا الانطباع العامّ مع مُعطيات تسوقها المؤسسات الدوليّة: حيث تراجع مؤشر إنفاذ القانون الصادر عن البنك الدّولي سنة 2013 إلى أدنى مستوى له منذ سنة 1996 وتراجع بنقطتين مقارنة بسنة 2010. (4) كما تراجع ترتيب تونس على مستوى مُدرك الفساد من المرتبة 43 سنة 2010 إلى المرتبة 40 سنة 2014). (5) وبقدر ما شعر الفرد والقوى المجتمعيّة بالتمكين تعبيراً واحتجاجاً، وجدت أجهزة الدّولة في الحرّية فرصة لفرض أجندتها القطاعيّة وتسلّطها وفي كثير من الأحيان باسم الاستقلالية وباستغلال شعارات الثورة : حرية التنظّم.

في قطاع الأمن تشكّلت بعد الثورة هياكل نقابية تحت عنوان الدّفاع عن المكاسب الاجتماعيّة للأمنيين وعن استقلاليّتهم في مواجهة كلّ محاولة للتوظيف السياسي. ومع تصاعد حدّة التهديدات الأمنية وموجة الاغتيالات سنة 2013ً ثمّ دخول الدّولة رسميا فيما بات يُعرف بالحرب على الإرهاب، تطوّر دور النّقابات الأمنية لتغدو فاعلاً سياسياً: تقيّم الأداء الحكومي وتنقده وتحرض عليه أحياناً في لهجة هي أقرب إلى التمرّد على السلطة السياسية مُمثّلة في وزارة الدّاخليّة. وتدريجياً أصبحت النّقابات الأمنيّة تعبّر في المجال الإعلامي التّونسي عن حالة من ضعف السلطة السياسية المدنيّة في مقابل تكريس انطباع بوجود مقاطعات أمنيّة داخل الدّولة. (6)

على أرض الواقع، يتقاطع هذا الخطاب الأمني ‘المتمرّد‘ مع عودة الممارسة القمعية في سياق الحرب على الإرهاب. وبالإضافة إلى ما تضمّنته تقارير منظّمة العفو الدّولية (7) وما تسرده تقارير صحفيّة حول مداهمات وعمليات احتجاز وتعذيب،(8) فإنّ خطورة القمع المُستجدّ بعد الثورة تكمن تحديداً في عدم خضوعه لقرار سياسي تسهل محاسبته وتطويقه مركزياً، إذ هو يرتبط بنزعة للخروج عن القانون والاستخفاف بالرقابة لصالح سلوك حمائي قطاعي. أي أنّ أجهزة الأمن في المدن والأحياء تحوّلت تدريجياً إلى مراكز سلطوية متحرّرة من رقابة السلطة التنفيذية ناهيك عن الرقابة الديمقراطية التي تفترض أصلاً وجود سلطة ورقابة تنفيذيتين.

ولئن كانت حالة الأمن مُعبّرة بحكم الدّور التّاريخي لوزارة الدّاخلية ومصالحها الأمنيّة في العلاقة بين الدّولة والمجتمع منذ الاستقلال، فإنّ هذا النّمط من السلطوية القطاعية المُستتر في كثير من الأحيان بالاستقلالية، لا يميّز الأمن دون غيره من القطاعات.
في قطاع القضاء، على سبيل المثال، تمّ رصد إخلالات وحالات غشّ في المناظرة الوطنية لدخول سلك الملحقين القضائيين تمثّل أحيانا في تدخّل قضاة لصالح أبنائهم وأقربائهم فيما يشبه توريثا للمهنة.(9) وإذا كانت مسألة استقلالية القضاء قبل الثورة تتعلق بخضوعه للتعليمات والسلطة السياسية، فإنّها تتعلق بعد الثورة بمهنية القضاء ونزاهته وقدرته بالتالي على إنفاذ القانون وتكريس مصداقية الأحكام.

إنّ سقوط الجهاز الإداري التنفيذي وقطاعات حساسة منه، الأمن والقضاء على وجه الخصوص، في حالة من الفساد واعتباطيّة القرار، وانتقالها من حالة الخضوع التام للسلطوية السياسية المركزية قبل الثورة إلى ما يشبه التحرر التّام من كل رقابة سياسية أو تنفيذية، إنّ هذا السقوط يكاد ينسف معنى الشرعية الديمقراطية: إذ ما معنى الرقابة الشعبية والتمثيلية على سلطة لا تمارس سلطتها ولا تنفذ؟
وبهذا المعنى، ومن زاوية الحياة اليومية للتونسيين، فإنّ السلطوية لم تنتهِ ولم تَزُل وإنّما أعادت انتشارها، إذ انتقلت من قصر قرطاج قبل 2011 إلى المراكز الأمنية والمحاكم والقطاعات الإدارية على امتداد التّراب الوطني.

تفكّك النّخب والشِّللية السياسية

في السّياق التونسي يتقاطع تحرّر الفساد مع ديناميكية أصبحت ميزة رئيسية للحياة السياسية : تشظّي النّخب وصعود ما يبدو أنّه مراكز نفوذ ذات امتداد أمني ومالي .(10)
بُعيد الانتخابات البرلمانية والرئاسية أواخر سنة 2014، بدأ يطفو على السطح صراع إعلامي أطرافه الرئيسية رجال أعمال وسياسيون يتقاذفون الاتّهامات عبر وثائق أمنيّة مُسرّبة، وفي إطار هذا الصّراع برزت تصريحات مفادها أنّ محاضر تنصت وتقارير استخباراتية سرّية يتمّ التفويت فيها بمقابل مالي. (11)

بعدها ببضعة أشهر، شهد نداء تونس، الحزب الفائز في الانتخابات، صراعا محموما بين قياداته الرئيسية عنوانه ترتيبات داخلية تتعلق بالمؤتمر القادم. ومع تقدّم حالة الانقسام بدا أنّ كلّ جناح ينسج روايته لتقديم تِعلّة للشقاق : كالاتهام بالتآمر على الرئيس المؤسس الباجي قائد السبسي أو التّعبير، رغم مرورسنة كاملة على تشكيل الحكومة، عن التحفظ على التّحالف مع حركة النّهضة.(12)
بيد أنّ ما ترسّخ لدى عموم التونسيين من هذا الصراع متعدّد التفاصيل هي قصص حول توريث الابن، وعنف ‘بلطجية‘ في اجتماع حزبي (13) واتّهام ب’العمالة لأطراف أجنبية.”(14)

وبصفة أعمّ، يبدو المشهد السياسي داخل الحزب الرئيسي رهين حالة من التفكّك والشللية تحكمها ولاءات شخصية وصراع على سلطة ليس واضحا إن كان موضوعها الدّولة. ومن الملفت للانتباه بهذا الصّدد أنّ الوجوه القيادية الرئيسية في الأحزاب الحاكمة، نداء تونس وحركة النّهضة، لا تتبوّأ مواقع مسؤولية سياسية مباشرة. وفي كواليس السياسة التونسية تنتشر روايات عديدة حول ولاءات المسؤولين السياسيين والإداريين في قطاعات اقتصادية وأمنية للقيادات الحزبية فيما يشبه تسييرا بالوكالة، وتنتشر فوق كلّ ذلك شبهات حول تمويلات أجنبية مهمّة للأحزاب السياسية قد تكون ذات تأثير على رهانات الصّراع على السلطة.

أمّا من زاوية حركة النّهضة التي تراجعت إلى المرتبة الثانية بمناسبة الانتخابات الأخيرة، فإنّ الصّيغة التوافقية القائمة تفترض أنّ تحالف هذه الحركة الإسلامية، التي تمّ إقصائها لعقود من الفعل السياسي، مع نداء تونس، من شأنه أن يحقق التّوازن المطلوب بين موازين قوى الواقع الموروثة من مرحلة ما قبل 2011 من جهة، وتطلّعات القوى المجتمعيّة التي حملت الثورة من جهة ثانية. على أنّ موجة الاحتجاجات الأخيرة تطرح أسئلة عديدة حول درجة ‘التمثيلية الاجتماعية‘ للإسلام السياسي الإصلاحي مُمَثّلا في حركة النهضة، ومدى قدرة هذه الحركة على الاضطلاع بدور ‘المُسكّن‘ لجموح المجتمع العميق ورغبته في التغيير أو على الأقلّ جسر الهوّة بينه وبين الدّولة ومؤسساتها.

إنّ حركة النّهضة التي أثبتت مقارنة ببقية الأحزاب السياسية التونسية قدرة استثنائية على التنظّم والحفاظ على التّماسك الدّاخلي، يبدو أنّها تنتهج سلوكاً سياسياً حمائياً: دعم الحكومة مقابل تمثيل شكلي في الحكومة ودون قدر واضح من التشريك في القرار السياسي، ثم اجتناب أكبر قدر من المواجهة أو تحمّل مسؤولية أي صراع سياسي في مقابل تطبيع وجودها وتكريس الاعتراف به داخل حيّز النخبة السياسية والثقافية التّونسية.

ولعّله أمر ذو مغزى أن تأتي هذه الاحتجاجات في سياق زخم تنظيمي وسياسي داخل حركة النّهضة تستعدّ فيها لمؤتمرها العاشر، وفي ذروة ما يبدو أنّه مصالحة تاريخية بين هذه الحركة من جهة والدّولة الحديثة ونخبها التقليدية في تونس من جهة ثانية.
هل يُجيب المسار الديمقراطي القائم بصيغته الحالية على سؤال الشرعيّة المجتمعية للدولة الحديثة في تونس؟

في غياب إصلاح حقيقي وجذري للمؤسسات وعمل جدّي على تكريس شرعيتها المجتمعية، وفي غياب احترام كرامة الأفراد في واقعهم اليومي وتكريس المساواة أمام القانون وأمام الدّولة، يبدو ذلك صعبا. وما دامت الدّولة في المُدرَك الجمعي كيانا مُستلباً في قمّة الهرم من طرف نخبة توزّع الأدوار بينها ‘ديمقراطيا‘ بعد أن هيمن عليها مُستبدّ واحد، ومُستلبا في قاعدته من طرف هياكل إدارية وأمنية وقضائية تمارس سلطويتها بكامل ‘الاستقلالية‘ دون رقابة أو محاسبة، فإنّ الفجوة بين المجتمع والدّولة مُرشّحة للتفاقم.

لقد انتفض التونسيون سنة 2011 رافعين مطالب اجتماعيّة اعتبرها النّظام في حينها شرعيّة، وعمل جاهداً على عزلها عن أي بعد سياسي ثمّ انتهى المطاف برفع شعار واضح لا لبس فيه : ’ خبز وماء وبن علي لا ‘.
وبعد خمس سنوات من الثورة، يحتجّ التونسيون بعنوان اجتماعي مضمونه رفض واقع سياسي جديد: دولة مهدّدة بالسقوط تحت سيطرة أوليغارشية بصدد التشكّل، وبهذا السّقوط قد تفوّت الدّولة الحديثة في تونس فرصة تاريخية لتجديد شرعيّتها، وهو ما قد يزجّ ب’النموذج الديمقراطي‘ فيما لا تُحمد عُقباه.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

Trending Articles