أخذتُ قبل بدايات التسعينات أتبادل الرسائل مع سركون بولص المقيم في سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، كنّا نتحدث على الأغلب في رسائلنا عن الماضي الخاص بسركون والذي أعرف بعضه بشكل غامض، وهو يصحح لي هنا وهناك، وبالطبع كان حديثنا الأهم عن نشر قصائده، لكن الأمور سارت بوتيرة غير الوتيرة التي أرادها سركون لمراسلاتنا، وهو معروف عنه البطء، والكسل وتأجيل انجاز المشاريع لآلاف المرات، لكن الأمور، كما قلتُ سارت بوتيرة مغايرة حينما احتل صدام حسين دولة الكويت، وإذا بي وجهاً لوجه مع سركون بولص ببرلين وقد قدمنا من مناطق مختلفة من العالم لكي نلتقي ونتحدث كمثقفين عراقيين، بعد هذا اللقاء ذهب سركون للإقامة قرب مدينة هامبورغ شمال ألمانيا حيث يقيم أقارب صديقته إلكه، وعدت إلى مدينتي كولونيا، وبعدها بأشهر جاءني من سركون مظروف كبير هو ديوانه: الأول والتالي، وقد صدرت طبعته الأولى عام 1992، وبعدها بفترة قصيرة حل سركون نفسه ببيتي، حيث كنت أقيم بشقة كبيرة نوعا ما، وقد أقام عندي لسنوات وعلى فترات متقطعة. هذه الإقامة هي أطول إقاماته خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وخلالها تم نشر أغلب كتبه وصدرت ترجمات ألمانية لقصائده وقصصه في كتب مستقلة.
وهنا تبيّن لي بأن سركون شخص ليلي، في حين أني شخصي نهاري، أي أني استيقظ بشكل مبكر، في حين كان سركون لا يستيقظ قبل الواحدة بعد الظهر إلا نادرا وفي حالات خاصة جداً، وهو غير منظم بالمرة، فرماد سكائره يملأ الغرفة أو كل زاوية في الشقة يحل بها، وهو لا يرتب فراشه، وقلما يتركه حتى في أوقات يقظته، إلا للذهاب إلى الحمام أو اثناء تناول الطعام أو حين يبدأ رحلته مشياً في المدينة، كما لم أره يغسل الصحون أو حتى يجمعها، أو يصنع القهوة أو الشاي، ولو حدث وقام ببعض الأعمال من هذا النوع لوجدت نفسي أعيد جلي الصحون أو تنشيفها بعده من جديد، بالطبع هناك استثناءات، فلو حدث وزارتنا سيدة شابة أو حتى سيدة فيها بقية من الجمال فهنا تتجلى حيوية سركون ويقوم بنفسه بتحضير القهوة لها، وبالطبع لا يعرف سركون من الطبخ إلا طبخة إيطالية هي طبخة السباغيتي. بجانب هذا سركون مشّاء، حاله حال فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وأنور الغساني، فهم شرّابي شاي ومدخني سكائر مدمنين. فشعلة سكائره مستمرة، تلك السكائر التي يلفها بعناية، (اختار سكائر اللف بسبب سعرها الرخيص). وهو حينما يكون في سريره يكون في حالات ثلاث، قارئاً نهماً لأيام متتالية، أو غاطاً في لحظة تأملية طويلة، أو يدوّن في أوراق أو دفاتر صغيرة ملاحظات هي عبارة عن صور شعرية، أو مقاطع من قصائد قادمة، أو يعيد صياغة قصيدة كتب ملاحظاتها الأولى منذ سنوات بعيدة، وسركون يحمل العديد من الدفاتر المليئة حتى آخرها بهذا الخطب من القصائد الخديج، أي القصائد التي لم تلد بشكل نهائي، وهو يشتغل على القصيدة كتابة وترجمة لأيام وليالٍ، بل لسنوات يجلو القصيدة مرة تلو المرة، وهو شديد مع قصيدته لا يطلق سراحها إلا بعد إشباعها تمحيصاً، ودائما حينما كنت أعيد إليه الكتاب مُنضّداً بعد أتمّ صياغته الأخيرة، يعيد سركون جلي الكتاب وكأنه يكتبه للمرة الأولى.
وسركون بولص متحدّث غير ملول عن الكتب، بل شغوف جداً، بأنواعها المختلفة، وحالم كبير بانجازات ترجمة لهذا الكتاب وذاك، وهو كاتب قصة، تنضج تفاصيل القصة برأسه قبل كتابتها، وكثرما سرد لي قصصاً لم يستطع كتابتها.
وسركون اجتماعي جداً حين يجد نفسه وسط الناس، ولكنه قلما يتلزم بمواعيده بالإتصال أو بالكتابة، إلى الدرجة التي دفعتني إلى أن اقوم بتذكيره بشكل دائم ببعض الأشياء وتسهيل القيام بها، ومنها مثلاً الكتابة إلى صديقته إلكه في أمريكا أو الإتصال تلفونيا بها على الأقل.
ولهذا السبب وغيره شاعت عن سركون صفة الكسل وعدم الإهتمام والخمول، سركون الذي لم يعمل في وظيفة ثابتة إلا لفترة قصيرة في اليونان بفضل يوسف الخال أو انسي الحاج لم أعد أتذكر، حيث كان يذهب أحيانا إلى الدوام لمدة ساعة، لكن سركون مراقب كبير ودقيق، لم يزر مدينة أو مكاناً إلا وتجد أن شاعرنا قد استل تلك الصورة أو الحادثة في إحدى قصائده، وأعماله الشعرية والترجمات والحوارات المنشورة وغير المنشورة تتجاوز الألفين وخمسمائة صفحة وهذا شيء كبير، عاش حياةً جميلةً، لكنها أليمة وغنية بانجازاتها الأدبية، كنا نحتال على الفقر والعوز بطرق عديدة، وهو عاش بعزّ، وقد كنت معه على الأقل في بلدين عربيين دُعي لهما، هما المغرب وعُمان، وهناك كان يمكنني أن ألمس حقيقة حضوره لدى الأجيال الجديدة، وقد حاولت كثيراً لدى العديد من معارفي ترتيب زيارة له لهذا البلد أو ذاك، مصر مثلاً أو لبنان، ولكننا قوبلنا بالتجاهل كالعادة. وهو لم يسعَ وراء الشهرة أو الجاه، كانت قصيدته تربطه، بل قل تشدّه بحبلٍ إليها، وهو بقي مشدوداً بهذا الحبل حتى وهو يحتضر في شقة مؤيد الراوي ببرلين... ففي لحظات هدوء الألم القليلة رتبتُ معه غلاف مجموعته الشعرية الأخيرة: عظمة أخرى لكلب القبيلة، والتي وضع الرسام العراقي ضياء العزاوي رسمة لها وبعد 36 ساعة تقريباً رحل سركون بولص.