آخر مرة التقيتُ سركون كان في بداية العام 1966، في بغداد. ذهبنا الى مطعم صغير في البتاويين وبعده الى معرضٍ للرسم في المعهد الثقافي الفرنسي. افترقنا وأنا أعرف بأنه سيغادر العراق، أو يهرب، لينهي عذابه من تجنيده في الجيش وبقائه عاطلاً عن أية وظيفة أو استخدام، في أجهزة الإعلام الرسمية أو الاهلية، وفي غيرهما، سواءً في كركوك أو في بغداد. لم تفده شهرته آنذاك كشاعر طليعي ومختلف، أظهرهما بنشاط في أعمال نشرها، وتراجم أنجزها، سواءً في العراق أو في لبنان من خلال مجلة شعر، بل ربما أثارت بعض المشاعر المعادية والاتهامات ضده، خصوصاً وأن الوسط الاعلامي والثقافي العراقي كانا يعجان آنذاك بالأفكار العروبية واشتراكيتها، وأقصد الفترة الناصرية واتحادها الاشتراكي وشعاراتها الطوباوية في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية آنذاك لهذه الامة المتخلفة. من مآثر جماعة كركوك حينذاك توجهها المختلف عن هذه الدعوات والشعارات. كنا مع الطليعية في الشعر، القصة القصيرة والرسم وغيرها، وكان سركون في مقدمة هذه الطليعية .لم نكن من المركز، وكنا جميعاً من قوميات غير عربية وبعضنا من دين آخر وجميعنا يساريين. وكان هذا كله أكثر مما يمكن تحمله أو السماح له بالانتشار . كانت " جماعة كركوك " منعطفاً في تطور الكتابة العراقية في فترة ستينات القرن الماضي. انتقاله، وأهله معه، إلى بغداد، كان بداية هذا الهروب. كانت هذه رغبتنا أيضاً، أنا وجان دمو، وعدد آخر من " جماعة كركوك " حققناها بعد سنوات طويلة وبأساليب مختلفة. بعد عودتي إلى كركوك بأشهر تم اعتقالي بعد اقتحام بيتنا من قبل قوة من الامن حيث نهبوا كتبي ودفتري الشعري، ولم يعيدوها رغم محاولاتي في ما بعد. وبذا فقدتُ قصائدي الاولى ومعها مجموعة من قصصي القصيرة. عرفتُ بوصوله إلى بيروت ونشاطه الأدبي هناك، بعد خروجي من السجن.
[سركون بولص مع صلاح فائق في شقة الأخير في لندن]
ثم غادر، من جماعة كركوك، أنور الغساني إلى المانيا، تبعه فاضل العزاوي، والذي استقر في بغداد بعد فترة من السجن، إلى ألمانيا أيضاً، مؤيد الراوي إلى بيروت لسنوات قليلة، بعدها إلى ألمانيا. في هذه الاثناء، نهاية الستينات وبداية السبعينات، كان سركون قد استقر في أميركا وبدأنا نتابع قراءته في مجلة شعر، ثم مواقف. لم نستطع الاتصال به والكتابة إليه بسبب عدم توفر عنوانه. قررنا، أنا وجان دمو، إنهاء خدمتنا العسكرية، لعلنا نستطيع بعدها الحصول على جواز السفر والهجرة. لكننا حتى بعد تلك السنوات المنهكة في الجيش وفي العطالة بعدها، لم نستطع الخروج. أنا بسبب وجود قضايا ضدي لم تحسم بعد، لاعتقالي في الماضي ونشاطي المعارض. كان على الانتظار حتى أواخر العام 1974، حيث قرر الشاعر عبد الوهاب البياتي مساعدتي وحصلت على جواز سفر بواسطته. كنت آنذاك عاملاً في "الشالجية"، أحد مواقع إدامة القطارات وتصليحها من قبل مؤسسة السكك الحديد العراقية، وأنشر قصائدي في مجلة " الكلمة " العراقية.
كنتُ أعطيت البياتي مجموعتي الاولى "رهائن" ليقرأها قبل نشرها من قبل اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وبفضله حقاً نشرت، كما ساعدني في نشر قصائد لي في "الموقف الأدبي" وفي "السفير" وغيرهما.
*
بعد بقائي لحوالى سنتين في دمشق وبيروت، استطعت الحصول على ترخيص لزيارة بريطانيا كسائح لمدة شهر، في أواسط العام 1976، وبعد وصولي إلى لندن، بقيت فيها لعشرين سنة. بعد أشغالٍ بائسة، استطعتُ الحصول على وظيفة مصحح في مؤسسة سعودية، ثم في مجلة الدستور. خلال سنتين بدأتُ أكتبُ وأترجم فتغير عملي إلى محرر. في العام 1982 التقيت الشاعرة والباحثة الفلسطينية سلمى الجيوسي وأجريت معها مقابلة، أثناء حديثنا فاجأتني بخبر ترجمة بعض قصائدي إلى الانكليزية في مختاراتها للشعر العربي الحديث، وأخبرتني بان سركون ساهم في الترجمة وكانت تلك فعلاً صدمة لي. رجوتها أن تعطيني عنوانه في أميركا، ففعلت وأعطتني أيضاً رقم هاتفه هناك. لم أستطع السيطرة على حماسي وفرحي بهذه المصادفة المذهلة. في الليل خابرته. وكانت هكذا:
- مرحباً، هل أنت سركون بولص؟
- نعم. من يسإلني رجاءً؟
- اسمي صلاح فائق. تتذكر هذا الاسم؟
- لايمكن، هذا جنون. أين أنت ؟
- في لندن، أعطتني الشاعرة سلمى الجيوسي اليوم عنوانك ورقم هاتفك.
- أعتذر، لا أستطيع تصديق كل هذا. أرجوك اعطيني رقم هاتفك وسأخابرك فوراً. فقط أريد أن أتاكد. أنا مصدوم حقاً.
وهذا ما حصل بعد دقائق، ودامت مكالمتنا أكثر من ساعة. سالني كل شيء عن نفسي خلال كل تلك السنوات منذ افتراقنا، وأيضاً عن أصدقائنا في جماعة كركوك، واحداً بعد آخر. أخبرته عن عملي ونشاطي
الثقافي والشعري مع مجموعة من السرياليين البريطانيين، وصدور مجموعات شعرية لي.
[رسالة من سركون بولص إلي صلاح فائق. من أرشيف صلاح فائق]