عندما سأل أحد الأِشخاص "ماو تسي تونج" يومًا عن رأيه في الثورة الفرنسية، فكان رده "إن من المبكر الحكم عليها". ويذكرنا هذا بأن الحكم على حَدَثٍ في التاريخ بأنه كان ثورة من عدمه ليس جدلا أكاديميًّا أو نظريًّا بقدر ما هو جزء من الظاهرة التاريخية ذاتها محل التشكل في زمن كتابة هذه السطور. ورصد وتسجيل وكتابة التاريخ جزء من الثورة كعملية تحول (أو احتواء للتحول فيما يعرف بالثورة المضادة)، ويكفي تذكر كلمات الفيلسوف "وولتر بنيامين" عندما قدم تشبيها للتاريخ بأنه مَلَك فاتح جناحيه يمضي بظهره إلى الأمام مدفوعًا برياح الزمن فلا يرى برأسه إلا ما مضى، لأن التاريخ هو عقلنة لما وقع، ولكن الملك في الوقت نفسه يُدفع دفعًا. وهكذا يصبح التاريخ هو المستقبل الذي حدث، وتزول الفوارق الفلسفية بين المستقبل والحاضر والماضي.
خلاصة هذه المقدمة المتفلسفة أن تاريخ الثورات إنما يقع في مستقبلها، وفي التغيرات التي تنتجها أو تعجز عن إنتاجها في الأيام والسنوات التي تلي وقوعها. ومن ثم يُحكم على الثورة بما إذا كانت ثورة حقًّا أم حركة للإصلاح، وما إذا كانت قد أحدثت تغييرات فحسب في المجال السياسي فجعلته أكثر ديمقراطية أو سلطوية، وما إذا امتد التغيير إلى الاقتصاد فجعله أكثر تنموية وعدالة في الوقت نفسه، أم أن الوضع ظل على ما هو عليه قبل الثورة، وتغيرت نخب لتحل محلها أخرى بذات المنطق القائم على الإقصاء والاستبعاد من المشاركة في ثمرات النمو الاقتصادي.
إن هذا التحليل يطرح التساؤل حول الثورات وارتباطها من عدمه بنظريات الاقتصاد والتنمية، فهو يهدف إلى استكشاف الأطر والعلاقات النظرية لأدبيات التنمية في الأجيال المختلفة للثورات بدءا من الثورة الفرنسية ومرورا بالثورات الاشتراكية وموجات التحول الديمقراطي في التسعينات، وإنتهاءاَ بثورات الربيع العربي، كما يسعى إلى مناقشة محددات تبني نموذج تنموي في مراحل التحول بعد الثورات.
الجيل الأول: الثورات كمدخل للتغيير الاجتماعي
لم تكن الثورة الفرنسية في فكر الحداثة مجرد انقلاب أو انتفاضة أو تمرد أو هبة، وإنما هي فاصل بين النظام القديم بعصره ونظمه وبين عصر جديد بعصره ونظمه وفكره، ومن هنا، نشأت نظريات كثيرة ترصد مقدار الاستمرارية بين فرنسا قبل وبعد الثورة، إذن فإن فكرة الثورة -كفعل- قائمة على التسليم بهذا القطع المحتمل بين الماضي والمستقبل، بين نظام وآخر.
فالثورة تجلٍّ سياسي لعقلانية الحداثة التي تفترض أن للعالم نظامًا دقيقًا يبدأ بالشمس والقمر والأرض والبحار، ويمر بالمجتمعات ونظم الحكم والثروة، وأن هذا النظام يمكن تغييره أو تعديله بما يتوافق وقوانين الطبيعة هذه التي يدركها العقل. وقد كانت الثورة الفرنسية تدعي أنها عملية التحول الفارق بين نظام إقطاعي قديم ينافي العقل ومنطق التاريخ والتحول، ونظام جديد سيولد على الحرية والمساواة والأخوة، بما يعنيه هذا من تغير في مناحي النظام الاجتماعي المختلفة.
ومن هنا، أتى إلينا تقييم الثورات بالنجاح والفشل، متمثلاً في مقدار التغيير والتحول اللذين قامت الثورة باسمهما. وهذا التغيير أو التحول لا يرد إلا على تصور ما لنظام اجتماعي متكامل، وهذا التصور "النظمي" للمجتمع إنما هو ابن آخر من أبناء الحداثة يلزم لظهور مفهوم وظاهرة كالثورة. فالثورة هي تغيير غائي واعٍ وعاقل للنظام الاجتماعي برمته، سياسي فيما يتعلق بقواعد ممارسة السلطة من حقوق وحريات بين الأفراد والمجتمع والدولة، واقتصادي كذلك فيما يتعلق بقواعد تنظيم الملكية وتوزيع الدخل.
وهكذا رأى المؤرخون اللاحقون في القرن التاسع عشر والعشرين الثورة الفرنسية باعتبارها التحول من نظام الإقطاع إلى الدولة الحديثة، وبالأفراد من عبيد أرض ونبلاء إلى مواطنين متساوين أمام القانون، ومن الإنتاج والتوزيع الإقطاعي القائم على حيازة الأرض إلى التصنيع القائم على حيازة رأس المال. ومن هنا كانت نقطة التماس بين الثورة الفرنسية والفكر الديمقراطي ابن تنوير القرن الثامن عشر والمدارس الاشتراكية بنت النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
الجيل الثاني: الثورات الاشتراكية وتحولات نظم الإنتاج
لقد كان جهد المدرسة الاشتراكية في كثير من تياراتها هو تطوير الميراث التنويري للثورة الفرنسية، ولعلنا نتذكر مقولة "هيجل" عندما قال كانت الثورة تجري في فرنسا، ويجري التنظير لها في ألمانيا. وقد تناول ماركس وإنجلز الجدلية الهيجيلية، وطورا نظرية للتاريخ قوامها المادية الجدلية، والتي ترصد قواعد التحول بين أنماط إنتاجية مختلفة تؤدي في نهاية المطاف إلى الرأسمالية، ثم ترثها الاشتراكية. وجمعت الماركسية بين تنظير هيجيل لفلسفة التاريخ باعتباره حركة دائبة من الجزئي إلى المطلق حتى تتحقق روح التاريخ متجلية في حرية الإنسان عبر مؤسسات المجتمع، وبين تصورات حركية عن الثورة.
ولم تخرج هذه القراءات عن الميراث التنويري الذي كان يرى خلاص الإنسان في التعرف على القواعد التي تحكم العقل والطبيعة، وكانت الثورة هي تجلي إدراك الإنسان لهذه القوانين، وترجمة هذا الإدراك إلى فعل سياسي هو الثورة بغية استكمال التحول الاجتماعي نحو الاشتراكية.
إن السمة التي ميزت الإنتاج النظري للمدارس الاشتراكية، والماركسية خاصة، هو ربط الثورة بشكل مباشر بتغيير أنماط الملكية السائدة في المجتمع. وقد قدمت هذه المدارس في العموم نقدًا معمقًا ومعقدًا للجذور التاريخية للملكية الخاصة، ولديناميات النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة والاستغلال وغيرها. وكان من المفترض أن تؤدي ثورة العمال إلى إتمام تغيير هذه الأنماط، وبالتالي التوصل في نهاية المطاف إلى زوال تقسيم العمل الحديث بين العامل وصاحب رأس المال بما يعني تحقق الروح الكلية للتاريخ في لغة فريدريك هيجيل صاحب فلسفة الجدل العتيد.
لقد لعب هذا الأساس النظري دورا في تفجر الثورات الاشتراكية بين 1870 في فرنسا وحتى الثورة البلشفية في روسيا في أكتوبر 1917، وما عايشها من ثورات لم يكتب لها النجاح في ألمانيا والمجر وفنلندا. وكان التحول السياسي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتحول الاقتصادي من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومن اقتصاد السوق إلى اقتصاد مركزي تحكمه الدولة طبقًا لاعتبارات سياسية، ومن الملكية الخاصة إلى تلك العامة. وتعددت نماذج التطبيق، وفجر الكثير منها الجدل في لحظات مختلفة حول مدى تقاطعها أو تقاربها مع الفلسفة الماركسية التي أتت بهذه الثورات في المقام الأول، ولكن الخلاصة أن الجيل الثاني هذا من الثورات التي عرفت بالاشتراكية كان هدفه إجراء تحول كامل في نظام الملكية والإنتاج باستخدام الدولة التي يتحقق من خلالها مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا.
على أن التنظير للتحول الثوري لم يقتصر على المجتمعات الوطنية فحسب، وإنما امتد إلى التنظير للنظام العالمي كذلك، وكيف ترتبط هذه الوحدات السياسية القومية ببعضها بعضًا من خلال روابط التجارة، وانتقال رءوس الأموال والحروب والاحتلال، وهو ما تجلى في نظرية لينين حول الإمبريالية، والتي ربط فيها بين التوسع الإمبريالي وبين آخر مراحل تطور الرأسمالية، حيث يوجب نمط مراكمة رأس المال في مرحلة ما المجتمعات الرأسمالية على البحث عن أسواق في الخارج، وعن مصادر للحصول على مواد خام رخيصة، ومن هنا يأتي الاستعمار وتأتي الإمبريالية كنظام عالمي.
وقد كان هذا الربط باستخدام إطار "النظام" للتنظير وتفسير العالم أساسًا لكثير من النظريات السياسية والأكاديمية في القرن العشرين فيما يعرف بالعالم الثالث أو العالم النامي، ويقصد به الدول المستعمَرَة التي كانت تسعى للتحرر من ربقة الاستعمار. فبدأت تتطور مفاهيم المركز والأطراف شيئًا فشيئًا، ففي كتابات تروتسكي نلحظ تعقيدًا يجمع بين تطور المجتمعات غير الصناعية ودورها في الاقتصاد الإمبريالي بحيث لم تعد النظرة هي أن الصين والهند ومصر المستعمرة مجتمعات تقليدية في طريقها للحداثة، ومن الزراعة للتصنيع، وإنما رؤية أن وضع هذه المجتمعات اقتصاديًّا كبلدان متخلفة تقوم على إنتاج المواد الخام الرخيصة لصالح المستعمر جزء لا يتجزأ من الاقتصاد الرأسمالي العالمي في مرحلة الإمبريالية.
وقد كان منطق مشابه هو الذي طورته الحركات القومية والشيوعية على حد سواء في مقاومتها للاستعمار بين ثلاثينيات وستينيات القرن العشرين، وهو ما تجلى في فكر "ماو تسي تونج" و"هو تشي منه"، وكذا الزعماء القوميون الذين انخرطوا في بناء الدول القومية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وكان لديهم التخلص من الاستعمار ثورة، بحيث استخدم المصطلح بشكل مطاط للغاية، وظهرت تنويعات قومية عدة من الماركسية والفكر الاشتراكي عامة كما هو الحال مع الناصرية والبعثية والنيكرومية والكمالية وغيرها كثير من أيديولوجيات العالم الثالث.
هذا المؤثر الاشتراكي سواء القومي أو الشيوعي المناهض للاستعمار لعب دوراً في تفكيك التركة الإمبريالية، وإحداث التحول الاجتماعي والاقتصادي المنشود نحو التصنيع والتعليم العالي والتقدم التكنولوجي، وذلك باستخدام الدولة الموروثة من الاستعمار كأداة لبناء تحالفات اجتماعية ممتدة تستثمر من ناحية في بناء الأمة القومية، ومن ناحية أخرى في التنمية الاقتصادية التي تُديرها الدولة بالاستثمارات العامة وبملكية القطاع العام وباقتصاد تخطيط مركزي، كان هذا هو الحال في الدول ذات النزوع الاشتراكي في الخمسينيات والستينيات كمصر والهند، كما كان الحال في البلدان ذات النزوع الرأسمالي كتركيا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين وكوريا الجنوبية.
كانت الدولة جزءًا أساسيًّا من العملية السياسية والاقتصادية. وكانت الأدبيات التي تتناول الاستقلال تجمع بين الاستقلال السياسي وذلك الاقتصادي، وتبشر بدور أكبر للدولة، وباقتصاد موجه محليًّا حتى يُفصل عن إعادة إنتاج أنماط الاستغلال مع المستعمر القديم. نجد هذا في كتابات نظريات التبعية في الفترة ذاتها بتنويعاها الكثيرة، كما نجده في أطراف أكثر محافظة ككتابات بريبيش مثلا حول التنمية الصناعية في أمريكا اللاتينية.
ومنذ الثورة الإيرانية في 1979، شهد التنظير للثورات وعلاقتها بالتحول السياسي والاقتصادي طفرة، فقد ورثت الثورة بمكونها الإسلامي الذي قدر له الغلبة في مطلع الثمانينيات العناصر المعادية للاستعمار والإمبريالية، ولكن الثورة خرجت عن النمط القومي الاشتراكي المألوف الذي غلب على الخمسينيات والستينيات لصالح نمط هوياتي إسلامي انعكس على شكل الدولة، وكذلك على السياسات العامة بما فيها الاقتصاد. وكانت الثورة الإسلامية مدفوعة بدوافع الأصالة، وإيجاد إجابات لأسئلة الحداثة من داخل التراث. ورغم خصوصية الثورة الإسلامية في إيران، كونها أول ثورة على اليمين كما صنفها البعض، أو أول ثورة غير اشتراكية كما تناولها ميشيل فوكو في مقالاته المتتابعة بين 1979 و1981، إلا أنها تظل تجليًا أصيلاً لأيديولوجيات العالم الثالث والأطراف.
[ميدان التحرير في الذكرى الثانية لإنطلاق ثورة يناير المصرية. تصوير جيجي إبراهيم]
الجيل الثالث: التحولات الديمقراطية وهيمنة النيو ليبرالية
أطلق صمويل هنتنجتون على موجة سقوط السلطويات في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية الموجة الثالثة للديمقراطية بسقوط النظم الفاشية في البرتغال وإسبانيا في 1974 و1975 وتلتها اليونان التي تعافت من الانقلاب العسكري، ثم بدأت سلسلة انهيارات للنظم العسكرية في الأرجنتين والبرازيل وبيرو وأوروجواي. ومع انتصاف الثمانينيات كانت أزمات النظم الشيوعية في شرق ووسط أوروبا الاقتصادية قد بلغت درجات شديدة من التفاقم مع انخفاض مستويات الاستهلاك الكلي، وتراجع قدرة الاقتصاديات هذه على توليد ما تحتاجه من عملة صعبة لصيانة قدرتها على الإنتاج، وما أسفر عنه هذا من ارتفاع شديد للمديونية الخارجية لمؤسسات مالية في الغرب.
ومع عقد أول انتخابات حرة في بولندا وسقوط جدار برلين 1989 أخذت النظم الشيوعية السلطوية تتساقط واحدة تلو الأخرى في تشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا. وبدا أن العالم بصدد موجة رابعة للتحول الديمقراطي. ولكن الملاحظ أن هذه الموجات المتأخرة للتحول الديمقراطي قد تماشت مع التحول للاقتصاد الرأسمالي، وخاصة مع هيمنة التصورات النيوليبرالية على السياسات العامة منذ نهاية السبعينيات مع صعود مارجريت تاتشر إلى سدة الحكم في بريطانيا، ثم انتخاب رونالد ريجان رئيسًا.
تماشى التحول السياسي في بلدان شرق ووسط أوروبا إلى الديمقراطية يدًا بيد مع التحول إلى اقتصاد رأسمالي بإعادة هيكلة المجال السياسي ليكون ديمقراطيًّا وضامنًا لحقوق الإنسان من ناحية، وضامنًا لحقوق الملكية الخاصة من ناحية أخرى. وخدم الظرفان الإقليمي والعالمي هذه الصيغة من التحول؛ إذ كانت الأيديولوجيا الليبرالية بصيغتيها الاقتصادية والسياسية في الصدارة مع سقوط الكتلة الشرقية، وصعود نظريات نهاية التاريخ على حد تعبير فرنسيس فوكوياما في كتابه الشهير "نهاية التاريخ"، وكان تمدد الاتحاد الأوروبي شرقًا وتوسيع عضوية الناتو كفيلين معًا بتوفير تدفقات رأسمالية ضخمة للغاية تعوض العجز الناتج عن تدني معدلات الادخار المحلي، وتمول التحول الاقتصادي نحو اقتصاديات أكثر إنتاجية وأكثر رخاءً، وإن كانت أكثر إلحاقًا بالاقتصاديات الكبرى في غرب أوروبا.
ونتج عن هذه التحولات في التسعينيات إنشاء نظم ديمقراطية ليبرالية محافظة إلى حدٍّ كبير على أساس قصر التحول على الجانب السياسي، وفصله عن الاقتصادي والاجتماعي، وإسناد هذين الآخرين لقوى السوق التي طالما عطلت تحت حكم الشيوعية والتبعية للاتحاد السوفيتي.
وعبرت أدبيات التحول الديمقراطي عن هذه المحافظة في قراءة وتعريف الديمقراطية السياسية، فتصورات شميتر وأودونيل ووايت هيد في كتاباتهم الشهيرة حول حالات التحول الديمقراطي في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية ترى الديمقراطية في شقها الليبرالي بالأساس، وتراها نتاجًا لحالات تفاوض واتفاق بين النخب القديمة والجديدة، ولا تنظر للجماهير باعتبارها فاعلا مستقلا أو حاضرًا بذاته إلا من خلال النخب التي تحركها أو تحشدها. ويترتب على هذه الرؤية بالطبع النظر للديمقراطية كإنشاء لمجال سياسي مفتوح يستوفي الشروط الإجرائية للانتخاب والترشح الحر والمشاركة السياسية مع الجوانب الحرياتية الأساسية المدنية والسياسية، ولكن في ظل غياب أية تصورات حول العنصرين الاقتصادي والاجتماعي، ومدى اتصالهما بالتحول الديمقراطي من ناحية، والتمكين السياسي للفئات المهمشة اقتصاديًّا من خلال آليات التمثيل الديمقراطي.
والحق أن هذه التصورات تتقاطع إلى حد كبير مع التصورات الليبرالية للديمقراطية التمثيلية، والتي يقتصر فيها مفهوم السياسة على إدارة الشأن العام مخصومًا منه جملة من الحقوق والحريات الفردية التي تتجلى في المجال الخاص من ناحية، وفي آليات السوق لتوزيع الموارد من ناحية أخرى. ولعلنا نتذكر كيف أن آباء الفكر النيوكلاسيكي الاقتصادي مثل فون هايك في كتابه الشهير Individualism and economic order، ثم ميلتون فريدمان Capitalism and Freedom كانوا يرون أن من دعائم الليبرالية السياسية عدم لعب الدولة دورًا مذكورًا في الاقتصاد بالتنظيم أو إعادة توزيع الدخل من أعلى لأسفل. وكان "فون هايك" الاقتصادي النمساوي الشهير والذي هرب من قبضة النازي إلى الولايات المتحدة، يرى أن ترتيبات دولة الرفاه التي تربط الديمقراطية بتوزيع لا الحقوق السياسية فحسب بل والاقتصادية كذلك كأساس من أسس المواطنة، وتكوين الجماعة الوطنية ضربًا من ضروب الفاشية، وبالتالي تناقضا فجا وواضحا مع مبادئ الحريات من المنظور الليبرالي على نحو يجعل من بقاء الديمقراطية أو التحول إليها قائما على شرط حريات السوق والملكية الخاصة.
ومع تسيد المنظور النيوليبرالي والنيوكلاسيكي للاقتصاد في العالم منذ الثمانينيات، وتدعيم قبضته في التسعينيات أصبح على التحول الديمقراطي أن يتعايش مع مقتضيات التحول الرأسمالي في صيغته النيوليبرالية المدعومة من الولايات المتحدة والمؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد والبنك الدوليين. والمتابع للحال في أمريكا اللاتينية يرى تلازمًا بين إطلاق الحريات السياسية بعد سقوط العسكر، وتطبيق بعض السياسات النيوليبرالية الأشد قسوة وخاصة في حالة كالأرجنتين في ظل حكم كارلوس منعم، والذي نجح في أن يعاد انتخابه مرتين رغم قسوة الإجراءات التحريرية الاقتصادية التي اتخذها، والتي أدت لارتفاع شديد في معدلات البطالة وتوزيع الدخل من أسفل لأعلى.
ويتقاطع هذا مع ما درسه عالم السياسة الشهير آدم شوفورسكي بشرق أوروبا عندما لمح في مطلع التسعينيات مؤشرات تفيد ارتفاع شعبية الأحزاب الليبرالية رغم تزايد الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن إعادة هيكلة الاقتصادات في هذا الجزء من العالم، وكان تفسيره في هذا أن البدائل المطروحة للتحرر السياسي من ربقة النظم الشمولية لا تكاد تنفصل عن إنشاء نظام سوق يؤمن الالتحاق بالمعسكر الغربي، ونيل عضوية أوروبا. وقد قدم بويكس في دراسة له تفسيرًا للتحول الديمقراطي المتماشي مع النيوليبرالية بقوله إن هذه التحولات السياسية جرت في الثمانينيات والتسعينيات حينما كان رأس المال قد اكتسب صفة متجاوزة للوطنية، وصفة سائلة في ظل اقتصاد مالي عالمي متشابك، وفي ظل تحرير موازين التعامل الرأسمالي بما يسمح بنقل رءوس الأموال الكبرى من بلد لآخر، وهو ما انعكس على قدرة الدول عامة على تحميل رأس المال تكاليف أو أعباء من أجل إعادة توزيع الدخل من خلال سياسات ضريبية على سبيل المثال.
ومن هنا، فإن التحول الديمقراطي لم يؤد حقًّا لتحقيق مطالب إعادة توزيع الدخل، فأصبحت الديمقراطية حديثة العهد هذه أكثر تمشيًا مع التحولات الرأسمالية، بل ومنحت شرعية أكبر للإجراءات النيوليبرالية رغم ما تنطوي عليه من الإفقار والتهميش. ولعل الملمح الأساسي الذي أجمعت عليه دراسات التحول الديمقراطي فيما بعد أن معظم حالات التحول الديمقراطي في شرق ووسط أوروبا وفي أمريكا اللاتينية قد شهدت تراجعًا ملموسًا في معدلات المشاركة السياسية سواء في الانتخابات أو في الانضمام للأحزاب حتى قاربت 20% فحسب في بعض الدول. وأن جزءًا من هذا كان متصلا بالطبيعة المحافظة للنظم السياسية التي نشأت، والتي أمست عاجزةً بحكم تصميمها المؤسسي والسياسي عن الإجابة على الأسئلة المتصلة بالاقتصاد، أي أنها باتت نُظُمًا ديمقراطية محافظة.
[متظاهرون يواجهون قوات الآمن في شارع الحبيب بو رقيبة في تونس. مصدر الصورة وكيميديا]
محددات النموذج التنموي بعد الثورات
إن التطور السالف ذكره للعلاقة بين الأجيال المختلفة للثورات ونظريات التنمية يفرض تساؤلاً رئيسياً، هل من محددات لتبني نظرية تنموية في مراحل ما بعد الثورات؟
إن ثمة عوامل تاريخية عدة تتداخل لترسم صورة التحول الاقتصادي الذي يلي التغييرات السياسية الحادة كالثورات، أبرزها هو السياق العالمي الذي تُجرى فيه الثورات، وما ينجم عنه من تأثيرات على فرص التحول الاقتصادي والاجتماعي في البلدان التي شهدت ثورة، ولا ينحسر تأثير السياق العالمي على تدفقات الأموال والتجارة، ولا على ظروف الحرب والسلام، بل يمتد لعالم الأفكار كذلك، ويشكل من هنا التصورات المحلية المختلفة إزاء أسئلة التنمية الاقتصادية. وتؤثر هذه التصورات على النخب المحلية التي تقفز للحكم بعد الثورات، وقراراتها الخاصة بإنشاء قواعد اجتماعية للنظام السياسي المعبر عن الثورة، والتي تنعكس بدورها، وبوضوح على محتوى السياسات والمؤسسات التي تجمع بين الدولة والاقتصاد وتحدد طبيعة النموذج التنموي، ومدى تأثره بالتغيير السياسي الناجم عن الثورة.
ومن هنا يمكن القول إن الأجيال الأولى من الثورات في القرن العشرين طالما ربطت التغيير السياسي الفجائي الناتج عن الثورة وتحطيم هياكل السلطة القائمة بإعادة صياغة العلاقات مع النظام الرأسمالي سواء بتحولات في بنية الاقتصاد ومؤسساته الحاكمة خاصة فيما يتعلق بدور الدولة في الإنتاج والتوزيع أو فيما يتعلق بحقوق الملكية، أو فيما يتعلق بعلاقة الاقتصاد الوطني بالنظام الرأسمالي العالمي. وقد كان هذا متحققًا في الجيل الأول من الثورات الاشتراكية، ثم في الجيل الثاني من الثورات القومية والاشتراكية في العالم الثالث المستعمر.
بيد أن هذا الأمر ما لبث أن اختلف وتحور مع انتهاء الحرب الباردة؛ حيث أصبح المفهوم الغالب للثورات ضد السلطة أكثر محافظة في جمعه بين السياسة والاقتصاد بأن تماشى تهاوي النظم السلطوية العسكرية في أمريكا اللاتينية وقبلها في جنوب أوروبا ثم في الشيوعية في شرق ووسط أوروبا بالتحول الديمقراطي والرأسمالي يدًا بيد. وأصبحت الصياغات المتأخرة للثورات أقرب لتحييد السياسة كأداة لإدارة الاقتصاد لصالح مزيد من الاعتماد على السوق الحرة. وكان الظرفُ العام العالمي مؤيدًا لمثل هذه التحولات بوجود سيولة ضخمة في مركز النظام الرأسمالي، ونشاط حركة التجارة العالمية، وأفول نجم الأيديولوجيا بشكلها العام لصالح صياغات ليبرالية سياسية واقتصادية.
[متظاهر في البحرين. المصدر وكيميديا والجزيرة الإنجليزية]
الثورات العربية وغموض بدائل تنموية
لعل ما يثير التساؤل اليوم والعالم يشهد ثورات وانتفاضات جديدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو كيف سترتبط السياسة بالاقتصاد مرة أخرى في زمن يعاني فيه النموذج الاقتصادي الرأسمالي من متاعب وصعوبات جمة ترشحه لتغييرات سواء في مركزه أو أطرافه. وهنا تصبح أسئلة التحول على المستوى الوطني أو المحلي مجرد أسئلة فرعية لسؤال مركزي يمس مستقبل أو مصير النظام العالمي ككل.
اللافت أنه ما من ثورة عربية قد خرجت بتصورات أيديولوجية واضحة لما يجب أن تكون عليه الدولة بعد الثورة من سياسة واقتصاد ومؤسسات المجتمع المختلفة، وعلاقة الدولة بالعالم الخارجي. ما من إجابات واضحة لهذا خلافًا للأجيال السابقة من الثورات والتحولات السياسية الكبرى. وينطبق هذا على اليمين كما ينطبق على اليسار.
فالإسلاميون قد تغير خطابهم كثيرًا بعد الحرب الباردة، وطال أيديولوجيتهم ما طال غيرها من ميوعة، وتقبل للترتيبات الليبرالية والنيوليبرالية في عالمي السياسة والاقتصاد، ولعل أحزابًا كالعدالة والتنمية في تركيا والمغرب، ومحاولات الإخوان في مصر والنهضة في تونس، تظهر تحول هذا الخطاب إلى تكرار صياغات ليبرالية اقتصاديًّا بالحديث عن الحكم الرشيد ومكافحة الفساد والتنمية، وسياسيًّا بالبحث عن مساحات للتوافق مع الديمقراطية التمثيلية وحقوق الإنسان.
ومن وراء هذا بالطبع قبول بذات الترتيبات الإقليمية والعالمية المرتبطة بالغرب ومصالحه. ويندرج تحت ما بعد الأيديولوجيا ما طال الجماعات اليسارية كذلك، والتي لا تزال تعاني من صور وألوان من التخبط الذي طال اليسار فيما بعد الحرب الباردة. وبعضها أقرب إلى تبني صيغ اليسار الجديد كما هي لدى الأحزاب الاشتراكية في أوروبا أو حزب العمال البرازيلي، والتي هي صياغات للتواؤم مع السياسات النيوليبرالية والاندماج في الاقتصاد العالمي. إذن خلاصة الأمر أن المنطقة العربية -وضمنها مصر- لم تشهد ثورة ذات صبغة معينة لا إسلامية ولا غيرها، بل هي تمايزات لصيغة واحدة تدور حول النموذج الليبرالي سياسيًّا واقتصاديًّا.
بيد أن ما يميز هذا الجيل من الثورات الشعبية أنه قد أتى في فترة تأزم النموذج الليبرالي جملة، فالثورات المصرية والتونسية واليمنية والليبية والسورية قد أتت في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي ضربت الولايات المتحدة ثم دول اليورو منذ نهاية 2008، وأخذت ضروبًا شتى من الاختلال والاضطراب الاقتصادي الذي مس بتدفقات التجارة ورءوس الأموال في النظام العالمي بشكل شديد الوطأة منذ نهاية الحرب الباردة.
وأمست هناك مشكلات جدية وعميقة في طبيعة هذا النموذج الاقتصادي بحكم تهميشه واستبعاده للغالبية من السكان من ناحية، وعجز ديمقراطياته عن تحسين مستويات المعيشة لهذه الغالبية من ناحية أخرى. وبالتالي فإن العالم العربي لا يعيش هيمنة الليبرالية كما عاشتها بلدان شرق ووسط أوروبا؛ بل يأتي التحول في خضم أزمة مستحكمة في مركز النظام الاقتصادي نفسه، وتصاعد الحديث عن دور الدولة في تعديل النموذج الاقتصادي. ويتماشى خفوت الخطاب الليبرالي الاقتصادي وتصوره للديمقراطية المحافظة مع جفاف تدفقات رأس المال الكفيلة بإتمام الانتقال السياسي دون مساس بالنموذج الاقتصادي المحلي.
ورغم هذا فإن بديلا لليبرالية السياسية والاقتصادية لم يتطور بعد. والأرجح أن العالم سيغادر عصر الثورات الأيديولوجية التي تستهدف التغيير بخطة واضحة المعالم مسبقة على الفعل لصالح تصورات إصلاحية، وهو ما حدا بآصف بيات عالم الاجتماع الإيراني الشهير بالقول إن ثورات العرب هي ثورات إصلاحية لأنها لا تستهدف إعادة صياغة راديكالية لعلاقة الدول بالاقتصاد العالمي، ولا تهدف لتبني نموذج معد مسبقًا للرأسمالية أو للديمقراطية، بل تقبل بهذه النماذج من حيث الأساس، ولكنها ترمي لتغييرها لتكون أكثر حرية وأكثر تمثيلا وعدالة للملايين الذين شاركوا في هذه الحركات بغية إسقاط السلطوية. ولعل الثورات التي شهدناها ونشهدها ما هي إلا مسيرات نضال طويلة حتى تتحقق حرية الإنسان من خلال مؤسسات مجتمعة تمامًا كما تحدث هيجيل أول مرة عندما رأى تاريخ البشرية مسيرة طويلة نحو الحرية، وأن تحقق الروح المطلقة هو تجلي حرية الأفراد من خلال المؤسسات التي تحكم حياته.
[صدر المقال عن مجلة "السياسة الدولية" وجدلية تعيد نشره بالإتفاق مع الكاتب]