Quantcast
Channel: Jadaliyya Ezine
Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

الليبرالية الامبريالية والثورة المصرية

$
0
0

في هذه السطور بعض الخواطر العامة حول ما أسميه تيار الليبراليين الامبرياليين وكيفية تعاطيهم مع الثورة المصرية. وأقصد بهذا مجموعة من الأكاديميين والمحللين الغربيين في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وخصوصا ًفي الولايات المتحدة. يمثّل هؤلاء إلى حد كبير الخطاب السائد في الأكاديميا والإعلام الغربي حول الثورة المصرية. لكن بعض ممثلي هذا التيار في عالمنا العربي أيضاً. ولذلك ليس المقصود هنا على الاطلاق أن هذا المفهوم ينطبق فقط على الغربيين. ولكن بعض المصريين والعرب في الحقيقة يتبنون هذه الافكار. وهذه الخواطر تعتمد على ملاحظات من قراءاتي ومتابعاتي للكثير من الكتابات. وأقصد بالليبراليون الإمبرياليين هؤلاء الذين يتشدقون بالكلام بمفاهيم مجردة عن الليبرالية وخصوصاً الحرية الفردية، لكنهم بخطابهم عن عالمنا العربي والثورة المصرية يرسخون مفهوماً معرفياً كولونيالياً، أو يدافعون ويرسخون مبادئ أو يدافعون عن مصالح الامبريالية الامريكية أو الأنظمة التابعة لها أو المستفيدة منها في المنطقة، سواء بقصد أو بدونه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن استخدامي لتعبير ”التيار“ لا يعني وجود مجموعة متجانسة من الكتاب أو أن ما سأبديه من ملاحظات ينطبق جميعه وفي وقت واحد على مجموعة واحدة من الناس. لكنها ملاحظات تتفاوت في وجودها ودرجاتها، والبحث التفصيلي هنا يحتاج لدراسة تفصيلية ومعمقة لأصحاب هذا الاتجاه. وللاختصار لم آت باقتباسات محددة من كتابات هؤلاء الكتاب في هذا المقال. ويمكن أن اتناول ذلك في دراسة تفصيلية مستقبلاً. وباختصار، هذه خمس ملاحظات لي حول خطاب هذا التيار. وهي: 1) نزعته لقولبة الثورة المصرية؛ 2- الهوس بالسياسة الرسمية وتبني مفهوم مؤسسي رسمي/شكلي للديمقراطية؛ 3- احتقار العمل الجماهيري القاعدي؛ 4- تبني مفاهيم مبسطة للاسلام السياسي؛ وأخيراً 5- نزعة لاستبعاد الإمبريالية وأهمية العامل الجيوبولتيكي الدولي في الثورة المصرية.

أولاً: قولبة الثورة المصرية

هذه النزعة تتمثل في الرغبة الشديدة في قولبة الثورة المصرية. والمقصود بالقولبة وضعها في إطار جاهز يماثل ثورات أو هبات جماهيرية سابقة في العالم، وخصوصاً العالم الغربي. وقد بدأت الإرهاصات الاولي لهذا الاتجاه منذ الأيام الاولي من فبراير2011. فلم تكن الامور واضحة بعد، ولكن بسرعة ظهرت الكثير من التحليلات التي تقول إن ثورة يناير هي ليست ثورة أو أن المصريين يسمونها كذلك لكنها لا تستحق هذا الاسم أو انها هبة شعبية طالبت ببعض الإصلاحات تزامنت مع انقلاب عسكري. ربما يكون تعريف الثورات من أكثر التعريفات صعوبة في العلوم السياسية والاجتماعية. وربما تكون الثورة المصرية قد مرت فعلاً بمسار غريب متعرج ودموي. وربما تكون ثورة مغدورة أو تم اختطافها. لكن من الانصاف أيضاً القول إن كثير من هذه التحليلات بنيت على افتراض خاطئ وفهم غير سليم تاريخياً. والافتراض هو أن الثورة أو الانتفاضة هي ذلك الحدث الاستثنائي المغلق الذي حدث خلال ثمانية عشر يوماً. والفهم غير التاريخي هو افتراض أن الحدث كانت له بداية ونهاية وانتهى، وأنه لا يمكن له أن يتطور بصورة أخرى. وهذه الاستنتاجات السريعة تجاهلت تعقيدات الحالة التاريخية في مصر وتشابك التناقضات الداخلية والإقليمية المستمر والمتعلق بمطالب الثورة واستمرار الاحتجاجات، فضلاً عن أنها تحمل موقفاً استعلائياً نظرياً قيمياً. وللإنصاف فإن الجدل حول تعريف الثورات هو جدل كبير ومعقد. وهناك نقاش سائد بين علماء الإجتماع السياسي الباحثين في الثورات عن فكرة الثورات الناجحة وتلك الفاشلة. ولكن أحد المعايير الشائعة هي سيطرة الثوار على الدولة ووصولهم للحكم. وهذا معيار ناقص. ولكن هناك اتفاق كبير على أهمية حدوث تغييرات اجتماعية واقتصادية جذرية في المجتمع للقول بأن ثورة ما قد نجحت. لكن الاكتفاء بالثماني عشر يوماً كأساس وحيد للبحث ليس تفكيراً تاريخياً سليماً. لم يصل الثوار للحكم. لكن تجاهل الآثار النفسية لحدث كبير شارك فيه أكثر من ربع الشعب في الميادين ولا زالوا، وخاصة كسر حاجز الخوف ودرجة التسييس غير المسبوقين، كل هذا يدعونا لإعادة التفكير في المعايير الأكاديمية السائدة للبحث في الثورات. الفهم التاريخي السليم يقول إن الثورات ليست ناجحة أو فاشلة، مغدورة أو مختطفة فقط، ولكن يمكن أن تكون غير مكتملة أيضاً. وفي هذا السياق يمكن وصف ما حدث في يناير 2011 كانتفاضة عظيمة تمثل بداية ثورة لم تحدث أو تكتمل بعد مثلاً. ومن الأقوال المنتشرة لبعض الباحثين والمحللين هنا أيضاً هو أنه لا يمكن دراسة هذه الثورة بدون مقارنتها مع ثورة أخرى عالمية. ويفضل أن تكون ثورة كلاسيكية أوروبية.  والمقارنات هامة جداً ومفيدة في البحث العلمي. ولا اقول هنا إن كل من يقول بمثل هذه المقارنة ولكن المشكلة هنا هو افتراض أن الفهم السليم يرتبط بنموذج معرفي وقوالب فكرية جاهزة تتعلق بثورات سابقة اوروبية فحسب. أقل ما يمكن أن نسمي هذا هو أنه عنف إبستيمولوجي. والمقصود هنا افتراض عدم إمكانية فهم ظاهرة بعينها إلا من خلال نماذج معرفية بعينها، وهي في الغالب النماذج السابقة المعروفة في الغرب.

ثانياً: تبني مفهوم ضيق للديمقراطية والهوس بالسياسة الرسمية

هناك مشكلتان أساسيتان في خطاب هذا التيار فيما يتعلق بالديمقراطية. الأولى إنه اختزل مطالب الثورة المصرية إلى إصلاح سياسي ديمقراطي فحسب. هذه المسألة خلافية بين المصريين أنفسهم. فهناك من يرى أن الثورة المصرية هي ثورة سياسية ديمقراطية فقط. وهناك من يرى أنها ثورة تهدف لعمل تغيير جذري مجتمعي شامل وليس مجرد تغيير النظام السياسي ليكون أكثر ديمقراطية فقط. لكن هؤلاء المحليين الغربيين يتبنون وجهة نظر واحدة. ويقولون إن الثورة المصرية قامت من أجل التغيير الديمقراطي. وبما أن مصر شهدت تحولاً لمزيد من التعددية الحزبية الأكثر حرية ونحو إجراء انتخابات أكثر حرية فليس هناك منطق في الكلام عن استكمال الثورة. والخطأ الثاني هو انحياز هؤلاء لمفهوم قاصر ومختزل عن الديمقراطية. الديمقراطية هي إجراء انتخابات دورية فقط. ولا بأس من الاهتمام بحق التجمع وحرية الرأي والتعبير وحقوق المرأة والأقليات. لكن الانتخابات هي جوهر الديمقراطية. والملمح الامبريالي هنا هو محاولة تسويق نموذج بعينه. ثم لوم غير المشاركين به. فلتكن الثورة انتهت تماماً، وإن مصر ليس أمامها إلا التحول من النظام الديكتاتوري والسلطوي السابق إلى الديمقراطية، كما يقول بعض أنصار هذا الاتجاه. لكن المشكلة الكبرى هي أن بعض أنصار هذا الإتجاه مهووسون بالسياسة الرسمية لدرجة اختزال كل ما يتعلق بالديمقراطية إلى بناء مؤسسات الديمقراطية التمثيلية. لكن بالطبع فان افتراض أن الثورة انتهت تماماً هو تصور غير تاريخي وغير سليم، لانها موجودة ولو في صورة مطالبها التي لم تتحقق أو الأحلام التي تم الغدر بها.

وبالنسبة لهؤلاء المحللين الشروة الديمقراطية هي شروة جاهزة يوافق عليها الغرب. والنموذج الأمثل لها ربما كان التحول الذي حدث في دول أوروبا الشرقية بعد التحول من الديكتاتورية. ولو كان كله تحولاً شكلياً، ولو أبقى على كل علاقات القوى الاجتماعية القديمة ولم يواجه الفساد، لكنه تحول جيد طالما كان يخدم المصالح الغربية. فالديمقراطية بالنسبة لهؤلاء هي صندوق الانتخاب ووجود مؤسسات رسمية للدولة وبعض أو جزء كبير من الحريات المدنية والسياسية. لكنها لا تشمل أي افكار عن الديمقراطية الإجتماعية أو الشعبية. ديمقراطية الصندوق رائعة طالما انها ترتبط وتحترم ديمقراطية/حرية السوق، وسياسات الليبرالية الاقتصادية. وفي هذا السياق كتب الكثير من المحللين المصريين الجادين عن  هوس هؤلاء بالسياسة الرسمية ومفهومهم المختزل للديمقراطية. (انظر مثلا مقالات دينا الخواجة في ”المصري اليوم الانجليزية“ عن الفارق بين التحول الديمقراطي والانتقال الديمقراطي، وعن اختزال الديمقراطية لصندوق الانتخابات، كما نحت الباحث والكاتب المصري عمرو عزت مصطلح ”الصندوقراطية“ لنقد المفهوم العبثي لخطاب الإخوان عن الديمقراطية التى اختزلها إلى صندوق الاقتراع فقط) .

وهناك سؤال نظري هنا: ماذا لو اخترع المصريون شكلاً جديداً للديمقراطية المباشرة يختلف عن الديمقراطية التمثيلية المعروفة التي تتحكم فيها الشركات الرأسمالية الكبرى وطبقات بعينها؟ هل سيقبله هؤلاء؟ بدون مبالغة، بعض المهوسيين بالديمقراطية الشكلية المؤسسية لا يمكن وصفهم سوى بحالة لاكانية (نسبة الى عالم التحليل النفسي جاك لاكان) ووقوفهم عند مرحلة المرآة. فالديمقراطية الشكلية المؤسسية هي الشكل المريح لهم والذي يعرفونه جيداً. هي مريحة لانهم يجدون أنفسهم فيها كمن ينظر في المرآة الى نفسه، وهي مريحة لأنها لا تهدد النمط السائد الرأسمالي للديمقراطية التمثيلية!

والمفارقة أنه بينما أصبح المصريون عازفين ومتشكيين في العملية السياسية، يتفق كل من الإخوان المسلمين وهؤلاء المحللين على التبشير بها. المجلس العسكري والاخوان احترموا صندوق الانتخابات واحتفظوا بمنظومة الفساد المباركية والأجهزة القمعية للدولة والتي استمرت في قتل وتعذيب المصريين. فهل هذه هي الديمقراطية؟ هؤلاء المحللين يتهكمون دائماً بأن المصريين لا يشاركون في العملية السياسية ويفضلون التظاهر عن المشاركة السياسية. وبالمناسبة ليس من الصحيح أن المصريين كانوا متشككين في العملية السياسية طوال الوقت. فقد شاركوا في الأحزاب الجديدة. والباحث المدقق لنسبة المشاركين في التصويت بعد الثورة سيجدها نسبة عالية لكنها بدأت في التراجع، بعد ما اكتشف كثير من المصريين انفصال العملية السياسية عن مطالب الثورة والمجتمع. لكن أليس من حق الكثير من المصريين التشكك وقد كان طريق التحول مفروض فرضاً. فلم يختار المصريون المجلس الأعلى للقوات المسلحة لقيادة التحول، كما لم يكن هناك أي نقاش مجتمعي حقيقي يقرر ما الذي يريد المصريون أن يفعلوه بعد مبارك؟ أوليس من حق المصريين التشكك طالما لم تأت العملية السياسية إلا بمزيد من القمع والقتل والتجويع والتعذيب؟ ولا أقول هنا إن مفاهيم هؤلاء ظلت ثابتة بلا نقد لما حدث من مشاكل في التحول/الانتقال في مصر. فقد بدأوا مؤخراً ينتقدون الاخوان. لكن معظم نقدهم يركز فقط على عدم كفاءة الاخوان وحسب، لكنهم لا يلومون المفهوم السطحي للديمقراطية الذي يروجونه! يلوم هؤلاء المصريين لانهم أصبحوا متشكيين في العملية السياسية. ولا يرون الإقصائية والعنف الذي صاحب هذه العملية فضلاً عن مدى نخبويتها وسطحيتها.  والطريف أن مصر فيها ديمقراطية الصناديق شكلياً ولكن يدير البلاد أصلا من لم ينتخب أصلا عن طريق الصناديق، وبلا حساب. والمقصود هنا هو جماعة الإخوان المسلمين ومكتب الإرشاد. العملية السياسية التي قامت بعد الثورة تقريباً ماتت وليس لها مصداقية. ومشكلتها الاساسية ليست فقط أن من أداروها بأنانية وللحفاظ على مصالح مزيج من النظام القديم والإخوان المسلمين، ولكن لأنهم هم ومن روجوا لها في قرارة أنفسهم أرادوا عملية سياسية مشروطة، تحافظ على بعض مصالح النظام القديم ومصالح القوى الكبرى الدولية بحيث لا تهدد هذه المصالح. 

وفي سياق انسداد وفشل العملية السياسية في مصر الآن يتحدث بعض هؤلاء بلغة العارفين بكل الأمور أحياناً فيقولون مثلاً: لقد تحدثنا مع كل من الحكومة والمعارضة ونستطيع أن نقول بكل ثقة أنه لا توجد أي مؤسسات حقيقية تساعد على بناء الديمقراطية في مصر وأن كلا من الطرفين غير جادين وغير ملتزمين بالديمقراطية. والمشكلة هنا ليست لهجة الاستعلاء وبناء الحكم العام على حوارات مع النخبة التي يدينوها، لكن المفارقة أنهم بدأوا يلومون العملية السياسية النخبوية التي بشروا بها بالرغم من كل مشاكلها. 

ثالثاً: نزعة لاحتقار الحركات الاحتجاجية الجماهيرية

وهذا الأمر هو الوجه الآخر من العملة من النقطة السابقة. وأحياناً يستخدم بعض هؤلاء عبارات تهكمية تقول مثلا إن لدى المصريين نزعة للاحتجاج والثورة لا تنتهي منذ ثورتهم. أو يقولون مثلا إننا لم نسمع أبداً عن تغييرات جوهرية تحدث عبر استخدام العصيان المدني. والمصريين يجب أن يتوقفوا عن الاحتجاج و يبدأوا في الاشتباك مع السياسة والتنظيم. ويتجاهل هؤلاء أن العلاقة بين السياسة الرسمية والسياسة الشعبية أو الاحتجاج ليست أما أو، لكنها علاقة متداخلة ومتشابكة. فأبسط الدروس المستفادة من ظهور الانتفاضات او الثورات الجماهيرية هو أنها تحدث بسبب انسداد طرق التغيير عبر الاساليب السياسية الرسمية. والفكرة الأساسية في بعض التعليقات والكتابات هنا هي أن التظاهر عمل غير مهم بالمقارنة باللجوء لاستخدام طريق السياسة الرسمية. لكن هذا الافتراض غير سليم وغير دقيق، لأن حالة الاشتباك بين استخدام الاحتجاج واستخدام السياسة الرسمية معقدة وتختلف من حالة لحالة ووقت لآخر وسياق لآخر.  والصندوق والشارع ليسا متعارضين. كما أن هؤلاء يتجاهلون أن حالة الفوران الثوري ربما لم تنته بعد في مصر. وربما تكون هناك تفسيرات مختلفة لنزعة هؤلاء لاحتقار العمل الاحتجاجي. أولها هو أيضاً التمسك بنمطية لمفهوم فكرة الحركات الاحتجاجية، والنابع خاصة من الغرب. جوهر الفكرة أن الحركات الاجتماعية الكبرى مات وقتها ولا يمكن أن تكون هناك حركات اجتماعية إلا تلك المحلية وبأهداف صغيرة. وهذا التفكير أيضاً يتزامن مع فكرة سائدة بين بعض محللين الحركات الاجتماعية الذين يفصلون بينها وبين الثورات فصلا تاماً. وهنا يقول بعض الليبراليين الامبرياليين بما أن الثورة انتهت فلا مجال لطرح قضايا كبرى عن طريق الاحتجاج. والثورة هي عمل استثنائي لا يتكرر يتحقق بتوافر ظروف معينة، ومنها الخيال والرغبة في التغيير الجامحين! اليس من حق المصريين استمرار جموح خيالهم حتى الوصول الى التغيير الحقيقي المنشود! أما التفسير الثاني فهو الأساس الكولونيالي/العنصري لطريقة تفكير بعض هؤلاء المحللين الغربيين. فيتندر هؤلاء ـ مثلهم مثل بعض المحللين المصريين ـ بالاحتجاج  السلمي الرائع للمصريين في الثماني عشرة يوماً الشهيرة. ينسى هؤلاء عنف الدولة أو خيانة العملية السياسية للناس، بينما يتحدثون عن  المصريين غير العقلانيين  الذين توقفوا عن الطريق السلمي وبدأوا في نهج طريق الاحتجاج العنيف الفاشل. ويرى هؤلاء أن الاحتجاج العنيف هو احتجاج غير المتحضرين! وهذا هو منطقهم ربما: الثورة المصرية (إذا وافقوا على هذا الوصف) كانت رائعة لأنها سلمية ومتحضرة ولم تؤد إلى انفلات مصر بعيداً عن الغرب. والاحتجاج غير المضمون العواقب هو اسلوب خطير يهدد اساس الاوضاع السائدة القائمة. 

وكلام هؤلاء عن العنف بالغ الدلالة. ففي الفترة الاخيرة مثلاً تصاعد العنف منذ الإعلان الدستوري الديكتاتوري الذي أصدره الرئيس مرسي في نوفمبر الماضي. و لا يناقش هؤلاء كثيراً أسباب العنف والسياق السياسي والاجتماعي الذي حدث فيه. لكنهم يكتبون كثيراً عن الصورة السلمية الجميلة التي ماتت ومقارنتها بالمنظر الدموي البائس الحالي. ويستغرقون وقتاً طويلاً في الكتابة وبالبحث عن مواقف القوى السياسية والنظام من إدانة العنف. ويتكلمون كثيراً عن مسألة المعايير المزدوجة وكيف تدين المعارضة العنف ولا يدينها النظام أو بالعكس. وكأنها مباراة في الإدانة. تسيطر المواقف الأخلاقية الأحادية المجردة على تفكيرهم. والسخيف والطريف معاً أنهم يتحدثون عن عنف النظام وعنف المتظاهرين وكأنهم يتساوون، ويساوون بين إلقاء الطوب والقتل بالرصاص الحي!

رابعاً: النظرة المبسطة للإسلام السياسي

ويلاحظ أيضاً على ما أسميه بالليبراليين الإمبرياليين أن لديهم نظرة مبسطة لتيار الإسلام السياسي. والمقصود هنا هو طغيان نظرة أحادية البعد وغير معقدة لتيار الإسلام السياسي. وقد سادت هذه التحليلات قبل وأثناء وبعد أحداث الثورة المصرية، والتي أراها كما يراها البعض بثورة غير مكتملة. ومن الأمثلة التي تؤيد زعمي هذا سيادة الفكرة الواحدة في كلام عن تيار الاسلام السياسي مثل وصفه بالفاشل أو الناجح أو المعتدل. ومن التفسيرات التي أراها مفيدة هنا لسيادة هذا التفسير المبسط أن كلاً من تيار الإسلام السياسي والليبراليين لديهم طريقة تفكير أحادية البعد لفهم العالم. فالإسلاميين موضوع دراسي بحثي مريح لبعض هؤلاء. والإسلاميون من جهة يقسمون العالم إلى تقسيم ثنائي مبسط هو مسلم/غير مسلم، شرق/غرب، خَيّر/شرير. وفي جوهر مشروعهم صراع محموم على الهوية ومواجهة مستمرة مع الغرب لإنقاذ الإسلام من الهجوم عليه والهدف هو إعادة إحياء مشروع الحضارة الاسلامية. أما الليبراليون فطريقة تفكيرهم تتمركز حول فكرة جوهرية أساسية واحدة هي الحرية، وخاصة الحرية الفردية. وبالطبع يتفاوت في ذلك الليبراليون السياسيون الذين يهتمون قبل كل شيء بفكرة الحرية الفردية، والاقتصاديون الذين يهتمون بتطرف بفكرة حرية السوق. وللإنصاف فإن هؤلاء الليبراليون لا يضعون الإسلاميين في سلة واحدة. لكن مع ذلك يسيطر على تفكيرهم ما يمكن تسميته بالتقسيم الكبير بين الإسلامي المعتدل والاسلامي غير المعتدل. ولهذا الأمر خلفية تاريخية هامة.

فمنذ أيام الحرب على الإرهاب ظهر نموذج فكري (باراديم) في العلوم الاجتماعية والإنسانية لدراسة الإسلام السياسي. كانت الفكرة السائدة في هذا الباراديم سيادة فكرة المسلم الطيب والمسلم الشرير، أو فلنقل المعتدل/غير المعتدل. فالاسلام السياسي هنا أما إرهابي أو غير إرهابي. وبغض النظر عن التبسيط المبتذل لهذا التقسيم وحجم التسييس الشديد له لم يتسائل الكثير من الباحثين عن أساس هذا التقسيم، ولا عن السر الذي يجعل منظمة اسلامية تحول مثلاً من إرهابية إلى معتدلة أو بالعكس بين عشية وضحاها. ولم يتساءل الكثير منهم عن سر التطابق الكبير بين تقسيمات هؤلاء الباحثين والتقسيمات الممثلة في قوائم الحكومات الغربية نفسها وأولها حكومة الولايات المتحدة نفسها. لا يذكر هؤلاء حجم الاموال الحكومية المخصصة للبحث العلمي المنحاز والذي أدى إلى سيادة هذا الباراديم. ولا يمكن أن ننكر أن هناك الكثير من الدراسات التاريخية والاجتماعية العميقة التي درست ظاهرة الإسلام السياسي في سياقاتها التاريخية والاقتصادية والسياسية العالمية والتي فندت هذا النموذج وسذاجته وشرحت كيفية ظهور تيار اإاسلام السياسي بمشاربه المختلفة في ظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة وارتباط ذلك بظروف اقليمية ودولية اختلفت من مكان لآخر. 

وتستحق مفردة ”معتدل“ فهماً خاصاً. فهي كلمة سياسية بامتياز، وهي ربما لا تعني شيئاً ربما فقط أن مجموعة بعينها غير متشددة. وفي واقع الأمر فإن كلمة معتدل لا تزيد عن كونها كلمة غطاء تخفي تحتها حقيقة السياسات الاقتصادية والسياسية لمجموعة ما. والأهم في نموذج المعتدل/غير المعتدل هو ما تخفيه الكلمة وليس ما تحمله من معنى. فالاعتدال والوسطية ربما تحمل معنى أنها أقرب من الفكر السائد (the mainstream). لكن الجوهر هنا هو أن مجموعة ما لا تهدد مصالح علاقات القوى السائدة. ويبدو أن الاسئلة الاهم التي اهتم بها هؤلاء هي فقط الالتزام بالمفاهيم السائدة للديمقراطية الغربية والالتزام بالسوق الحرة. وأضاف البعض بالطبع التزام جماعة الاخوان باتفاقية السلام مع اسرائيل.

وفور حدوث الثورات العربية وصعود الإسلاميين للسلطة في تونس ومصر مثلاً تسابق بعض الباحثين للإشادة بقدرة الاسلاميين المعتدلين العالية على التنظيم ونجاحهم في الانتخابات. وهم بالفعل يستحقون الاشادة. وفي ذات الوقت لم نر أي فهم مركب للظاهرة الاسلامية أكثر من الاستمرار في ذات التقسيم القديم ( معتدل/غير معتدل). وتمت إضافة تقسيم آخر هو التقسيم إلى ديمقراطي معادي لليبرالية ( مثلا الاخوان في مصر اعتبروهم كذلك) وغير ديمقراطي ومعادي لليبرالية ( مثلا معظم السلفيين اعتبروهم كذلك). لكن في ذات الوقت فقد أشاد هؤلاء المحللين وأبدوا اعجابهم واندهاشهم بهؤلاء السلفيين الذين قبلوا بقواعد اللعبة الديمقراطية وانشأوا أحزاباً للمشاركة في العملية السياسية. ولا يفوتنا هنا التنبيه على بساطة هذه التعريفات وسذاجتها. فمجرد إنشاء حزب والدخول في الانتخابات لا يعني أن فريقاً ما يؤمن بالديمقراطية. وقد ثبت بعد ذلك خطأ توصيفات هؤلاء وبساطتها. فقد ظهر أن الإخوان ليسوا ليبراليين فقط ولكنهم أيضا غير ديمقراطيين وتنافسوا مع النظام القديم في عدائهم للثورة. وفضلا عن الدستور الطائفي غير التوافقي الذي اصدروه، حافظوا على أجهزة القتل والتعذيب واستهدفوا الصحف والاعلاميين ونشطاء بعينهم. وقد وقعت الكثير من حوادث القتل لنشطاء بعينهم معروفين بعدائهم للاخوان. ووصف الاخوان بأنهم فشلة أو انهم غير أكفاء لادارة الديمقراطية هو وصف تقييمي مبسط وساذج لا يرى تعقيدات تركيبتهم الاجتماعية والسياسية بل والنفسية التي صنعت منهم تركيبة معينة اهتزت بالوجود في السلطة ولم تر غير التشبث بالسلطوية والقمع كطريق وحيد لتنفيذ مشروعهم. توصيفات المحللين التقييمية الساذجة لا تفهم تعقيد الإخوان. واللافت للنظر هنا أن هؤلاء المحللين  ـ الذين يمكن وصف فهمهم بالسذاجة البراجماتية الليبرالية للاسلام السياسي ـ يختلفون عن اليمين الاكاديمي والبحثي المحافظ والذي يتسق مع نفسه في كونه كارها للاسلام والمسلمين وفقط. ولا اقول هنا ان الليبراليين المصريين افضل حالا في فهم الاخوان. فالكثير منهم على درجة من البساطة والسذاجة التي تجعلهم مجرد كارهين للاسلام مثلهم مثل اليمين الغربي المحافظ. لم يحاول الا القلائل من المحللين الجادين في الغرب فهم اثر السلطة على الاسلاميين. لكن معظم الكثير من المحللين استمروا في ترديد عبارات الفشل وعدم الكفاءة لوصف الاسلاميين. والطريف انه في البداية اصر بعض هؤلاء على ان الاخوان ديمقراطيون وكل مشكلتهم هي انهم معادين لبعض الحريات الليبريالية. وفجأة ظهر لهم سذاجة تحليلاتهم وبدأو في ترديد اسطوانة الفشل وعدم الكفاءة.  ولا اطالب هؤلاء بتبني استنتاج عام بسيط حول عدم ديمقراطية الاخوان بدون فهم او شرح كيف يحدث هذا. فالسؤال والتعميم نفسه شبيه بمقولات اليمين الاكاديمي المحافظ الكاره للاسلام والذي لم يكف عن ترديد سؤال علاقة الاسلام بالديمقراطية منذ عشرات السنين. والموضوع هنا ليس فقط فهم وتحليل عقائدي ولكن الأمر لا يصلح فيه تعميم ولكن فهم من حالة لحالة. ومن بين هؤلاء الليبراليون الامبرياليون من قالوا بكل استعلاء ان المصريين لديهم مشكلة كبيرة مع فكرة العلمانية. وربما يكون هذا صحيح ولو به تبسيط مخل. لكنهم يقولوون بكل استعلائية كولونيالية: ليس لدى المصريين مفر من ان يختاروا اي نموذج علماني ناجح في الغرب وتبنيه في طريقهم لتحجيم او التخلص من المشروع الاسلامي. 

واللافت للنظر ايضاً ان كثير من هؤلاء المحللين استراح لتقسيم في منتهي السذاجة والايديولوجية المسيسة هو تقسيم مصر الى تيار علماني/مدني وتيار اسلامي. وهذا بالضبط التقسيم الذي تبناه الاسلاميون في مصر منذ الثورة. وفضلا عن سذاجة وبساطة هذا التقسيم وترسيخه لهذا الاستقطاب، فهو يخفي امور كثيرة اعقد واهم لفهم المجتمع المصري بعد الثورة. فاين النقابات العمالية والاقتصاد والحقوق المؤجلة مثلا من هذا التقسيم. ومن ملامح التفكير المبسط وغير النقدي للاسلام السياسي عند الكثير من المحللين الليبراليين المهمتمين بمصر الاستدلال على ان الاسلاميين يتبنون اقتصاد السوق كدليل على ديمقراطيتهم. ولا ندري ما هي علاقة اقتصاد السوق بالديمقراطية، غير ان تبني اقتصاد السوق، وربما في حالته المتطرفة ايضاً، هو شرط لرضاء الديمقراطيات الغربية على دولة ما في ما يمكن تسميته مجازاً بدولة عالم ثالثية. بعضهم يتحدث ايضاً عن ان الاسلاميون سوف يزاوجون بين ما يرونه اقتصاد اسلامي والاقتصاد الغربي المعروف. لكن فهم هؤلاء دائما للمسألة الاقتصادية لا يتجاوز الاعلان العقائدي لمجموعة ما. القليل من هؤلاء قام بعمل تشريح طبقي لجماعة الاخوان مثلاً وعلاقة تبنيهم للنموذج الليبرالي المتطرف، ذو المنحى التجاري المحض، بسيطرة رأسماليو الاخوان الكبار على الجماعة واجندتهم الاقتصادية. ولم نر دراسات او كلاما عميقا عن علاقة فكر الاخوان الاقتصادي باجندتهم تجاه مسألة حرية النقابات. والملاحظ ان الاخوان ارادوا احياء النظام المباركي بحذافيره بشأن حرية النقابات وتدخل الدولة في شئون النقابات!

والخلاصة أن صعود وسيطرة الإسلاميين القويين في الساحة السياسية بعد الثورة أراح الكثير من المحللين الذين لجأوا للحلول الجاهزة والتحليل البسيط (المسيس) والمتمثل في استدعاء باراديم الحرب على الإرهاب. وربما يكون أداء الاسلاميين الفاشل قد ساعدهم أكثر في إظهار كل ما في جعبة الكثير من المحللين من أدوات تحليل وطريقة الفهم الاستشراقية للعالم العربي والاسلامي. فقد أظهر الاسلاميون في السلطة عداءهم لحقوق المرأة وحقوق الاقليات الدينية، بل وتسامحوا مع الاغتصاب المنهجي للبنات في قلب ميدان التحرير وهو ما لم يفعله نظام مبارك، وتسامحوا ولم يتخذوا أي موقف تجاه حرق دور العبادة للمسيحيين، مثلهم مثل المجلس العسكري.  لكن لم يقدم هؤلاء أي تحليل معقد لفهم الإسلاميين، وخاصة بعد الوصول للسلطة. وقد قال بعضهم مثلا إننا نخاف من أن ننتقد الاسلاميين بعنف لكي لا نتهم بأننا كارهون للاسلام. وكأن المطلوب منهم هو الهجوم على الإسلاميين او الدفاع عنهم. 

خامساً: الثورة المصرية لا علاقة لها بالامبريالية!

يمكن القول إنه من السذاجة المفرطة افتراض أن حدوث ثورة ما أمر تتحدد شروطه فقط بالعوامل الداخلية في دولة بعينها. فالثورات تحدث في محيط داخلي وإقليمي ودولي. وتتشابك هذه العوامل لـ "إنجاحها وإفشالها." ولا أتحدث هنا عن حدوث الثورة فقط ولكن عن أهمية العامل الدولي في المسار الثوري ككل. ولذلك فالقول إن مسببات الثورة المصرية مثلاً هي الفقر والفساد والتعذيب وفقط وتجاهل علاقة هذه الأمور بالسياسات النيوليبرالية الجديدة هو جهل وكذب وتدليس! وتجاهل العامل الدولي في فهم الثورة المصرية هو خطأ جسيم. والخطأ الآخر ليس تجاهل العامل الدولي بصفة عامة ولكن تجاهل أهمية العلاقة المصرية الامريكية فيما يتعلق بالثورة المصرية ومساراتها على وجه التحديد. 

والجدير بالذكر أن هذا الخطأ الأول الجسيم قد تجاوزه الزمن والمنطق. ودراسات علم الاجتماع السياسي الكلاسيكية عن الثورات تناولت أهمية العامل الدولي في حدوث الثورات. وتطورت هذه الدراسات للتفرقة بين المناخ الدولي المواتي أو المناهض لثورة بعينها. وهناك دراسات تاريخية عن دور القوى العظمي في اجهاض ثورات بعينها. وأنا من بين هؤلاء الذين يرون ضرورة فهم كل حالة على حدة، وأن هذا العامل معقد، فلا يمكن ببساطة أن نقول إن العامل الدولي اما مواتي أو مناهض. ولكن ربما يكون مواتياً ويتغير مع الوقت. وفي عبارة بليغة عبر الأكاديمي الإيرلندي اليساري فريد هاليدي ( في كتابه ”الثورة وسياسة العالم ”المنشور عام 1999، ص، 261) قال فيها إن علاقة السياسة الدولية والقوى الدولية بأي ثورة هي علاقة متناقضة بطبيعتها.  وفي بعض الحالات يمكن أن نجد أن القوى الدولية "من جهة تسعى فوراً لتأييد الحالة الثورية وراديكاليتها في المدى القصير، لكنها تحاول أن تخترقها بعد ذلك بحيث تقودها إلى أن تتوافق مع القيم والأعراف السائدة الدولية على المدى البعيد." هذا ينطبق على القوى الدولية بصفة عامة فما بالنا والإمبريالية الأمريكية إذا تعلق الأمر بمصر! وهذا ما حدث بالضبط، أي أن الولايات المتحدة سرعان ما أعلنت تأييدها للثورة المصرية، بعد تردد، وفي ذات الوقت كانت تقوم بالتنسيق مع الركن الركين في علاقتها بمصر، ألا وهو المؤسسة العسكرية. كما لم تتوقف مشاوراتها مع الاخوان المسلمين بوصفهم أكبر قوة تنظيمية معروفة على السطح في مصر.

والليبراليون الامبرياليون يرتكبون كلا من الخطأين السالف الاشارة لهما أو يتصرفون بانتهازية وبراجماتية بحيث يتبنون جزء منالأول ويرتكبون الخطأ الثاني. فمثلا يمكن أن يقول بعضهم إن أموال بعض الدول الخليجية قد ساهمت في علو صوت الاسلاميين بسبب الدعم المالي الذي جاء لهم ولا يتحدثون عن الدعم الأمريكي. أو يتحدثون عن الدعم الامريكي بوصفه دعماً للثورة فحسب وليس بوصفه دعماً لمسار معين للديمقراطية المشروطة. والطريف أنه بينما يلومون الجيش والإخوان والنخبة على المسار الديمقراطي الفاشل، وينكرون أي دور للولايات المتحدة في المسار المتعثر، يقول بعضهم بكل فخر: لقد ساعدنا المصريين في ثورتهم ضد مبارك، ولن نتدخل الآن فهذه مشكلتهم مع ديمقراطيتهم الفاشلة! وكأن المطلوب منهم فقط دائماً هو التدخل للانقاذ! وبينما ينكر بعضهم أهمية ومسؤولية العامل الامبريالي في إجهاض الثورة يتحدثون عن المساعدات، ويقولون يجب أن نظهر لحلفائنا الجدد  المزيد من "الحب الصارم" (  tough love). كيف تتحدثون عن مشروطية المساعدات وتنكرون التدخل الامبريالي؟

كيف لهؤلاء أن ينكروا مدى أهمية العلاقات المصرية الأمريكية في الثورة المصرية وكانت مصر في ظل مبارك من أهم الانظمة على الإطلاق في المنطقة للمصالح الامريكية! ولو افترضنا جدلاً أن الثورة المصرية لم يكن من بين اسبابها الثورة ضد عمالة مبارك للولايات المتحدة وكون نظامه ممثلاً لسياسات النيوليبرالية الجديدة، هل يمكن أن ينكر أي منصف أهمية دور الولايات المتحدة في لعب دور رئيسي في المسار  ـ العملية السياسية التي اجهضت الثورة ـ الذي أخذته الثورة بعد ذلك؟ كيف يمكن إنكار ذلك خاصة وأن المؤسسة العسكرية التي أدارت المرحلة الانتقالية هي العمود الفقري للعلاقة المصرية الامريكية؟

هل يمكن أن ينكر أحد أن كلاً من المؤسسة العسكرية المصرية وجماعة الإخوان المسلمين والإدارة الامريكية كان لديهم مفهوم معين لديمقراطية مشروطة  ـ على أحسن تقدير ـ في مصر؟ فالمؤسسة العسكرية أرادت ديمقراطية بشرط  ألا تهدد مصالحها الاقتصادية، وجماعة الاخوان بدا أنه لديها وهم حول مشروع الاخوان لأستاذية العالم واستعادة الخلافة الاسلامية، أما الولايات المتحدة فارادت ديمقراطية لا تهدد العلاقات المصرية الامريكية والمصالح الامريكية في المنطقة. باختصار يمكن القول إنه كان هناك تلاقي مصالح حول التحكم في مسار الثورة المصرية (إن لم يكن إجهاضها لصالح ديمقراطية شكلية!). وفي هذا السياق لماذا لم نر تحليلاً نقدياً لمفهوم التحول المنظم (orderly transition) الذي نادت به الإدارة الأمريكية في مصر والذي جاء على لسان وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون أكثر من مرة في الأيام الأولى لما بعد تنحي مبارك! ولا أقول هنا إنه كان هناك تطابق تام بين مصالح المؤسسة العسكرية المصرية وجماعة الإخوان المسلمين والإدارة الأمريكية طوال الوقت. فهذا أمر يخلو من أي منطق. بالعكس لقد حدثت توترات وخلافات في الطريق حول الكثير من الأمور، ومن أهمها مثلاً موقع المؤسسة العسكرية في الدستور الجديد، أو الخلافات التي حدثت في الطريق حول تسليم السلطة للرئيس المنتخب. ولا أقول إن عامل العلاقة بالإمبريالية الأمريكية هو العامل الوحيد أو الحاسم والذي تحكم في المسار المتعثر للثورة المصرية. فهذا بالضبط  المقابل الساذج لتفكير الإمبرياليين الذين ينكرون وجوده تماماً. لكن هذا عامل هام لا يمكن إنكاره. والطريف أن معظم الاسلاميين والليبراليين في مصر يشتركون مع هؤلاء الكتاب في استبعاد العامل الامبريالي في فهم الثورة المصرية. 

لم نر أياً من المحللين الليبراليين الإمبرياليين يناقش بجدية مسألة لقاءات الإخوان بالادارة الامريكية في واشنطن وفي مصر وتعهدات الإخوان لها، وخاصة تعهدهم مثلاً بعدم طرح تعديل اتفاقية كامب ديفيد للاستفتاء على الشعب المصري! اليست المحددات الأمريكية الثلاث للعلاقة مع مصر، والتي تعلنها الإدارة الامريكية ليل نهار، مسألة جوهرية في العلاقة مع الطرفين الأساسيين الذين استهدفا الثورة والديمقراطية في مصر: أي الجيش والإخوان. هذه المحددات هي: عدم المساس باتفاقية كامب ديفيد، الاحتفاظ بالعلاقة الوثيقة مع المؤسسة العسكرية المصرية، والاستمرار في انتهاج سياسات السوق الحر! 

وأذكر أنني دخلت في حوار على تويتر مع أحد الباحثين المعروفين في العلوم السياسية  من المختصين بشؤون الشرق الاوسط. وبدأ الحوار بتهكمه من النشطاء المصريين. وكان ذلك في سياق أزمة قضية المنظمات غير الحكومية أيام حكم المجلس العسكري. وقال متهكماً ما دليل هؤلاء المدونون المصريون المؤمنون بنظرية المؤامرة على أن هذه القضية لعبة بين المجلس العسكري والولايات المتحدة. وقلت له إن كونهم متشكيين في أبعاد القضية لا يعني أنهم كلهم يؤمنون بالمؤامرة. وفي وقت لاحق بعد تهريب النشطاء الأمريكان بطائرة عسكرية أمريكية قلت له ما رأيك، ألم يكن لدى النشطاء المصريين حق في تشككهم؟ ولم يرد علي. والمسألة هنا ليست فقط في تفصيلية هذه القصة وموضوعها، ولكن الأمر الذي قصدته هو إصرار الكثير من الباحثين على تجاهل تورط حكومتهم في إجهاض الثورة. فيقول هؤلاء إن كل من السلطة والمعارضة فشلتا في خلق مناخ ديمقراطي صحي وفعال، لكنهم يتجاهلون الدعم الدولي المادي والمعنوي الذي قدمته حكوماتهم لهذا المسار الفاشل، يتجاهلون شحن أسلحة القمع في وقت قصير وفي أيام المعارك بين الأجهزة القمعية والمتظاهرين. صحيح أن الولايات المتحدة بدأت تتململ من فشل السلطة الاخوانية في كبح جماح الثورة وصنع استقرار. لكن هذا التململ فقط بسبب عدم قدرتهم على السيطرة أكثر من كل شيء وليس بسبب خيانتهم للثورة وغدرهم بالديمقراطية. يقول بعض هؤلاء هل تلوموننا على اختياركم؟ لقد جاء الاخوان بالديمقراطية؟ ويتجاهل هؤلاء أسلحة القمع والدعم المعنوي لنظام الإخوان من قبل الادارة الامريكية. ومرة أخرى أنا لا اقول هنا أبداً أن هذا العامل الامبريالي عامل جوهري وحاسم في التحكم في المسار الثوري. ولا أنكر أبداً أن هناك الكثير من الأخطاء التي ارتبكها ثوار مصر في كافة مراحل الثورة. لكن إنكار العامل الامبريالي في الثورة ليس سوى جهل أو تواطؤ! أقول لليبراليين الامبرياليين اخرسوا قليلاً. اتركونا لوحدنا ولثورتنا، ولعدم عقلانيتنا. ولكن توقفوا عن دعم وتأييد وتبرير من يقتلوننا ويقتلون ثورتنا!

[نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة "المصري اليوم"]

بعض المراجع المذكورة والقراءات المقترحة:


Viewing all articles
Browse latest Browse all 5217

Trending Articles