(إلى الصديق الأستاذ جورج طرابيشي مفكرًا فوق الطوائف، وإلى ضحايا الطوائف)
رغم الاختلافات الهائلة (ديمقراطيًّا) بين حقبةِ ما بعد الاستقلال وحقبةِ البعث، فإنّ الفترتين تتقاطعان من حيث الغياب شبه التامّ لأيّة دراساتٍ علميّةٍ للمسألة الطائفيّة في سوريا. فقد بقيتْ هذه المسألة من المحرَّمات طوال فترة حكم البعث، ومن المهمَلات طوال الفترة التي تلت الاستقلال، رغم أنّ حكومات الاستقلال المتعاقبة عاشت الطائفيّة من خلال الدويْلات الطائفيّة المجزّأة التي أنشأها الانتدابُ الفرنسيّ.
في تطييف الطيف السوريّ
منذ انطلاقة الثورة السوريّة سعى النظامُ إلى حشر الثورة، التي احتضنتْ ألوانَ الطيف السوريّ، في ساحة الصراع الطائفيّ التي يتقن اللعبَ فيها، مستفيدًا من خبرته في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ومستغلًّا حساسيّةَ موقع سوريا الإستراتيجيّ وتحالفاتها الخارجيّة، الأمرُ الذي سيمنحه (حسب اعتقاده) وقتًا كافيًا للحسم الأمنيّ. وفي المقابل أدّى طولُ الأزمة، المترافقُ مع تزايد العنف، إلى ردِّ فعل غريزيّ متمثّلٍ في الحاجة إلى الدفاع عن النفس، فتوجّه المنتفضون إلى السلاح، الذي سهّل النظامُ عمليّاتِ تهريبه في البداية بعد أن كان يرفضه.
لكنْ كان لأحد الأحداث دورٌ حاسمٌ في خلخلة النهج السلميّ، وتكريسِ الانقسام بين السوريّين: إنه مجزرةُ جسر الشغور (6/6/2011). فقد هاجمتْ جماعاتٌ مسلّحةٌ من المعارضة مفرزةَ الأمن السياسيّ، وأبادت عناصرَها (حوالى 120)، ومثّلتْ بجثثهم. ثم قُتل نحو أربعين آخرين في كمين.(1) تلا ذلك قتلُ عسكريّين في حماة، ورميُ جثثهم في نهر العاصي، من دون أن نقرأ تصريحَ إدانةٍ من قبل الهيئات السياسيّة التي ادّعت تمثيلَ الشعب السوريّ.
لقد كانت لدى النظام ثقةٌ تامّةٌ، على ما يبدو، بأنّ مخطّطاته ستلقى استجابةً لدى غريمٍ سابقٍ، هو الإخوانُ المسلمون وفلولُ الطليعة المقاتلة المقيمون في المنفى منذ انتهاء "الجولة الأولى" من النزال الذي أودى، في بدايات ثمانينيّات القرن الماضي، بعشرات آلاف المدنيّين في حماة على أيدي قوّات سرايا الدفاع، مثلما أودى بمئات ضحايا الاغتيال الطائفيِّ الذي مارسه الإخوانُ ولم يعتذروا عنه قطّ. كما دخلتْ على خطِّ المواجهة والشحن الطائفيّ وسائلُ إعلامٍ خليجيّةٌ (الجزيرة، العربيّة) ومبتذلةٌ (الصفا، وصال..)، مستغلّةً الفراغَ الثقيلَ الذي يرافق وسائلَ الإعلام الحكوميّةِ العديمةَ الصدقيّة، لتزجّ بالصراعين الخليجيِّ ــ الإيرانيّ والإيرانيّ ــ الغربيّ في خضمِّ الثورة. كما أدّت صفحةُ "الثورة السوريّة ضدّ بشار الأسد" دورًا كبيرًا في تصدير تسمياتٍ لأيّام الجمعة أثارت حساسيّاتٍ طائفيّةً. وتعاظم الاحتقانُ مع خضوع العديد من كتائب "الجيش السوريّ الحرّ" لابتزاز المال السياسيّ، وللحاجة الماسّة إلى السلاح لمواجهة نظامٍ بات منذ اغتيال "خليّة الأزمة" (18 يوليو الماضي) يستخدم كلَّ أنواع الأسلحة الثقيلة. وتحوّلت الثورةُ في وسائل الإعلام إلى صراعٍ عربيّ ــ مجوسيّ، أو عربيّ ــ كرديّ، أو شيعيّ ــ سنّيّ، أو علويّ ــ سنّيّ، أو روسيّ/ صينيّ ــ غربيّ/أمريكيّ. أمّا على الأرض فقد وصل النظامُ والثورةُ إلى دوّامةٍ يوميّةٍ عبثيّةٍ من العنف، وأضحت الأزمةُ السوريّة ملفًّا للمساومات الدوليّة على مستقبلٍ شرق أوسطيّ جديد.
رؤى عمياء... وغير عمياء
في خضمِّ هذا الصراع والتجييش الإعلاميّ، اضطُرّ الناشطون والمثقفون إلى التصدّي لأخطار المسألة الطائفيّة التي بدأتْ تلْقي بظلالها على النسيج الاجتماعيّ السوريّ. لكنّ الرؤى التي قُدِّمتْ لم تكن على مستوى كارثيّة حضور هذه المسألة في الثورة السوريّة. ويمكن إيجازُ هذه الرؤى بثلاث:
1) إنكارُ الطائفيّة، وتكرارُ عباراتٍ من قبيل "الثقة بالشعب السوريّ،" و"التعايش المشترك،" و"التاريخ السوريّ يعكس الوحدة الوطنيّة قبل آل الأسد." وتمّ الاستشهادُ برموزٍ وطنيّةٍ ثابتةٍ، كشكري القوتلي وسعد الله الجابري وفارس بك الخوري، في استغراقٍ نوستالجيٍّ انتقائيٍّ للأحداث والشخصيّات. ومن الطبيعيّ أن يكون أصحابُ هذه الشعارات شديدي التفاؤل باختفاء الطائفيّة مباشرةً بعد سقوط نظام الأسد!
2) القول بأنّ الطائفيّة حدثٌ طارئٌ من خارج البنية. هكذا فُسّرت الحوادثُ الطائفيّةُ التي شهدتْها سوريا عبر تاريخها (كمذبحةِ مسيحيّي باب توما في 9/7/1860، التي سقط خلالها نحو 8500 مسيحيّ وأُحرق 3800 منزل)(2) على أنّها نتيجةٌ للاحتلال الأجنبيّ والاستعمار والمصالح التي تهدف إلى تحريض الشعب الواحد على الاقتتال. وهذا التيّار عمومًا يعكس ذهنيّةً قائمةً على التوجّس الدائم من "المؤامرات،" وإلقاءِ كلِّ أسباب التخلّف والفشل والهزيمة على "الآخرين" و"الغرباء" و"ضعاف النفوس" و"المغرّر بهم." وهي لازمةٌ ضروريّةٌ لتفسيرٍ لا يبحثُ عن الأسباب الحقيقيّة، وإنّما يتهرّب من مواجهة المسؤوليّة. ولا يخرج عن هذا السياق تفسيرُ خسارة فلسطين عام 1948 و"نكسة حزيران" عام 1967.
3) الاعتراف بالحضور الكبير للعامل الطائفيّ في تصعيد الحدث السوريّ، واعتباره نتاجًا طبيعيًّا لغياب السياسة من المجتمع طوال أربعة عقود، والاقتناع بأنّ الأمور ستنحو بعد سقوط "النظام الطائفيّ" في أحد اتجاهين: أ) القبول المضمر بالطائفيّة محدِّدًا لسوريا المستقبل، يفرز عنها نظامُ المحاصصة في الحكم، الأمرُ الذي نرى تجلّياته في مشاريع المجالس والمراحل الانتقاليّة. ب) نشوء ثورة مضادّة سيكون هدفُها مطابقًا للشعارات الأولى للثورة السوريّة: "الحريّة" والديمقراطيّة" و"الشعب السوري واحد."
تطييف التاريخ ــ وثيقة "انفصال العلويّين" نموذجًا
خلال سيطرة البعث على السلطة في سوريا منذ العام 1963 شهدت البلادُ تغييبًا تامًّا وممنهجًا للحياة السياسيّة، التي اقتصرتْ على فكر البعث ومؤسّساته، وتمّت "إعادةُ تخيّل" الشعب عبر تسطيح الثقافة الوطنيّة. وقد نتج من ذلك ثلاثةُ أجيالٍ تكاد لا تعرف شيئًا عن حقبةِ ما قبل الأسد الأب. ثم جاءت الثورةُ السوريّةُ لتبثّ الحياة في عروق التاريخ المحنّط، ونشطتْ حركةُ البحث والكتابة في تاريخ سورية المعاصر. لكنْ، على الرغم من أهميّة هذه "الحمّى المعرفيّة" التي انفجرتْ بعد نصفِ قرنٍ تقريبًا من الكبت، فإنّ لها محاذيرها حين تتبنّى أفكارًا مشوّهة ومزيّفة وتقدّمُها "حقائقَ تاريخيّةً" و"بداهاتٍ" لا مجالَ لنقاشها. ويأتي ذلك بعد "شيطنة" حقبة البعث الاستبداديّة، و"الأقليّات" عمومًا و"العلويّين" خصوصًا،(3) وبعد تجاهل كلّ الأسباب التي أدّت إلى صعود طبقةِ "الريفيّين" الفلّاحيّة وسقوطِ طبقة "الأعيان" الإقطاعيّة التي أدّت دورًا بارزًا في صناعة السياسة السوريّة منذ نهاية العصر العثمانيّ مرورًا بالانتداب وحتى الوحدة مع مصر.(4)
ضمن هذا السياق من الثورة، وفي فترةٍ تشهد احتقانًا طائفيًّا، دخلت الوثائقُ المتبادلةُ على خطِّ المعركة الإعلاميّة. وظهرتْ مثلًا الوثيقة رقم 3547 تاريخ 15/6/1936،(5) التي يتمُّ تداولها على أنها "وثيقةُ العلويّين الانفصاليّين" التي رُفعتْ إلى رئيس الحكومة الفرنسيّ آنذاك، ليون بلوم. فخلال جلسةٍ لمجلس الأمن ردَّ سفير فرنسا لدى الأمم المتّحدة (جيرار آرو)(6) على مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة (بشّار الجعفري)، فقال: "بما أنّك تحدّثتَ عن فترة الاحتلال الفرنسيّ [لسوريا]، فمن واجبي أن أذكّرك بأنّ جدَّ رئيسكم الأسد طالبَ فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقةٍ رسميّةٍ وقّع عليها محفوظةٍ في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة. وإنْ أحببتَ أعطيكَ نسخةً عنها."(7) وسرعان ما احتفتْ مواقعُ المعارضة وعمومُ المدوّنات والمواقع العربيّة بالوثيقة "الدامغة" التي تثبت توارثَ "الخيانة" جينيًّا والعمالة "الفطريّة" لدى آل الأسد خصوصًا، والعلويّين عمومًا. وبذلتْ قناةُ العربيّة جهدًا أكبر للبحث عن الوثيقةِ حتى وجدتْها، فنشرتْ صورةً لما زعمتْ أنّه "صورة الوثيقة الأصليّة."(8) كما كرّس الشيخُ المثير للجدل، عدنان العرعور، حلقةً للاحتفاء بـ "الوثيقة" بندًا بندًا، ختمها بالقول: "أتمنّى من كلِّ علويٍّ شريفٍ أن يتبرّأَ من هذه الوثيقة. وأتمنّى من كلِّ ضابطٍ علويٍّ شريفٍ أن ينحاز إلى هذا الشعب، إلّا إذا كان يؤمن بهذه الوثيقة."(9) وهذه مفارقةٌ مضحكةٌ لكنّها تعكس طريقةَ القراءة الطائفيّة للتاريخ: فالعرعور يوجّه خطابَه إلى طائفةٍ كاملةٍ يفترض "بداهةً" أنّ المنتمين إليها لم يموتوا منذ العام 1936 لأنّها الكيان والجوهر ذاته جينيًّا ونفسيًّا وفكريًّا، سابقًا ولاحقًا، ولا تهمّه صحّةُ الوثيقة أو زيفُها، وما إذا كانت الشخصيّات الست(10) الواردة أسماؤهم صحيحةً، ولماذا ورد اسمُ سليمان المرشد بدلاً من سلمان، ولماذا لم تحمل الوثيقةُ سوى أسماءٍ مغفلةِ التواقيع أو البصمات.
الوثيقة ليست جديدةً. فقد كتب عنها الصحفيُّ اللبنانيُّ أنطوان غطاس صعب في النهار (23/10/2011) ونشر نصّها الكامل خلال حمّى الكتابة عن مشروع "الدولة العلويّة" في تلك الفترة.(23) كما نُشرتْ عام 1980 في كتاب العلويّون النصيريّونلأبي موسى الحريري،(12) ضمن مشروع "الحقيقة الصعبة" الذي يمكنُ اعتبارُه أحدَ أسوأ الأمثلة على القراءات الطائفيّة للتاريخ والأديان المقارنة أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وفي 23/5/1989، نشرتْ صحفٌ لبنانيّةٌ وثيقةً وجّهها حزبُ الوطنيّين الأحرار إلى القمّة العربيّة الاستثنائيّة التي عُقدتْ، في اليوم نفسه، في الدار البيضاء، وضمّنها الوثيقة المذكورة.(13) كما نُشرتْ في كتاب دانييل لوغاك، سوريا الجنرال الأسد، المنقول إلى العربيّة عن دار مدبولي.(14) والسؤال الأهمّ هو: لماذا لم تُربط الروايةُ في سياقها؟
يصف أحدُ معاصري تلك الفترة، المناضل أكرم الحوراني، أنّ الحكم الفرنسيّ في دولة العلويّين ودولة جبل الدروز كان شديدَ الوطأة، وأنّه استغلَّ التخلّفَ الاجتماعيّ والوضعَ الإقطاعيَّ والعشائريّ فشكّل فيهما مجلسًا تمثيليًّا لزعماء العشائر والإقطاع، بينما كان الأمرُ مختلفًا في الدولة السوريّة، حيث لم يكن للفرنسيّين فيها هذا النفوذ.(15) ومع تشكّل حكومة الكتلة الوطنيّة تجدّدت النزعاتُ الانفصاليّة في جبل الدروز واللاذقيّة، لكنّها كانت أكثر تعقيدًا في اللاذقيّة نظرًا إلى عظم عدم التجانس السكانيّ فيها. وعلى الرغم من أنّ العلويّين كانوا منقسمين داخليًّا فقد استجابوا كـ "طائفة ــ طبقة،" حسب تعبير حنّا بطاطو،(16) عندما شعروا بأنّهم مهدّدون من هيمنة طبقةٍ مدينيّةٍ أكثر قوةً تمثّلتْ في الإقطاعيّين "السنّة،" مُلّاكِ الأراضي الذين دعموا الوحدةَ مع دمشق. كما أنّ معظمَ الأراضي التي كان يزرعها "العلويّون" كانت يملكلها إقطاعيّون "سُنّة" من اللاذقية وحماة، وكانوا شديدي الظلم والاستغلال لفقر العلويّين، فأسهم هذا التفاوتُ الطبقيُّ الحادُّ في مفاقمة حدّة الانقسامات الدينيّة. أمّا في جبل الدروز فكان الإقطاعيّون والفلّاحون من الطائفة نفسها (دروز)، لذا لم تكن الانقسامات بتلك الحدّة. ومع وصول الوفد المفاوض إلى باريس كان ملفُّ مصير جبل الدروز وجبال العلويّين حاضرًا بقوّة، فأطلق "علويّون انفصاليّون" حملةً دعائيّةً ذاتَ مضامين طائفيّةٍ يُعتقد أنّها من تنظيم حاكم المحافظة الفرنسيّ، شوفليه، المعارض للوحدة مع دمشق.(17) وخلال وجود الوفد في باريس عام 1936 أسفرتْ جهودُ الضبّاط الفرنسيّين عن مذكّرةٍ من بعض أعضاء المجلس التمثيليّ العلويّ (مذكّرة إيراهيم الكنج) يؤيّدون فيها انفصالَ جبل العلويّين عن الوطن السوريِّ وبقاءَه تحت الحكم الفرنسيّ، بينما امتنع بعضُهم الآخر عن التوقيع.(18) إذن، لم يتمكّن الفرنسيّون من توحيد آراء "العلويّين" تجاه الوحدة، وقام عددٌ من المثقفين والحِرفيّين بتشكيل "رابطة الشباب المسلم العلويّ" لمحاربة النزعة الانفصاليّة والدفع باتجاه الوحدة السوريّة. وبعد نحو شهرٍ أصدر رجالُ الدين العلويّون بيانًا أكّدوا فيه التزامَ الطائفة بالوحدة الوطنيّة السوريّة، وأنّ "كلّ علويٍّ هو مسلمٌ يعتقد بالشهادتين ويقيم أركانَ الإسلام الخمسة،" وأنّ أيّ علويٍّ لا يعترف بإسلاميّته ولا يذكر أنّ القرآن الكريم كتابُه وأنّ محمّدًا نبيُّه لا يُعدّ بنظر الشرع علويًّا ولا يصحّ انتسابه إلى المسلمين العلويّين. كما عقد وجهاء ورجالُ دينٍ علويّون اجتماعًا في قرية القرداحة في الشهر نفسه، وأرسلوا بيانًا إلى وزارة الخارجيّة الفرنسيّة يفيد أنّ كلمة "العلويّين" لا تعني ديانةً منفصلةً عن الإسلام، وأنّهم ليسوا سوى أنصارِ الإمام عليّ، ابنِ عمِّ رسول الله (ص) وصهرِه وأوّلِ من آمن بالإسلام؛ "فليس الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت سوى مسيحيّين، وليس العلويّون والسنّة سوى مسلمين." ونتيجةً لنشاط رجال الدين العلويّين ودعمهم للوحدة، أصدر الشيخ أمين الحسيني، مفتي فلسطين، فتوى تصادق على أنّ "أولئك" العلويّين مسلمون، وعلى كلِّ مسلمٍ تقبّلهم بكلِّ إخلاص. وكان يَقصد باقتصار الفتوى على "أولئك،" العلويّين الذين يُعرّفون أنفسَهم سياسيًّا بأنّهم مع الاتجاه "السنّيّ" السوريِّ السائد. وبعد ستةِ أشهرٍ من المفاوضات الماراثونيّة وقّع الجانبان السوريُّ والفرنسيُّ مشروعَ معاهدةٍ في 9/9/1936 اعترفتْ باستقلال سوريا، وأسقطتْ اسمَ "حكومة اللاذقية" لتصبحَ "محافظة اللاذقية في دولة سوريا الموحّدة."(19)
الجدير ذكرُه أنّ الكتلة الوطنيّة عيّنتْ، بعد عودة الوفد السوريّ، عزيز الهواش محافظًا على مدينة دمشق، وهو ابنُ إسماعيل الهواش، زعيمِ عشيرةِ المتاورة، إحدى كبريات عشائر العلويّين، وأحدِ قادة ثورة الشيخ صالح العلي. وقد ظلَّ إسماعيل الهواش طوالَ حياته مناهضًا للانفصال وداعيةً للاستقلال، فتعرّض لغضب الفرنسيّين واضطهادهم. الجدير ذكرُه أيضًا أنّ الشباب الوطنيّ من أبناء منطقة الجبل، من علويّين ومسيحيّين، ساهموا في النضال مع إخوانهم، أبناءِ مدينة اللاذقية والمدن الساحليّةِ الأخرى، من أجل تحقيق الاستقلال والوحدة السوريّة، وكان من بينهم شبابٌ مرموقون أمثال: منير العباس، والمحامي عبد الله العبد الله، والمحامي بولص ديبة، والشاعر الكبير نديم محمد، وغيرهم من الشباب الذين كانوا يؤلّفون مع عبد الواحد هارون (زعيم مدينة اللاذقية) الكتلةَ الوطنيّة في هذه المحافظة.(20) ويورد الحوراني أنّه، عقب إقرار المفوّض السامي دستورَ تجزئة الأراضي السوريّة عام 1930، كان على "سلطات دولة العلويّين أن تجابهَ الوفودَ من سكّان منطقة اللاذقيّة الذين أعلنوا أنهم يريدون تغييرَ هويّاتهم التي تنسبهم إلى دولة العلويّين. وكان مكتبُ الكتلة الوطنيّة في حماه يستقبل العديدَ من وفود أبناء مصياف المطالبين بالوحدة، والرافضين لأن تكونَ المذاهب الدينيّة سببًا في تمزيق وحدة سورية."(21) فأيّ الوثائق تُعبّر عن "طائفة العلويّين" الذين انضمّوا عمليًّا إلى الوحدة السوريّة؟!
أعتقد أنّ تقاذفَ الوثائق، أصحيحةً كانت أمْ مزيّفةً وخارج سياقها التاريخيّ الكامل، واعتبارَها تمثّل فئةً كاملةً منذ الأزل إلى الأبد، ليست إلا ذرائعَ كراهيةٍ تعكس سذاجةً في القراءة التاريخيّة، وضحالةً فكريّةً. والحقّ أنّ أهميّة دراسة الوثائق تنحصر في أنّها تعكس مصالحَ "طبقةٍ" محدّدةٍ في "فترةٍ" محدّدةٍ و"ظروفٍ" محدّدةٍ ضمن "منطقةٍ" محدّدةٍ. ولكنْ فقط في حال دراستها ضمن سياقاتها، وربطِها ببقيّةِ المناطق والشرائح والطبقات، فذلك ما سيتيح لنا فهمًا أفضلَ لصيرورة تطوّر المجتمع وتشخيص أمراضه. وأيًّا يكن الأمر، فإنّ تاريخ سوريا ولبنان يمتلئ بالعرائض والوثائق التي تعكس حدّةَ الانقسامات التي سادت بين الطوائف، وضمن الطائفةِ نفسها، تجاه الفرنسيّين والإنكليز والروس والألمان والعثمانيّين وغيرهم، في زمنٍ لم تكن فيه أفكارُ القوميّة والوطنيّة منتشرةً بعد. ولا يمكن أبدًا الركونُ إلى تفسيرات الشارع أو وسائل الإعلام للصراعات وترديدُها من دون تدقيقٍ أو نقدٍ، بغضّ النظر عن موقف المثقف من السلطة، وسواء لامس هذا النقد أو التحليل شعارات الشارع أو لم يناسبها. وهذا أمر لم يسلمْ من الوقوع فيه حتى ثقاةُ المنافحين عن العلمانيّة قبل الثورة السورية. حتى إنّ كاتبًا علمانيًّا ولا يتساهل مع المسألة الطائفيّة، كياسين الحاجّ صالح، كتب على صفحته في الفيس بوك تعليقًا أثار استنكاراتٍ شديدة: "ليس احتمالًا أن تقود سياسةُ تحالف الأقليّات إلى التحالف مع إسرائيل. هذا محتّم، وهو مدوَّنٌ في جيناتها" ـــ وهو المثقف العارف بأنّ هذه البداهات التي تفسّر السياسة جينيًّا" أقربُ إلى التفسير الأنثروبولوجيّ العنصريّ من أيّ تفسير آخر. وبدلًا من التراجع عن هذه الفكرة، أصرّ على أنّه كتب ما يكفي من "الملْحقات" لتوضيح سوء الفهم، ولحلّ "الالتباس" الذي حملتْه العبارة! ورغم "الالتباس،" يبقى تعليقُ ياسين عاجزًا تمامًا عن تفسير أنّ جميع معاهدات الاستسلام مع إسرائيل وقّعتْها "أكثريات" (وفق مصطلحات ياسين): من الملك عبد الله، جدّ الملك حسين، إلى جميع سلالته، مرورًا بأنور السادات، وحتى اتفاقيّة أوسلو التي وقّعها ياسر عرفات.
ولا تختلف "زلّةُ" ياسين كثيرًا في الجوهر عن فكرة "الحتميّة" و"عقدة الأقلويّة" التي يسوقها أنطوان غطاس صعب، في تعقيبه على نشر "الوثيقة التاريخيّة" الآنفة الذكر. فهو يقول إنّ "مشروع إقامة الدولة العلويّة يعود إلى عشرات السنين، ولم يُطرح في ساعته، وذلك على خلفيّة الخوف من ذوبانِ الأقليّات، ومنها الطائفةُ العلويّة، واضمحلالِها. ذلك أنّ العلويين أكّدوا تاريخيًّا، كما يظهر في الوثيقة، استعدادَهم للتحالف مع اليهود على الانغماس في مجتمعاتهم العربية." ننوّه هنا إلى أنّ الدولة العلويّة كانت قائمة فعليًّا، وليست مشروعًا كما يزعم صعب، ودامت أكثر من خمسة عشر عامًا!
على عكس ما سبق، يرى أسامة المقدسي، الذي حلّل المسألة الطائفيّة في القرن التاسع عشر في لبنان، أنّ الطائفيّة "ليست غريزةً، أو حتميّةً، بل تعبّر عن ترجمةٍ وتحويرٍ لفكرةٍ جديدةٍ للمساواة ظهرتْ في منتصف القرن التاسع عشر في مجتمعٍ متعدّد الطوائف وخاضعٍ لضغوطٍ خارجيّةٍ، ويفتقر على جميع المستويات إلى رؤيةٍ قادرةٍ على تخيّل مستقبلٍ أفضل."(22)
الخلاصة
تعكس محاولاتُ فسير "المسألة الطائفية" في سياق الثورة السوريّة مدى تعقيدات المسألة وتخبُّط الأدوات المعرفيّة وصعوبة الفصل أحيانًا، في خضمّ الثورة، بين الموضوع (النظام) والمفهوم (الطائفة). فهذه الأخيرة لا يمكن تفسيرُها "ككيان، بل كعلاقةٍ سياسيّةٍ محدّدةٍ، يفسّر وجودَها شكلٌ من الصراع الطبقيّ، ويفسِّر إلغاءَها شكلٌ آخرُ من الصراع الطبقيّ،" كما وصفها شهيدُ الطائفيّة مهدي عامل.(23)
ثمّ إنه لا يمكن الركونُ إلى المعلومات التاريخيّة خارج سياقها. فمفاهيمُ "الوطنيّة" و"القوميّة" لم تكن موجودةً مجتمعيًّا قبل القرن العشرين. وحتى بعد انسحاب القوّات العثمانيّة بقي بعضُ الأعيان والمفكّرين السوريّين يتحسّرون على سقوط الخلافة.
وأخيرًا، فإنّه من الخطورة بمكانٍ الانزلاقُ إلى الأهواء التي تستحدثها الانقساماتُ السياسيّة، وتوريةُ الأحداث بالتسطيح، وتفسيرُ الآنيّ بالمطلق. ولا يكفي وصمُ الآخرين بالطائفيّة لتفسيرها. إنَّ إحياء ثقافة الطائفيّة، على حدّ تعبير المقدسي، يُحوّل الطوائفَ الدينيّة إلى طوائفَ سياسيّةٍ تخرج من الحيّز الخاصِّ إلى الحيّز العامّ لتنافس "هويّة" الدولة؛ فتشكّل بذلك تربةً خصبةً لوعيٍ مزيّفٍ، قائمٍ على مجريات الحاضر، ويؤسّس لمستقبلٍ انفجاريٍّ تكون الطائفة فيه كيانًا سياسيًّا داخل الجسم السياسيِّ للدولة وتعرّف نفسها انطلاقًا من توازن الهيمنة على البلاد.
[عن مجلة "الأداب" اللبنانية]
هوامش:
(1) محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية، جدليّة الجمود والإصلاح (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، مارس 2012)، ص 269.
(2) Francois Lenormant, Histoire des Massacres de Syrie en 1860 (Paris, 1861), p 123.
(3) نظرة سريعة إلى مقاطع الفيديو على اليوتيوب، والكتب الإلكترونيّة المنتشرة حاليًّا، توضح أخطار هذا الأدوات التحريضيّة الموجّهة واللاعلميّة. ويمكن الاطّلاع مثلًا على هذه الصفحة في الفيس بوك، ولديها 6000 معجب حتى الآن، وهي متخصّصة "بفضح" أسرار العقيدة النصيريّة:
[https://www.facebook.com/alawayeen.secrets?fref=ts [1
(4) قد لا يُعجب البعض أنّ البعث حقّق انتصارًا ساحقًا في الانتخابات الديمقراطيّة عام 1954، وخصوصًا في مدينة حماة، الخاضعة للعائلات الإقطاعيّة التي هزمتْها قوةُ الفلاحين المنتظمة تحت قيادة أكرم الحوراني، وذلك قبل انقلاب الثامن من آذار على حكومة الانفصال. ويمكن التوسّع بالعودة إلى مذكرات الحوراني، أو الاطّلاع على: باتريك سيل، الصراع على سورية ــ دراسة للسياسة العربيّة بعد الحرب 1945-1958، ترجمة سمير عبده ومحمود فلاحة (دمشق: دار طلاس، ط 8، 2010)، ص235، 241-245.
(5) يورد باتريك سيل في كتابه الشهير، الأسد، وثيقة أخرى على ما يبدو، وهي ذات تاريخ ورقم مختلفين، ولا يتطرّق إلى محتواها بل يكتفي بالإشارة إليها لكونها تحمل اسم علي سليمان الأسد (تاريخ الوثيقة 11/يونيو/1936، وثائق الخارجيّة الفرنسيّة ــ المشرق 1918 ــ 1930 ــ سوريا ولبنان ــ الوثيقة 492 ــ الملف 195) انظر: باتريك سيل، الأسد ــ الصراع على الشرق الأوسط (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط 10،2007)، ص 28، والهامش رقم 14، ص 30.
(6) خلطت "العربيّة" بين لوران فابيوس، وزيرِ الخارجيّة الفرنسيّ الذي كان حاضرًا في اليوم نفسه، وجيرار ارو، سفيرِ فرنسا لدى الأمم المتحدة. فالأخير هو من ردّ على الجعفري، في حين نسبت الردّ إلى فابيوس. وقد نقل عنها العديدُ من المواقع والجرائد الخطأ ذاتَه. ويمكن العودة إلى النصّ الأصليّ لموجز مداولات الجلسة على موقع الأمم المتحدة، والتي تختلف ترجمتها على نحوٍ طفيف:
[http://www.un.org/News/fr-press/docs/2012/CS10752.doc.htm [2
(7) ردّ أرو على الجعفري الذي عُرض خلال بثِّ قناة الجزيرة لجلسة مجلس الأمن المنعقدة بتاريخ في (30) من أغسطس 2012: http://www.youtube.com/watch?v=Cby6nC1xfoA&feature=related
(8) صورة "الوثيقة الأصليّة" التي نشرتها قناة العربية:
[http://www.alarabiya.net/articles/2012/08/31/235337.html [3
(9) رد العرعور على الوثيقة
[http://www.youtube.com/watch?v=lI8EWZVPa58 [4
(10) الشخصيّات الستّ المزعومة كما وردت أسماؤها في الوثيقة هي: عزيز آغا الهواش، محمود آغا جديد، محمد بك جنيد، سليمان أسد، سليمان مرشد، محمد سليمان الأحمد.
(11) أنطوان غطّاس صعب، "وثيقة تاريخيّة عن مشروع "الدولة العلوية" في سوريا:http://www.centerlcrc.com/index.php?s=3&ss=4&id=3930&skw=الدولة%20العلوية
(12) أبو موسى الحريري، العلويون النصيريون، سلسلة الحقيقة الصعبة 5 (بيروت، 1980)، ص 229 ــ231.
(13) تلت مقالة أنطوان صعب عدة مقالات حول الموضوع نفسه، ويمكن الاستئناس بمقالة جوزيف إلياس، "وثيقة العلويين: مزيد من النقاش،" النهار، 18/3/2012، والتي ردّ فيها على صعب. وكلاهما قبل نشر الوثيقة في مجلس الأمن!
(14) Daniel Le Gac, La Syrie du général Assad, Editions Complexe, 1991, p 69-71.
(15) أكرم الحوراني، مذكرات أكرم الحوراني (القاهرة: دار مدبولي، ط 1، 2000)، الجزء الأول، ص 159.
(16) Hanna Batatu, “Some Observations on the Social Roots of Syria's Ruling, Military Group and the Causes for Its Dominance,” Middle East Journal, Vol. 35, No. 3 (Summer, 1981), p. 331.
(17) Philip S Khoury, Syria and the French Mandate, The Politics of Arab Nationalism, 1920-1945 (London: I. B. Tauris and Co. Ltd., 1987), p 520-22.
(18) مذكرات أكرم الحوراني، الجزء الأول، ص 159.
(19) كمال ديب، تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسيّ إلى صيف 2011 (بيروت: دار النهار)، ط1، تشرين الأول 2011، ص 64 ــ65.
(20) Gitta Yaffe-Schatzmann, “Alawi Separatists and Unionists: The Events of 25 February 1936,” Middle Eastern Studies, Vol. 31, No. 1 (Jan., 1995), p 36-37.
(21) مذكرات أكرم الحوراني، الجزء الأول، ص 159.
(22) أسامة المقدسي، "من الطائفيّة إلى الوطنيّة اللبنانيّة،" مجلة الآداب، بيروت،2001 / 12 / 11، ص53.
(23) مهدي عامل، في الدولة الطائفيّة (بيروت: دار الفارابي، ط 3، 2003)، ص327.