يدفع هذا المقال بأن ثمة شواهد عدة تشير إلى أن النظام السياسي الذي سعى الإخوان المسلمون لإنشائه في غضون السنة الماضية يحمل بالفعل بعض ملامح النظم الفاشية، وهو بالقطع نظام سلطوي، وأن الحراك الشعبي من جهة، وتحرك أجهزة الدولة خاصة أدوات القمع من شرطة وجيش في مواجهته من جهة أخرى، قد أجهض محاولة تثبيت دعائم هذا النظام الذي كان منتظراً أن يهيمن عليه الإخوان المسلمون. بيد أن هذا الحراك ليس بالضرورة ديمقراطياً أو معادياً للسلطوية بقدر ما أنه أتى ليعكس مخاوف قطاعات جماهيرية واسعة في المجتمع المصري، وأخرى داخل جهاز الدولة من إنشاء سلطوية جديدة (بملامح فاشية دينية) تحت سيطرة جماعة الإخوان، وهو ما يعني أنه قد تكون هناك قابلية لدى ذات هذه القواعد لتقبل نظام سلطوي أو ديمقراطي خاضع للوصاية العسكرية في المستقبل. وفي الوقت ذاته يرى المقال أن امتداد الصراع الحالي بين قوى الثلاثين من يونيو وجماعة الإخوان واحتمالات تحوله لأشكال صدام أشد عنفاً يحمل في طياته مخاطر ظهور حركة ذات ملامح فاشية وطنية هذه المرة، والتأسيس لنظام سلطوي جديد بهذه الملامح بالفعل، ومن ثم بالإمكان توصيف المشهد المصري في جانب منه على الأقل بأنه فاشية مجهضة وفاشية محتملة.
ماذا يقصد بالفاشية؟ وما جدوى استدعائها للمشهد السياسي الجاري؟
إن الفاشية تجربة سياسية خاضها عدد من بلدان أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين، ومن هنا فالفاشية هي أيديولوجية من ناحية، وتجربة تاريخية لحركة سياسية ونظم سياسية أسستها تلك الحركات، وكما قدر خوان لينز فإن إيطاليا، والحركة الفاشية بها تمثل النموذج أو المثال الذي تقاس عليه التجارب اللاحقة عليه، لأن إيطاليا هي مهد الحركة الفاشية كحركة سياسية واعية بذاتها، وهي أولى البلدان التي تأسس بها نظام فاشي(1).
يرى لينز في دراسته(2) للظاهرة الفاشية أن التجربة هذه تنتمي قلباً وقالباً لحقبتها السابقة على الحرب العالمية الثانية، التي شهدت الهزيمة المادية والأيديولوجية للفاشية، وأن الفاشية كنظام سياسي يقوم على العداء للديمقراطية والاشتراكية (والحركة العمالية خاصة) وعلى صياغات قومية أو دينية متشددة لا يمكن خلطه مع أشكال السلطويات المتعددة والمتنوعة، لأن الفاشية ظاهرة نادرة نسبيا كونها مرتبطة بالشمولية (التوتاليتارية)، وهذه بدورها بنت حقبة تاريخية معينة نحن اليوم أبعد ما نكون عنها سواء من حيث الهيمنة الأيديولوجية لمفردات الليبرالية من الديمقراطية التمثيلية وحقوق الإنسان أو من السياق الاقتصادي والسياسي العالمي الذي لم يعد ممكنا فيه ظهور دولة شمولية (باستثناء تجارب متحفية ككوريا الشمالية). ورغم هذا فالفاشية عند لينز ظاهرة مهمة على المستوى السياسي، وتستحق الدراسة حتى في سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة، والأمر هنا راجع إلى ما يسميه لينز بملامح الفاشية التي قد توجد في بعض النظم رغم عدم اكتمال باقي العناصر التي يمكن بها وصف نظام سياسي ما بالفاشية. ويقدم خوان لينز هنا تشبيها مثيرا فيقول إن وجود تيجان الأعمدة الرومانية في الكنائس والمساجد لا يعني أن هناك معابد رومانية بل يشير فحسب إلى وجود ملامح لمعابد رومانية في أبنية مختلفة عنها تمام الاختلاف، لذا فقد يوجد نظام سياسي يحمل ملامح الفاشية ولا يكون فاشيا بالكامل. ولعل هذه النقطة هي المدخل الذي يحملنا إلى استخدام المفهوم والمصطلح لتوصيف تجربة الإخوان المسلمين القصيرة في مصر. هل حمل نظامهم السياسي المزمع ملامح فاشية؟
للإجابة على هذا السؤال ينبغي الوقوف أولا، وباختصار على أهم مقومات الفاشية رجوعاً لتجاربها في فترة ما بين الحربين في أوروبا. يمكن القول أن الحركة الفاشية كانت حركة تلتمس أدوات التعبئة والحشد والتنظيم الاشتراكي لضرب الاشتراكية نفسها والقضاء على الحركة العمالية، لذا فليس من قبيل المبالغة القول بأن الفاشية هي ثورة ضد الثورة، هي ثورة محافظة إن جاز التعبير بالتماس المجموعات والطبقات المعادية للديمقراطية وللاشتراكية لأدوات الثورة لإجهاض ما تراه ثورة اجتماعية محتملة أو قيد التحقق. كان السياق الأوروبي وقتذاك لحركة عمالية/اشتراكية تحمل مطالب لتعميق المجال السياسي بإدخال فئات اجتماعية جديدة إليه كمواطنين خاصة العمال والفلاحين، وتطالب بتوزيع أوسع للحقوق السياسية والاقتصادية فخرجت الحركة الفاشية كحركة جماهيرية غرضها الأول هو تقويض الحركة الشعبية في المجال العام بشكل مادي من خلال حرق وتدمير المقار الحزبية والنقابية، وفض الاضرابات والاعتصامات ومهاجمة التظاهرات وصولاً إلى اغتيال أو إنزال الإيذاء البدني بقادة وممثلي الحركة النقابية والاشتراكية.
أما الهدف الثاني للحركة الفاشية فكان تقويض أسس النظام السياسي البرلماني، والاستيلاء على أدوات الدولة القمعية من شرطة وجيش وقضاء، وعلى موارد الدولة للتأسيس لنظام سياسي يصادر السياسة ويشيع الإرهاب ويتم مهمة سحق الحركة الشعبية الديمقراطية. إن الخلاصة هي أن جوهر الفاشية هو حركة محافظة اختارت الثورية كأداة لتقضي على الثورة ذاتها.
نظام الإخوان كمشروع فاشي مجهض؟
رجوعاً لسؤالنا الرئيسي هل توافرت ملامح فاشية في النظام السياسي الذي شرع الإخوان في بنائه في حكم مرسي القصير بما يجعل الإطاحة به وبجماعته إجهاض لفاشية قيد البناء؟ ليس ثم شك في أن الإخوان المسلمين ـ أكبر تنظيم سياسي مدني في مصر بعد ثورة يناير ٢٠١١ ـ لم يسعوا إلى تكوين تحالف ديمقراطي بعد الإطاحة بمبارك يضم القوى المجتمعية والسياسية التي شاركت في الثورة(3)، ورغبت في مواصلة النضال لتفكيك الدولة الأمنية والبنية السلطوية الموروثة من دولة يوليو بل يمكن القول أن إستراتيجية الإخوان في التأسيس لنظام سياسي يهيمنون عليه على المدى البعيد كانت تقف على قدمين اثنين:
الأولى هي إقامة نظام سياسي يقوم على آليات الديمقراطية الإجرائية من انتخابات واستفتاءات حرة، ولكن الاحتفاظ بالديمقراطية عند مستواها الإجرائي فحسب بما يبرر واقع الحال إقامة نظام سلطوي منتخب أو ديمقراطية محافظة على حد توصيف عمرو عبد الرحمن(4)، ويقصد بهذا أن الإخوان لم يكونوا متسامحين مع إدخال أية تعديلات جذرية على علاقة الدولة المصرية التي ورثوها على سلطويتها واستبداديتها بالمجتمع، فلم تكن ثمة نية كما ظهر من جميع آليات التشريع التي امتلكها الإخوان إبان تأسيس نظامهم من مجلس شعب ثم مجلس شورى باختصاصات التشريع بعد حل الأول وفي الدستور بالطبع، لم يكن ثمة توجه لضمان الحريات والحقوق الأساسية لا النقابية منها ولا الخاصة بحرية الإعلام والتعبير ولا بالحق في الاحتجاج والتظاهر والإضراب ولا ما يخص بالمجتمع المدني ناهيك عن الموقف من الأقليات الدينية والنساء.
أما القدم الثانية التي قامت عليها إستراتيجية الإخوان فكانت إيجاد صيغ ما للتعايش وربما التحالف المتوتر مع الأجهزة الأمنية والأستخباراتية والجيش على رأسها، فما من شك أن محاولات الإخوان إرضاء أجهزة القمع الموروثة من دولة مبارك خلال المرحلة الانتقالية ثم خلال رئاسة مرسي تمثلت في تقديم كل الضمانات في دستور ٢٠١٢، وفي السكوت عن إعادة الهيكلة ناهيك عن المساءلة أو المحاسبة حول انتهاكات حدثت في عهد مبارك المديد وفي خلال المرحلة الانتقالية وفي خلال حكم مرسي.
يضاف لهذين الملمحين أن الإخوان المسلمين كنواة لنظام سياسي جديد ذي محتوى سلطوي مؤكد ـ وليس بالضرورة فاشيا ـ قد شرعوا في إقامة تحالف سياسي ـ بجانب تحالفهم المتوتر مع أجهزة الدولة القمعيةـ مع الكتلة الإسلامية التي تقع على يمينهم بشكل أساسي، وقد ظهرت هذه المساعي بجلاء بعد انتخابات مجلس الشعب في نوفمبر ٢٠١١، والتي شهدت قدراً محدوداً من انفتاح الإخوان على رموز ليبرالية وناصرية ومستقلة وضعتهم في المنتصف بين ما عرف بالقوى المدنية على يسارهم، والسلفيين على يمينهم، ولكن مع اشتداد الخلاف حول الدستور مع غير الإسلاميين بالأساس، والذي ظهر مع التشكيل الأول للجمعية التاسيسية التي نالها حل القضاء الإداري، أصبح سعي الإخوان واضحا في تكوين تحالفهم مع القوى الإسلامية، ومع انحسار شعبية الإخوان شيئا فشيئا في المراكز الحضرية، وفي شمال البلاد عامة أصبحت الحاجة للعودة لإدعاء تمثيل الإسلام السياسي ضرورة للبقاء في مقاعد الأغلبية النسبية، وهو ما ظهر بوضوح في كتاب الدستور، والذي جاء في التحليل الأخير ليرضي القوى الإسلامية المحافظة من سلفيين وأزهر من ناحية، والجيش من ناحية أخرى على حساب القوى الليبرالية والناصرية واليسار والائتلافات الثورية وممثلي المجتمع المدني والحركة النقابية المستقلة والمثقفين وممثلي حقوق النساء والقضاء.
كل ما سبق يشي بنوايا الإخوان السلطوية، وبتكوينهم الفعلي لتحالف سلطوي يجمع اليمين الديني والقلب الصلب ـ إذا جاز التعبير لدولة يوليو ـ . فهل من ملامح فاشية في نظام الإخوان الموؤد؟
ملامح ثلاثة لفاشية النظام الإخواني المجهض
يمكن الحديث عن ثلاثة ملامح رئيسية لفاشية نظام الإخوان المتردي إلى جانب سلطويته المثبتة:
الملمح الأول هو الدور الوظيفي الذي لعبه الإخوان والكتلة الإسلامية عامة في حصار واستنزاف وإجهاض الحركة الديمقراطية الثورية بعد الإطاحة بمبارك لصالح القوى المحافظة، فخلافاً لما يروج له البعض من أن الانقسام المبكر في صفوف القوى الوطنية على خلفية استفتاء مارس ٢٠١١ بين إسلاميين وغير إسلاميين هو المسؤول الأول عن تراجع أجندة الثورة في مواجهة المصالح المحافظة داخل دولة يوليو السلطوية فإن دور الإخوان في إجهاض المحتوى الديمقراطي للتحول السياسي كان واعياً، وكان جزءا أساسيا من إستراتيجية الجماعة في مرحلة ما بعد مبارك، فلا يمكن تفسير مدلول جمعتي قندهار الأولى والثانية التي خرج فيها الإسلاميون بقدهم وقديدهم لاحتلال ميدان التحرير إلا في ضوء التأكيد على تحالفهم مع الجيش (يا مشير أنت الأمير) بل بالترويج لأنفسهم باعتبارهم الطرف السياسي الأكثر شعبية والأشد تنظيما وحضوراً وبالتالي الأقدر على الاتفاق مع العسكر ـ حراس دولة يوليو أو ما تبقى منها ـ وكذلك في ضوء العداء الأيديولوجي الواضح لأي أجندة حرياتية أو حقوقية تعيد رسم العلاقات بين الدولة والمجتمع في مصر بعد الثورة. وقد استمر دور الإخوان هذا ـ والإسلاميين عامة ـ في ظل رئاسة مرسي، وفي محتوى القوانين والقرارات التي صدرت عنهم، والتي كانت دوما تخطب ود أجهزة الدولة القمعية، وتكرس لسلطوية على حساب الحريات والحقوق المأمولة بعد إسقاط نظام مبارك. وهو ما يضع ملمحا مبدئيا للفاشية في المعسكر الإسلامي بقيادة الإخوان، كونه يعبر عن حراك جماهيري ثوري الطابع ـ في شكله وأدواته ومفرداته ـ ولكن بمحتوى محافظ للغاية، ومع استدعاء كثيف للجماهير المحافظة هذه لإسباغ "الثورية" على مصادرة الحريات والحقوق والتكريس لسلطوية تحت قيادة جديدة، هي للإخوان.
أما الملمح الثاني للفاشية لدى نظام الإخوان الوئيد فهو المحتوى الأيديولوجي الشمولي الذي احتفظ به الإخوان في خطابهم لقواعدهم وللمتعاطفين معهم جنباً إلى جنب مع التركيز على آليات الديمقراطية التي أوصلتهم للحكم وخاصة الاقتراع. إذ أن الإخوان كحركة تنتمي في المقام الأول للفضاء الديني، ودورها السياسي يأتي أصلاً من خلال إدعائها تمثيل الإسلام السياسي في مجال السياسة، وبهدف الاستيلاء على دولة ما بعد الكولونيالية لأسلمة المجتمع، هذه الحركة لم تتبن الديمقراطية من خلال أية مراجعات فكرية أو من خلال تأصيل عقيدي أو فقهي بل ترك الأمر للنفعية البحتة، وللديمقراطية كانتخابات كوسيلة للوصول للسلطة، وتماشت رغبة الإخوان في الحفاظ على هويتهم السياسية "الإسلامية" بعد سقوط مبارك ورؤيتهم الإجرائية والضحلة للديمقراطية باعتبارها لا تحمل أي مكون حقوقي أو حرياتي بل تقتصر على آليات إنتاج سلطة ـ قد تكون هي ذاتها ديكتاتورية أو حتى شمولية ـ، وهو التناقض القديم بين الديمقراطية والليبرالية الذي فصله كارل شميت في نقده للديمقراطية الليبرالية في ثلاثينيات القرن الماضي، وللمتابع للتكتيكات التي أتبعها الإخوان منذ فبراير ٢٠١١ يجد أن ثمة استعمال انتهازي للغاية لمفاهيم كالثورة والديمقراطية والدولة المدنية ـ بمعنى نقيض الحكم العسكري ـ مع تطبيق الشريعة والدولة الإسلامية والحاكم الشرعي وقاموس المصطلحات القديم للإسلام السياسي.
وفي تصوري فإن مفهوم "الشرعية" الذي ظهر أول ما ظهر في أزمة الإعلان الدستوري يجسد المزج المدهش بين الديمقراطية الإجرائية ـ التمثيلية بالأساس ـ والأفكار الشمولية القديمة للإسلام السياسي الذي لا يزال يمثل الرصيد الوحيد للإخوان المسلمين بعد فشلهم في تكوين تحالف اجتماعي محافظ يضم اليمين بشكل عام وليس اليمين الديني فحسب، فالشرعية مفردة قريبة للغاية من الشريعة، وثمة جناس شبه تام بينهما، واستخدامهما يتم بشكل متبادل في خطابات الإخوان وحلفائهم لقواعدهم، التي لا تزال تحلم بدولة دينية، وفي الوقت نفسه الشرعية تشير إلى نتاج آليات الديمقراطية المجردة التي قد تنتج أية سلطة تمثل إرادة الشعب بما في ذلك القوى غير الديمقراطية ـ الديمقراطية كمحتوى وليس فحسب كانتخابات ـ، ولعل هذا يذكرنا بما نظر له كارل شميت في رسالته الشهيرة "في مفهوم السياسي" من أن الديمقراطية كنموذج هي تجسيد لإرادة الشعب العامة والمطلقة بلا قيد، ولذا فهي في صورتها الأثينية الأصيلة ـ نسبة لأثينا الإغريقية ـ لا تنتج سوى ديكتاتوريات تعبر عن الشعب مطلق الإرادة، وأن الديمقراطية الليبرالية هي نتاج مشوه ومشوش للجمع بين الديمقراطية كتعبير عن إرادة الشعب المطلقة، والليبرالية التي هي نقد للسلطة ذاتها لصالح حريات وحقوق الأفراد في مواجهة الملك والمجموع، وكان تصور شميت أن هذا التناقض المميت يمكن أن ينتج ديكتاتورا بين آن وآخر، بل إن الديكتاتور أصلاً كمصطلح أتى إلينا من الجمهورية الرومانية لقنصل مطلق السلطات ينتخبه مجلس الشيوخ، أي أن الديكتاتور بحكم التعريف منتخب بشكل ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعب!
لا شك أن حضور هذا المكون الشمولي ـ ولو على استحياء وبشكل انتهازي للغاية ـ يشي بوجود عناصر للفاشية في نظام الإخوان المجهض، خاصة وأن خوان لينز يرى أن الفاشية ليست فحسب ثورة مضادة أو تحالفاً محافظاً ورجعياً إنما هي عادة ذات مكون شمولي يماهي بين الشعب والدولة، ويصادر التعددية باسم تمثيل الجوهر الحق للشعب، ويثبت هذا العنصر الشمولي في خطاب الإخوان وفي تكتيكاتهم في رفضهم الإقرار لحق المعارضة في الوجود، ورد الاحتجاج السياسي والمعارضة باستمرار لخلافات هوياتية ووجودية بالقول إن معارضي الإخوان من فلول النظام السابق أو من البلطجية أو من العلمانيين والملحدين أو من الأقباط على نحو يماهي فعليا بين الدولة التي يحكمها الإخوان، والتي يفترض أنها في طريقها للأسلمة بفضلهم، وبين شعب مصر المسلم الذي لا يأتي في عداده بالطبع غير المسلمين دينا كالمسيحيين أو أيديولوجيا باعتبار أن الإسلام السياسي هو الإسلام وأن الإسلاميين هم المسلمون.
ومن المعروف أن الديمقراطية الإجرائية كانت مدخلاً للعديد من السلطويات، وللفاشيات كذلك ولعل الحالة المدرسية بالطبع هي حالة هتلر وألمانيا النازية، وكذا فوز الحزب الفاشي الإيطالي بالأغلبية البرلمانية في انتخابات ١٩٢٤ المقيدة بعد الانقلاب الناجح الذي قاده موسوليني، فقد كانت الديمقراطية الإجرائية عند الإسلاميين هي عنوان حكمهم السرمدي في ضوء تفوقهم التنظيمي من ناحية، وفي ضوء رأسمالهم الثقافي الكبير الذي كونوه من خلال أربعة عقود من أسلمة المجال العام في ظل رئاسة السادات ومبارك من ناحية أخرى، ولكن ليس ثمة ضمانات لتمسك الإخوان بآليات الديمقراطية الإجرائية أو بعقد انتخابات حرة في حال ما إذا كانت ستهدد حكمهم، ورغم أن هذا الحكم افتراضي إلا أنه يستند إلى واقعتين في ظل حكم مرسي الأولى هي استخدام أدوات الدولة لتمرير التصويت على دستور ٢٠١٢، وما ثار حول دعاوى التزوير في ظل غياب الإشراف القضائي، والثاني هو قانون مباشرة الحقوق السياسية وانتخابات مجلس الشعب الذي أعده مجلس الشورى إخواني الأغلبية، والذي أصر على توزيع غير متوازن للدوائر بما يزيد من حصة الصعيد والمحافظات الطرفية بحوالي سبعين مقعداً على حساب المدن الكبرى، التي وضح أنها معاقل مناهضة للإخوان، وهي وقائع تدلل على أن التزام الإخوان بالديمقراطية حتى كإجراءات كان متروكاً لنفعها بالنسبة لهم في تأمين وصولهم المتكرر للسلطة.
أما الملمح الثالث والأخير لمحتوى فاشي ما للنظام الإخواني الساقط فهو استدعاء أدوات القمع غير النظامية للسيطرة على المجال العام ضد الخصوم، وقد ظهر هذا بجلاء في استدعاء الجماهير "الإخوانية" أو "الإسلامية" المتكررة لدعم قرارات الرئيس المنتخب رغم ما يعنيه هذا من إضعاف البنى المؤسسية التي أقامها الإخوان أنفسهم من خلال آليات الاقتراع، وظهر كذلك في تقريب العناصر الإرهابية المتقاعدة كالجماعة الإسلامية وبقايا الجهاد الإسلامي، والعلاقات غير واضحة المعالم حتى اليوم، بين الإخوان والعناصر الجهادية بسيناء، كأدوات قمع بديلة عن الشرطة والجيش في ضوء عدم رغبتهما في لعب الدور القمعي مباشرة لصالح نظام الإخوان. على الرغم من أن حضور واستحضار هذه المجموعات شبه العسكرية في المشهد كداعم للسلطة الإخوانية في مواجهة الخصوم قد أتى نتيجة عدم تشديد قبضة الإخوان على الأجهزة الأمنية والعسكرية، إلا أن هذه المجموعات ليست غير نظامية فحسب مثل بلطجية الحزب الوطني، إنما هي عناصر تمثل حركة جماهيرية ذات مرجعية أيديولوجية تدافع عن الدولة، وكلها ملامح فاشية بامتياز.
كان المسار السياسي الذي سلكه الإخوان بالتأسيس لنظام يخضع لهيمنتهم على المدى البعيد بقواعد تأتي على حساب العديد من القوى السياسية والمجتمعية يفضي قطعا إلى اللجوء للمزيد من القمع، وكان عقب أخيل في هذه التجربة المبكرة هو تعقد صيغ التعايش مع أجهزة القمع الموروثة من عصر مبارك، والتي لم تنهر نتيجة لثورة يناير، إنما احتفظت بنفسها، وأعادت بناء قدراتها كما هو باد اليوم، وبالتالي لم يكن بمقدور الإخوان أن يستولوا على هذه الأجهزة بشكل فوري حتى تؤدي خدمات القمع لهم للتأسيس لسلطتهم، بل إن هذه الأجهزة كانت هي ذاتها مصدر تهديد ـ كما ثبت فيما بعد ـ لاستمرار حكم الإخوان نفسه، ومن هنا كان اللجوء لفكرة تجييش القواعد المنتمية للمشروع الإسلامي وللطائفة الإخوانية، خاصة وأن التنظيم ذاته مؤسسة شبه عسكرية بحكم جذورها الفاشية القديمة في الثلاثينيات من القرن الماضي ـ، ولا شك أن مصير أجهزة الأمن والجيش نفسه على المدى البعيد باعتبارها قوى غير موالية للإخوان أو على الأقل محايدة مصدر قلق واسع لأن كل الطرق كانت تؤدي لإخضاع هذه الأجهزة لحكم الطائفة إن آجلاً أم عاجلاً وحين توفر القدرة على ذلك. وهو ما قد يفسر ولو جزئياً سر تحرك الأجنحة العسكرية والأمنية والاستخباراتية ضد الإخوان في يونيو ٢٠١٣ رغم أنها قد أمنت كافة مكتسباتها المباشرة، ولكن الصراع كان مؤجلا، ويبدو أن الجميع كان مدركاً لهذا.
٣٠ يونيو والفاشية المحتملة
أتت تظاهرات ٣٠ يونيو وما تلاها من احتجاجات ضد الإخوان لتظهر الحضور القوى للعنصر الجماهيري، والذي لولاه لما كان ممكنا إتخاذ الجيش لقرار إقصاء مرسي عن السلطة. وخلافاً لمظاهرات يناير وفبراير ٢٠١١ حينما كان التركز في المدن الكبرى في شمال مصر فإن ٣٠ يونيو شهد خروجاً للريف، وتظاهرات في المراكز والمدن الصغيرة بالدلتا بجانب حراك مشهود في مدن الصعيد ضد حكم الإخوان، وقد كان هذا الخروج الجماهيري مصحوباً بالكثير من معالم العنف الذي يمكن وصفه بأنه ثوري -ـ ما لم يثبت العكس بالطبع فيما بعد ـ كونه كان تلقائياً من جهة، ومستهدفا لرموز السلطة من جهة أخرى، فنجد أن الجمهور المحتج على حكم مرسي قد صب جام غضبه على مقار الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة والأحزاب الصغيرة التابعة للإخوان كالوسط، وهو سلوك شبيه باستهداف مقار الحزب الوطني وأقسام الشرطة ثم مقار أمن الدولة في يناير وفبراير ٢٠١١ باعتبارها رموز السلطة، وبما أن تملك الإخوان لأجهزة الدولة لم يكن متحققاً بالكامل فإن رموز السلطة كانت في مقرات الجماعة، تعبيرا كذلك عن قناعة الجمهور المناهض للإخوان عن تركز السلطة خارج الدولة، وكون السلطة الحقيقية في مكتب الإرشاد.
وما لم يثبت فيما بعد أن استهداف المقار الإخوانية كان منظماً من قبل أمن الدولة أو أجهزة المخابرات كما يقول الإخوان، فإن هذا العنف يكون تلقائياً وجماهيرياً، ويكون شبيها بالعنف الثوري الذي تحدث عن سوريل مطولاً باعتباره الأفعال الخارقة للقانون التي تستهدف تحطيم رموز السلطة، بغض النظر بالطبع عن كون هذه السلطة منتخبة من عدمه. وأما إن كان صحيحاً أن جزءاً من هذا العنف موجهاً بالفعل من مجموعات تتبع الأمن كالبلطجية المأجورين على سبيل المثال أو عناصر أمنية متخفية فيكون الأمر ساعتها بالفعل أقرب لتكتيكات الحركة الفاشية، على مستوى التكتيك على الأقل حيث تقوم أجهزة الدولة بدعم تشكيلات أهلية أو بتوجيه الحركة الجماهيرية ضد خصومها لمحو تمثيلهم في المجال العام، وقد كان الوضع كذلك في إيطاليا إبان صعود الحركة الفاشية (١٩١٩-ـ١٩٢٢) فيقدم أنجيللو تاسكا في كتابه الضخم "ميلاد وصعود الفاشية" وصفاً دقيقاً ومفصلاً للحركة الفاشية باعتبارها حركة أهلية بدأت في الريف وانتقلت إلى المدن في شمال إيطاليا ووسطها فيما بعد، وشهدت تشكيلات شبه عسكرية مدعومة بشكل غير معلن وفي بعض الاحيان غير مخطط له من السلطة الحاكمة، من الجيش والشرطة المحلية التي كانت تحوي عناصر متعاطفة مع الحراك المعادي للاشتراكية وللشيوعية وللحركة النقابية العمالية بشكل عام، ويخلص تاسكا إلى أنه لولا مساندة الجهاز البيروقراطي للحركة الفاشية، ومدها بالسلاح والعتاد والخبرة التنظيمية للتشكيلات شبه العسكرية لما تمكن الفاشيون من إنزال كل هذه الخسائر بالحركة الاشتراكية على اتساع أطيافها، رغم أنها كانت صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان الإيطالي، وكانت صاحبة الوجود الأشد انتشارا في الريف وفي المدن مقارنة بالحركة الفاشية التي كانت صغيرة حجما مقارنة بخصومها اليساريين على تنوع مشاربهم.
على أن التشابه الشكلي بين ميليشيات أو مجموعات أهلية مدعومة من الدولة والتشكيلات الفاشية لا يعني بالضرورة أن مصر بصدد سيناريو فاشي لأن مجموعات البلطجية المأجورين من الشرطة (السياسية أو السرية) لا ترقى لمستوى التصنيف كحركة سياسية ـ ناهيك عن كونها جماهيرية ـ في المقام الأول، بل هي أقرب لتوظيف الدولة لظواهر إجرامية لعدم قدرتها على توظيف أجهزة القمع الرسمية لديها لإتمام مهام قمع الخصوم، وقد كان هذا هو الوضع مع الحزب الوطني، وبلطجية الأقسام المحسوبين عليه،والذي كان يجري استخدامهم لتزوير الانتخابات، ثم جرى جمعهم في موقعة الجمل كأقصى ما يمكن تحصيله من استخدام المجرمين الجنائيين لتحقيق مهام سياسية على الأرض. بيد أنه شتان الفارق بين مجرمين مأجورين يستخدمون لأغراض سياسية، وتنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية مكونة من مدنيين منتمين لأيديولوجيا أو فكر سياسي أو اجتماعي معين كحال التنظيمات الفاشية في النصف الأول من القرن العشرين، حتى ولو كان الاثنان مدعومين من الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، وهنا مربط الفرس فليس في مصر حركة فاشية مناهضة للحركة الإسلامية، ولا يمكن اختزال الحراك الجماهيري شديد الضخامة الذي وقع في الثلاثين من يونيو، ولو كان ضمن مطالبه القيام بانقلاب عسكري ضد رئيس منتخب، لا يمكن اختزاله في صورة حركة فاشية لأن غالب الحراك كان سلميا، والعنف كان هامشيا. بل إن وصف الحركة الفاشية بمعنى تنظيم شبه عسكري يضم منتمين على أساس أيديولوجي داعم للسلطة ضد المعارضين ينطبق أكثر ما ينطبق على الإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً في السنة الوحيدة التي حكم خلالها محمد مرسي وإخوانه، وهي المسألة التي سبقت مناقشتها.
إذن فإن توصيف الحركة المناهضة للإخوان ولحكمهم سواء من جانب الدولة أو من جانب الجمهور على أنها ضرب من الفاشية هو أمر بعيد كل البعد عن الدقة لاستخدام وتوظيف مصطلح كالفاشية بما تحمله من إشارة لفترة زمنية ولتجارب في تاريخ ما بين الحربين العالميتين، قد يصدق وصف الانقلاب العسكري على إزاحة مرسي، ويصبح الحراك الجماهيري مجرد سياق سياسي للانقلاب باعتباره عنواناً للانقسام الشعبي، أو لسقوط شرعية مرسي بشكل مبكر، أو لفشل النظام الديمقراطي إجرائيا في استيعاب الصراع الاجتماعي والسياسي، وقد يثبت فيما بعد أن الأجهزة الاستخباراتية والجيش قد استثمروا استثماراً في تعثر حكم الإخوان، وفي تصاعد المعارضة ضدهم، وفي فقدانهم للشعبية، وفاقموا من مشكلات الحكم لدى الإخوان بعدم تعاون جهاز الدولة معهم على المستويات المركزية والمحلية، ولكن هذا كله لا يجعل الحراك الجماهيري تجسيدا لحركة فاشية بأي حال من الأحوال، ولو كان المطلب هو عودة الجيش للحكم، ولو كان المطلب هو إزالة الديمقراطية الإجرائية، وإقامة سلطوية عسكرية بشكل مباشر أو غير مباشر، فهذا كله يندرج تحت بند السلطوية لا الفاشية.
في تصاعد الأحداث إلى ٣٠ يونيو، شهدت قرى ومدن الدلتا خاصة اشتباكات عنيفة بين المنتمين لجماعة الإخوان وأهالي حانقين على حكم الإخوان لأسباب شتى، وقد استمرت هذه الاشتباكات التي قد ترقى لمستوى الاقتتال الأهلي حتى بعد إزاحة مرسي عن الحكم، في إشارة للانقسام الشعبي الحاد حول رئاسة مرسي والانقلاب عليه سواء بسواء، وتظهر كذلك درجة انعزال الإخوان والتيار الإسلامي عامة عن قواعد عريضة من المصريين الذين لا يزالون يبحثون عن هوية سياسية تعرفهم في مواجهة الإسلاميين أصحاب الهوية السياسية الواضحة. وقد يكون الإخوان بالفعل هم "الآخر" الذي تتشكل هوية جماعية مصرية في مواجهته خاصة وأن المجتمع المصري الضعيف الذي خلفته ستة عقود من استبداد دولة يوليو، ومصادرتها للحريات العامة، لم يجد بعد يناير ٢٠١١ سوى تنظيم الإخوان المسلمين كتيار سياسي ذي هوية جماعية محددة وواضحة المعالم بل وجسم تنظيمي أشبه بالطائفة الدينية داخل الأغلبية المسلمة على حد تعبير وتوصيف الراحل حسام تمام. وهو ما يجعل التفاعلات السياسية منذ الإطاحة بمبارك وحتى اللحظة تشكل هويات جماعية في مواجهة الهوية الجماعية الوحيدة المعرفة: الإخوان. وهي لحظة عايشناها عدة مرات لعل أبرزها كان التصويت لصالح حمدين صباحي وأبو الفتوح في المرحلة الأولى للانتخابات، ثم التصويت لصالح شفيق في المرحلة الثانية، ثم الاصطفاف وراء جبهة الإنقاذ إبان أزمة الإعلان الدستوري في نوفمبر وديسمبر ٢٠١٢، وكلها تجليات لكتلة لا يعرفها سوى مناهضتها للإخوان، والخوف من سيطرتهم على الدولة وتثبيت دعائم حكمهم، وقد يصبح عبد الفتاح السيسي حال ترشحه للرئاسة عنوانا لهذه الكتلة في المستقبل.
نحن إذن بصدد مزاج عام مناهض للإخوان، كان هذا المزاج العام مدادا لحركة احتجاجية تريد إنهاء حكم مرسي باستدعاء القوات المسلحة للمشهد، وهو ما جرى، ولكن استمرار مقاومة الإخوان، واحتلال الطائفة الإخوانية وأنصارها لحيز مادي من المجال العام في رابعة العدوية وفي ميدان النهضة، وفي المسيرات التي تخرج بين آن وآخر لتعطيل المسار السياسي البديل، والذي يقوم عليه الجيش، يرشح استمرار لعب الإخوان لدور الآخر في صراع ليس فحسب هوياتي، بل وجودي كذلك، ويتماشى هذا مع دور الإعلام الخاص والعام في رسم ثنائية الإخوان في مواجهة الشعب المصري ودولته، وهو الخطاب الذي أتى مع تصاعد العمليات العسكرية في سيناء، واستدعاء مفردات الخطاب الساداتي للقومية المصرية المبغضة للفلسطينيين، والمنكبة على الذات، كما أتى مع تصريحات مسئولي الإخوان المتكررة عن انشقاقات في الجيش، واستدعاء الأطراف الأمريكية والأوروبية لإعادة مرسي لسدة الحكم، وهو ما دفع باتجاه التأليف بين رافدين متنافرين عادة من الخطاب القومي المصري: الرافد الساداتي التالي على كامب ديفيد الكاره للعرب، والرافد الناصري المعادي للاستعمار والمتحدث باسم العزة والكرامة، وليس من قبيل الصدفة أن تخرج الجماهير في ٣٠ يونيو وفي ٢٦ يوليو حاملة لصور السادات وعبد الناصر بجانب عبد الفتاح السيسي.
وقد سعى الجيش في إزاحته لمرسي في ٣ يوليو إلى استدعاء ممثلين لكافة مكونات المجتمع المصري في مشهد الإعلان عن إنهاء حكم مرسي والإخوان، وبجانبهم ممثلين عن الدولة المصرية، فرأينا شيخ الأزهر وبطريرك الكنيسة القبطية، وممثل عن حزب النور أكبر الأحزاب السلفية، مضافا إليهم محمد البرادعي عن جبهة الإنقاذ، وبالتالي التيار المدني بمكوناته الليبرالية والناصرية واليسارية وكذلك ائتلافات الثورة، وممثلون عن الشرطة والجيش والقضاء أي الجميع عدا الإخوان. كان هذا هو مبدأ المسار السياسي البديل فكرة أنه مصر ضد الإخوان، ولكن نظرا لهشاشة الوضع، واحتمالات اندلاع حروب أهلية مصغرة فإن الهدف المبدئي كان إجبار الإخوان على إقرار الهزيمة، ودمجهم في المسار السياسي الجديد، وهو ما فشل فيه الجميع حتى الآن باستمرار الاعتصام، والاتجاه نحو التصعيد من الجانبين حتى تاربخ كتابة هذه السطور، ومع تصاعد العنف بين الإخوان وغير الإخوان، وبين الإخوان والشرطة والجيش بدءا من الحرس الجمهوري ومرورا بفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، تتزايد حاجة التحالف المناهض للإخوان لاستدعاء مفردات القومية المصرية بروافدها المتعددة الساداتية والناصرية ضد الإخوان، في خطاب وطني شوفيني (معاد في جوهره للفلسطينيين والسوريين)، والتركيز على الدور التآمري للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ودعم الولايات المتحدة والغرب لهم بغية تقسيم الوطن، وانشقاق الجيش المصري، وتكرار سيناريو سوريا.
والحق إن هذا الخطاب الذي يعمل الإعلام الخاص والعام على إنتاجه هو تجل مدهش، وغير واع من أطراف الصراع، لتصورات كارل شميت عن عدو الدولة وهو بناء هوية قومية جامعة في مواجهة أقلية ما تصبح هي عنوان التهديد والخطر، وترتبط بعدو خارجي، وهو ما كان متحققا مع اليهود في ألمانيا النازية قبيل صعود هتلر للسلطة وبعده بالطبع، فقد كان ينظر لليهود باعتبارهم ـ على ضآلة أعدادهم ـ العدو الداخلي الذي يواجه الدولة الألمانية، وبالتالي الشعب، وفي الوقت نفسه كان هؤلاء اليهود مرتبطين بالخطر الأكبر الخارجي ألا وهو الاتحاد السوفيتي والشيوعية، ويبدو أن هذا هو التكتيك المستخدم مرحليا على الأقل لعزل الإخوان عن أية قواعد شعبية خارج التنظيم، وربما خارج التيار الإسلامي (خاصة مع خذلان الدعوة السلفية لهم في صراعهم المرير)، وهو ما يضمن التماهي بين الدولة والشعب (فكرة التفويض في مظاهرات ٢٦ يونيو والنفي المتكرر أن يكون ما جرى انقلابا عسكريا) في مواجهة الخطر الماثل والجاثم على صدر الأمة في رابعة العدوية وفي ميدان النهضة (الاعتصامان مسلحان ويهددان الأمن القومي).
يبدو أن هذا الخطاب التصعيدي والإقصائي بالطبع يتم إنتاجه في خضم أزمة وجودية تتهدد عناصر التحالف المناهض للإخوان مع استمرار تعطيل الإخوان للمسار التالي على خلع مرسي، وقد يكون الغرض منه ـ إن كان هناك غرض عقلاني في خضم الأزمة الجارية ـ هو كسر إرادة الإخوان نهائياً، وإعادة دمجهم في مسار سياسي ليس من صنعهم هذه المرة بعد انهيار مسارهم التعيس الذي بلغ تمامه في دستور ٢٠١٢.
ولكن في الوقت نفسه فإن هذا الخطاب، الذي يشرف في واقع الأمر على إنتاج هوية جماعية مصرية في مواجهة الإخوان، قد يصبح مع استطالة الأزمة أمراً لازماً لظهور واستمرار المسار السياسي لما بعد خلع الإخوان، وذلك بالتكريس لاستبعادهم وليس دمجهم، ويكون هذا بالمطالبة بالمزيد من الحراك الجماهيري الداعم للجيش والشرطة لاستخدام العنف ضد اعتصامات وتظاهرات الإخوان، وبتأجيج فرص الاقتتال الأهلي بين الإخوان وغير الإخوان، وتتمة هذا المسار هو الدفع بالاستفتاء على تعديلات الدستور، وإقرارها ومن ثم إسباغ شرعية إجرائية ديمقراطية على المسار الجديد تمحو الانقلاب، ثم إجراء انتخابات رئاسية يفوز فيها مرشح للجيش يصبح تجسيدا للتحالف المناهض للإخوان من ناحية، وللتماهي بين إرادة الشعب وإرادة الدولة في مواجهة عدو الدولة/الشعب.
إن سيناريو كهذا سيؤسس لنظام سياسي عنوانه أصلاً مواجهة الإخوان لا دمجهم، وهو أمر بالطبع يتماشى مع رغبات النخب الأمنية في عودة سيطرة الأمن على المجال العام من أجل إدارته، ووصاية الجيش والقضاء على المجال السياسي الجديد من أجل "ترشيده" خاصة وأن الانهيار المبكر للتجربة الديمقراطية يثبت أن النخب السياسية قاطبة غير أهل بإدارة البلاد، ويصبح نتاج المسار هذا شبيها بمسار الإخوان من حيث فشله في وضع قواعد لعبة مقبولة من جميع الأطراف بل يكون فحسب شرعنة قواعد لعبة لطرف على حساب طرف، تماما كما فعل الإخوان في ديسمبر ٢٠١٢ بتمرير الاستفتاء على دستورهم، وهو أمر بالطبع لم يجد مع نظامهم السياسي الذي سرعان ما تهاوي في مواجهة معارضيه الذي كان النظام مصنوعاً لإقصائهم. وقد يرد البعض بالطبع بأن الفارق سيكون تعاون الدولة مع الحكام الجدد خلافا لحال الإخوان إبان حكمهم، وهو ما يغري بشرعنة القمع حتى النهاية بحيث تصبح مهمة النظام السياسي الجديد هي إقصاء الإخوان وأنصارهم، والعمل على رد ضرباتهم التي تستهدف استقرار وفاعلية النظام الجديد في إدارة الشأن العام. وهذا أمر بالطبع يعني إدامة الأزمة الجارية، وزيادة فرص العنف المدعوم من الدولة في مواجهة الإخوان، ناهيك بالطبع على أنه سيؤسس لنظام سياسي/أمني لا يحمل من الديمقراطية إلا إجراءاتها وشكلياتها على أقصى تقدير، ولكنه سيكون في جوهره نظاما سلطوياً منتخباً، تماماً كالنظام الذي كان يريد الإخوان تثبيت أركانه.
المشكلة مع هذا التصور أنه لا يقوم إلا على استئصال شأفة الإخوان من المجال العام، بمعنى أن يكون للدولة ظهير شعبي منظم يعبر عن إقصاء الإخوان، وتدمير مقاومتهم بشكل مادي، وهو أمر غير ممكن باستبعاد الإخوان من المجال السياسي فحسب (بحظر الأحزاب الدينية على سبيل المثال أو حل جماعة الإخوان) إنما يكون بمحو الإخوان كتنظيم من المجال العام، ويكون هذا بتكثيف الشعور الشعبي المعادي للإخوان/الداعم للجيش باعتباره مؤيدا للدولة، وتشكيل ميليشيات منظمة عسكرية أو شبه عسكرية تتولى تصفية وجود الإخوان ككيان اجتماعي، وهذا هو سيناريو الفاشية المحتملة في مصر حال امتداد الأزمة واشتدادها في الشهور والسنوات القادمة. وقد ظهرت بوادره بالفعل في الأحداث التالية على فض اعتصامي رابعة والنهضة بوجود تجمعات للمواطنين الشرفاء ولجان شعبية في الأحياء لمواجهة حشود الإخوان.
وذلك لأن مثل هذا السيناريو لتثبيت دعائم النظام الجديد التالي على خلع الإخوان سيكون لإنهاء ما يبدو أنه انقسام شعبي، إن لم يرق لحرب أهلية منخفضة التكاليف حتى الحين، وهو وضع شبيه بإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، ومع صعود الحركة الفاشية (١٩١٩- ١٩٢٢) سيكون لحركة جماهيرية منظمة ولاؤها للدولة وللنظام القائم في مواجهة حركة أخرى، هذه المرة ستكون الحركة الإسلامية أو تنظيم الإخوان، مع الفارق العظيم بالطبع بينها وبين الحركة العمالية في إيطاليا في تلك الفترة، والتي كانت تعبر عن مطالب التحول السياسي لنظام أكثر ديمقراطية وعدالة اجتماعية، في حين أن الحركة الإسلامية والإخوان خاصة طوائف محافظة للغاية، فشل مسعاها للحكم نتيجة لفشلها في الاتفاق مع مؤسسات وأجهزة الدولة القمعية لا أكثر ولا أقل، ولكن التشابه هنا يكون على مستوى التكتيكات وهو عنف أهلي مدعوم من الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، ضد جماعات سياسية لها أرضية اجتماعية كبيرة ـ رغم ما نالها من انخفاض شديد في الشعبية إبان حكم الإخوان القصير ـ ، ويكون الهدف هو إلغاء هذه الحركة من المجال العام فلا يكون لها تظاهرات، ولا إضرابات، ولا مقار ولا اجتماعات، إلخ... ويكون إسناد أفعال العنف هذه لغير أجهزة الدولة، ولكن هذه المرة لمجموعات تحمل عداءا أيديولوجيا للإخوان، فربما يكون هذا هو المدخل لنوع ما من الفاشية التي تظل محتملة، ولكن مرجحة في ضوء تعثر المسار السياسي الحالي، واستمرار تصعيد الإخوان ورفضهم الاعتراف بانهيار مسارهم السياسي.
[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين ”جدلية“ ومجلة ”بدايات“]