ما هو الخطر الأكبر على الثورة؟ يخطئ من يظن أنه السلطة، أو حتى الثورة المضادة أيًا ما كانت درجة شراستها. الخطر الأكبر على الثورة هو قيادة غير ثورية تلجم، تنحرف يمينًا، وتخون. أناقش في هذا المقال مسألة الطابع الطبقي لـ30 يونيو، أو بمعنى أدق التناقض الطبقي بين قيادتها والقوى الاجتماعية المُنتظر أن تشارك بكثافة فيها.
من نوفمبر إلى يونيو
يختلف 30 يونيو 2013 عن 26 نوفمبر 2012 على الأقل في مسألة جوهرية واحدة. آنذاك كانت قوة دفع الحركة سياسية: محاولة الإخوان المسلمين الاستئثار بالسلطة عبر إعلان 22 نوفمبر الدستوري. وهي المحاولة التي أغضبت اليمين واليسار، الثورة والثورة المضادة، ومن ثَم شجعت طبقات غير ثورية أن تنزل – لأول مرة منذ 25 يناير 2011 – إلى الشوارع على أمل إسقاط الإخوان لمصلحة الثورة المضادة.
أما اليوم فقوة الدفع اجتماعية-اقتصادية. لو امتلأت الشوارع والميادين يوم الثلاثين من يونيو بالناس، فإن هذا لن يكون له إلا تفسيرًا واحدًا: الغضب الشعبي على الإفقار الواسع الذي حدث على مدار الشهور الماضية. ولا أظن أننا سنشهد هذه المرة نساء ورجال البرجوازية بكثافة كتلك التي رأيناها أمام الاتحادية قبل سبعة أشهر من الآن. فهم اليوم في حالة ذعر. ولا عجب، فالمعركة جادة وليست لها متعة نزهة نوفمبر الخريفية الرائقة.
لا يعني هذا أن الثورة المضادة لن تكون حاضرة بقوة في الشوارع يوم 30 يونيو. هو فقط يعني أنها – هذه المرة – سترسل جنودها وليس جنرالاتها: بعض القطاعات الرجعية من فقراء الحرافيش، وطبعًا جيش البلطجية المحترفين المأجورين.
لكن رغم ذلك يمكننا القول إن أغلبية جماهير 30 يونيو – إن كان الحضور الجماهيري كبيرًا في هذا اليوم – ستكون من بين الطبقات الكادحة التي دفعت ثمن عدم انتصار الثورة حتى يومنا هذا. فالتضخم – سلاح البرجوازية للقصاص من الفقراء – جنبًا إلى جنب مع سياسات التذلل أمام الرأسمالية الكبيرة، اعتصرا الطبقات العاملة إلى حد انتشار الغضب في أوساطها كالنار في الهشيم، وإلى حد أصبح من المنطقي توقع خروج قطاعات واسعة من المنتمين إليها للتعبير عن غضبها الثوري إزاء مرسي ورجاله وجماعته يوم الثلاثين من يونيو.
صراع الهويات
لكن المفارقة أن كثير من مهندسي الثلاثين من يونيو، وكذلك قيادات المعارضة الرئيسية المنضوية تحت لواء جبهة الإنقاذ، يعيشون حالة انفصال تام عن الغضب الشعبي. دع عنك الديماجوجية والشعبوية وخطاب الاستهلاك الإعلامي؛ ركز فقط في الطبيعة الطبقية للمعارضة الرئيسية لنظام مرسي. هل تعبر تلك المعارضة عن مطامح وآلام ملايين من الكادحين سيخرجون غاضبين إلى الشوارع بعد أن هدّهم الجوع؟
هذه المعارضة – بسبب طبيعتها بالذات – غاضبة لأسباب تنطلق من مواقع طبقية مختلفة عن تلك التي تنطلق منها الجماهير: مواقع البرجوازية الليبرالية/ القومية بتلاوينها المختلفة، وبالأخص بعد أن قررت أن "تتسامح" مع الرأسمالية الكبيرة والدولة القديمة ممثلة في جيشها وشرطتها وقطاعات من بيروقراطيتها. انطلاقًا من هذه المواقع، ترى المعارضة – التي تتبنى سياسات اجتماعية-اقتصادية شديدة الشبه بتلك التي يتبعها نظام مرسي – أن مشكلة النظام القائم هي بالأساس سياسية-هويتاية: الاستئثار بالسلطة، الأخونة، ومحاولة طمس الهوية المدنية للدولة المصرية الحديثة. وراء هذا الرطان السياسي-الهوياتي هناك مصالح طبقية بالتأكيد. لكن هذه ليست مشكلتنا هنا. مشكلتنا هي المفارقة التي تحدثنا عنها والتي ستلعب دورًا حاسمًا في الأيام والأسابيع القادمة.
حضرت بالصدفة اجتماعًا في مقر أحد الاتحادات النقابية بين قيادات عمالية وواحدة من شباب تمرد. تحدثت الشابة مُطالبةً الطبقة العاملة أن تتبنى مطالب تمرد المتمثلة في انتخابات رئاسية مبكرة وحكومة إنقاذ وطني ومجلس دفاع وطني "لأن العمال جزء من مصر، ولابد أن يتبنوا مطالب أجمع عليها المصريون". فلما رد عليها النقابيون بأن الطبقة العاملة لا تتحرك بضغطة زر وأن لا مبرر قوي لدي كثيرين من المنتمين لها لتبني مطالب من لم يعتبروا مطالبها المتمثلة – فقط – في العيش الكريم ذات أهمية، رغم أنها المطالب الحقيقية للشعب المصري بأسره، لما رد عليها النقابيون بذلك بُهتت وكأنها تدرك لأول مرة عمق الفجوة بين غالبية الشعب المصري وقياداته السياسية.
هذا حال شابة لا ذنب لها إلا أنها ولدت في زمن اختفت فيه مطالب الجماهير من على أجندة الساسة الليبراليين المتصدرين المشهد. فما بالنا بحال القادة الذين ينتمون – قلبًا وقالبًا – إلى طبقة أخرى بآمالها وأحلامها وطموحاتها.
حضور وغياب
يوم 30 يونيو ستغص الشوارع والميادين بالملايين من الفقراء الساعين إلى "العيش"، والكارهين لمرسي لهذا السبب بالتحديد، لكن القيادة ستكون، للأسف، محجوزة لآخرين. لا أحد يعلم بالضبط ما الذي سيسفر عنه هذا التوتر بين القمة والقاعدة في حركة واسعة غير منظمة ستعم البلاد وستتدخل فيها أيادي قذرة باحثة عن مصالح ضيقة وأنانية. لكن ما نعلمه، ونراه بأعيننا، أن الشحن الهوياتي منذ نوفمبر الماضي، على خلفية استقطاب إسلامي علماني يمتد لعقود، سيساعد بقوة على وضع المتاريس في المواضع الخطأ.
لا أحد في الطبقة السياسية المتصدرة المشهد اليوم، بألوانها الهوياتية المختلفة، لديه مصلحة في تغيير مواضع المتاريس. الجميع يريد انقسامًا رأسيًا على أساس هوياتي، أو على الأقل لا يريد أن يسعى في الاتجاه المضاد، لأنه يعلم تمام العلم أن هذا معناه تفتت جبهته، سواء "المدنية" أو "الإسلامية"، وأنا طبعًا هنا مهتم بالجبهة المدنية لأنها – للأسف – تضم بين صفوفها بعضًا من أفضل القوى الثورية الراضية بموقع الذيل لرأس يميني.
إيماني عميق بالقدرة المبهرة لحركة الجماهير من أسفل على أن تجترح المعجزات وتعيد رسم المشهد. لكن هذه المرة الأمر صعب. فماذا يمكننا أن نتوقع من حركة، مهما كانت دوافعها اقتصادية-طبقية، إذا كانت قيادتها تدفعها على طريق التحالف مع الجيش والشرطة وأي رجعي مستغل، بشرط أن يكون مدنيًا، أيًا ما كان معنى هذه الكلمة التي ساءت سمعتها إلى حد يثير الرثاء؟ ماذا يمكننا أن نتوقع من حركة، مهما كانت دوافعها اقتصادية-طبقية، إذا كانت تولد على خلفية هجمة رجعية وشحن طائفي لا نهاية لهما؟
الغائب الأكبر في المشهد، دعونا نعترف، هو التمثيل النقابي أو السياسي للطبقات الكادحة. فلو كانت لدى الطبقات العاملة نقابات قوية، لو كانت لها أحزاب مؤثرة، بل حتى لو كانت للقوى الديمقراطية الجذرية ذات البرامج الاجتماعية التقدمية أحزاب مؤثرة، لكان من الممكن توقع أن تلعب هذه المؤسسات النقابية أو السياسية أدوارًا في توجيه مسار الصراع في اتجاه مضاد للهوياتية ومصمم على طرح المطالب الاجتماعية بوصفها جزءًا لا يتجزأ من معركة المجال السياسي.
لكن الساحة متروكة لقيادات وسطية أسست في نوفمبر الماضي حلفًا تاريخيًا مع اليمين، وداعبت من يومها، وحتى الآن، الجيش والشرطة والرأسمالية الكبيرة وخطبت ودهم بدعوى عدم شق الصف المتحد ضد الإخوان!! الساحة متروكة لتأثيرات رجعية برجوازية صغيرة تهمش حركة الطبقات العاملة وتدفع مسار الأحداث في اتجاهات تدميرية لا أفق لها إلا تعميق الانقسام الخطأ.
حلف جديد
ورغم ذلك، فأنا لست متشائمًا إلى النهاية، بل لست متشائمًا أبدًا على المدى الطويل. وفي هذا السياق، فإن احتفائي بالامكانيات الطبقية الواضحة في حركة 30 يونيو يدعوني إلى التشديد على السعي لتوسيع وتعميق تلك الإمكانيات. إن كان هناك من مكسب يمكن الخروج به من 30 يونيو – إن كان – فسيكون تلاحم القوى الثورية المدركة لما أطرحه من مخاطر وإمكانيات مع الحركة في أكثر أبعادها ومواقعها الطبقية وضوحًا، والسعي إلى بلورتها وتسييسها ودفعها إلى التعبير عن نفسها ككيان مستقل يرفض أن يتذيل مشاريع الوسطيين الذين لا يتوقفون عن الانحراف إلى اليمين، إلى حد دعوة بعضهم الجيش لأن يكون حاميًا وضامنًا ورمانة ميزان، وكأنما يطلبون من الدولة القديمة أن تحميهم من تغوّل من يحب تلك الدولة مثلهم ويقدس سياساتها مثلهم.
العملية الضرورية لبناء حلف تاريخي مضاد للطبقة السياسية السائدة وللدولة القديمة ينبغي أن تبدأ فورًا. فهل يكون 30 يونيو هو يوم الميلاد؟
[ينشر هذا المقال بالإتفاق والتعاون بين جدلية و"مدی مصر".]